جواهرُ العمرِ: أحمد، محمود ونعيم

(وفاءً لذكرى الرّاحلين: أحمد الحاج، محمود قبّاني ونعيم شحادة)

ينفرطُ العقدُ، في تشرينِ الثّاني، فتتساقطُ الجواهرُ، كما تتساقطُ أوراقُ التّينِ والعنبِ والرّمانِ، على الأرضِ الّتي احتضنتْها، غذّتْها، نمّتْها ولوّنَتْها، تتناثرُ فوقَ ترابِ الوطنِ جوهرةً فزمرّدةً فياقوتةً. كنّا قد ادّخرنا هذه الجواهرَ في خزينةِ ذاكرةِ المجتمعِ، وقلبِ الشّعبِ، وتحتَ أجفانِ الضّميرِ لليومِ الأسودِ، فنستنيرُ ببريقِ نورِها حينَ يدلهمُّ اللّيلُ، ويسودُ العتمُ، وتعمُّ الخشيةُ مِنَ التّعثّرِ في ثنايا الطّريقِ، فنعودُ إلى الحارثِ بنِ سعيدٍ، أبي فراسِ الحمدانيِّ، ليسعفَنا في التّعبيرِ عنْ أنفسِنا:

سيذكرُني قومي إذا جَدَّ جِدُّهم      وفي اللّيلةِ الظّلماءِ يُفتقدُ البدرُ

أهلي، أصدقائي وأحبّتي، حينَ خطفَ الموتُ روحَ والدي أبي نزار لم أستطعِ الكتابةَ، رغمَ مرورِ أحدَ عشرَ يومًا على الفقدانِ، واستصعبْتُ أنْ أكتبَ عنِ الصّديقِ المحمودِ، قبلَ أنْ أَرثيَ والدي، فإذا بنعيمٍ يتمدّدُ أمامَنا في النّعشِ، ويصيحُ بالشّبابِ: ارفعوني على أكتافِكم، وشيّعوني، لقد سبقني أخي الكبيرُ أحمدُ، وأخي الصّغيرُ محمودٌ، والقَدَرُ ينتظرُ، ولم أعُدْ أقوى على الانتظارِ، أخجلُ مِنْ إخوتي الّذينَ أحبُّهم، فلا أريدُ أن أبقى وحيدًا بعدَهم، كما بقيَ عمرو بنُ معد يكرب:

كمْ مِنْ أخٍ ليَ صالحٍ                       بَوّأتُهُ بيديَّ لَحْدا

ذهبَ الّذينَ أُحِبُّهم           وبَقيتُ مثلَ السّيفِ فَردا

هلْ يتّسعُ التّأبينُ لوصفِ أعمالِكم وصفاتِكم وأفضالِكم، وهلْ يحتملُ المقامُ سردَ سيرَتِكم وأفعالِكم وآثارِكم، وهلْ يتمكّنُ القلبُ المكسورُ من رفعِ هذهِ الأحمالِ، وكلُّ واحدٍ فيكم كتابٌ مفتوحٌ لمْ يكتملْ بعدُ؟! سنستعينُ بصفحاتِ الكتبِ لإنجازِ المَهامِّ المرجوّةِ، لكنَّنا الآنَ مُنغمسونَ في حزنِنا الجماعيِّ الثّقيلِ، في أواخرِ تشرينَ الّذي يأبى إلّا أنْ نتّشحَ بالسّوادِ لنغطيَ أوراقَ التّينِ المتناثرةِ على وجوهِنا، فكلُّ موسمٍ يتركُ بقاياهُ فينا ويمضي إلى وُجهَتِهِ، بعدَ أنْ يتأكّدَ من أنّنا لم نعدْ كما كُنّا.

في هذه الأجواءِ، أكتفي بالبكاءِ على الرّاحلينَ: أحمد نايف الحاج، محمود محمّد قبّاني ونعيم ميخائيل شحادة، الّذينَ يُشكّلونَ واسطةَ العِقْدِ الّذي انفرطَ وهم يقاومونَ رياحَ الخريفِ الصّفراءَ كليمونةٍ جافّةٍ ذابلةٍ. لم ينكسرْ هؤلاءِ الأحبّةُ، ظلّوا واقفينَ كأشجارِنا في الخريفِ، تتعرّى من ملابِسِها ومِنْ شَحمِها ولحمِها وتواجهُ “تكاليفَ الحياةِ”، دونَ أنْ “تسأمَ”، لقد رحلوا عن دُنيانا منتصبي القامةِ، مرفوعي الهامةِ.

في هذه الأيّامِ نبكي جماعةً على أحبّتِنا، ففي كلِّ حيٍّ مأتمٌ، تتدفّقُ الدّموعُ في طرقاتِ البيادرِ، تنسابُ على خدودِ البلدِ، وتتابعُ جريانَها في وديانِ الجليلِ، وفي جداولِهِ، وفي مجاريهِ، تختلطُ في مياهِ المطرِ الّذي انتظرناهُ، لتعودَ شمسُ بلادِنا لتنشرَ شعاعَها الدّافئَ ليبخّرَ هذا الماءَ ممزوجًا بدموعِنا على أحبّتِنا، فيَصيرُ ماءً يَحملُ بعضَ أحزانِنا يروي ثرى الأحبّةِ في مثواهم الأخيرِ، ينزلُ عليهم باكيًا مُثقلًا بأحزانِنا.

تبكيكم عائلةُ كفرياسيف الواحدةُ، مِنْ “شارع يركا” و”وعرة الخطيب” و”الشُّخْتْبَة” إلى “دار الغربيّة”، ومِنِ “البيادرِ” إلى “صنيبعة”، ومِنَ “الميدان” إلى “شارع العين” و”الخلّات”، تبكيكم عائلةُ الأصدقاءِ الواسعةِ منْ أنحاءِ الجليلِ، منَ “المثلّثِ الشّماليِّ والجنوبيِّ”، ومنَ الثّابتينَ على رمالِ “النّقبِ”. ونحنُ نَعدُكم، أنْ نبقى كما أوصيتمونا، عائلةً واحدةً متحابّةً متكاتفةً.

يا عزَّنا يا أحمدُ، يا روحَنا يا محمودُ، يا كبرياءَنا يا نعيمُ، عزاؤُنا بأبنائِكم وأحفادِكم، بإرثِكم الطّيّبِ الّذي سينيرُ أمامَنا الطّريقَ كيلا نتعثّرَ، بما قمتم بِهِ لبلدِكم ووطنِكم وشعبِكم وإنسانيّتِكم، بما مثّلتموه في حياتِكم وسيبقى ماثلًا أمامَنا رغمَ رحيلِكم أيُّها الباقونَ فينا، غصبًا عن تعاقبِ الخريفِ.

الباقي على الوفاءِ لذكراكم العَطِرة

إياد أحمد الحاجّ

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .