هل كانت فلسطين السبب بالإطاحة برئيس الأساقفة

لم أكن أعلم، عندما كتبت مقالتي في الخامس من أيلول/سبتمبر الماضي “هل سيصبح رئيس أساقفة كنتربري حليف الحق الفلسطيني؟” أن نهاية خدمته ستأتي بهذه السرعة؛ وأنه سيضطر الى الاستقالة من منصبه، كما فعل قبل عشرة أيام. لقد دعا جاستن ويلبي في بيان أصدره مطلع شهر أغسطس الماضي الى ضرورة انهاء الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية مضيفًا أنه “في الوقت الذي يشهد فيه العالم مزيدا من الانتهاكات للقانون الدولي، يجب على الحكومات في جميع انحاء العالم أن تؤكد التزامها القوي بجميع القرارات الصادرة عن محكمة العدل الدولية، لا سيما أن الالتزام بهذا القانون أصبح موضع تساؤل بالنسبة لبعض الدول”. رأى المراقبون أن تصريحات الزعيم الروحي للكنيسة الأنجليكانية التي يتبعها زهاء 85 مليون شخص في العالم، تشكّل منعطفا لافتا في مواقف هذه الكنيسة ازاء الصراع الاسرائيلي – الفلسطيني، التي طالما اتخذ رؤساؤها الروحيون مواقف موالية للسياسة الاسرائيلية ومتناسقة مع سياسات الحكومات البريطانية المنحازة لإسرائيل دومًا. لقد أخاف بيان رئيس الأساقفة ويلبي مهندسي السياسة الاسرائيلية الاحتلالية وحلفاء اسرائيل في العالم، واعتبروه مؤشرا خطيرا، خاصة لتزامن نشر اعلانه مع نشر تصريحات أطلقها  قداسة البابا فرنسيس من مقره في الفاتيكان ودعا فيها الى وقف الحرب على غزة وأن لا تتوقف المفاوضات لوقف النار وأن يعمّ السلام الأرض المقدسة ولتكن القدس مدينة يعيش فيها المسيحيون واليهود والمسلمون باحترام.

لم يتأخر رد المدافعين عن إسرائيل على تصريحات ويلبي. فبعد انتشار أصداء بيانه تعرض لحملة انتقادات واسعة ومسعورة، شاركت فيها عدة منظمات تطلق على نفسها في بريطانيا اسم “المسيحيون الصهيونيون” ومعهم شخصيات يهودية عديدة، برز من بينها رئيس حاخامات جنوب افريقيا الذي انتقد موقف ويلبي وموقف قداسة البابا فرنسيس متهما كليهما “بالفشل بالدفاع عن القيم الغربية والتوراتية والتنازل عن إسرائيل وافريقيا واوروبا للجهاديين”.

لم يرتدع رئيس الأساقفة ولم يتراجع أمام تلك الانتقادات؛ بل أعلن أنه ينوي زيارة الأراضي الفلسطينية ضمن متابعة مشروع يحمل اسم “المصالحة” تقوم على رعايته الكنيسة الانجليكانية في عدة مناطق في العالم وبضمنها منطقتنا. حُدّد موعد الزيارة للأسبوع الثاني من الشهر الجاري؛ وأعدّ طاقم الكنيسة ومساعدوه برنامجها وحرصوا أن يكون كلّه بنكهة فلسطينية خالصة. تضمّن البرنامج دعوة بضعة أشخاص للقائه مساء الأحد 17/11 على وجبة عشاء يليها نقاش مفتوح معه حول “طاولة مستديرة” في مقر الكنيسة في القدس الشرقية؛

وكنت أحد المدعوين. انتظرت اللقاء بحماس وبفرح لقناعتي بأهميته وبضرورة مساندة مواقف نيافته، ودعمه في المواجهة التي يخوضها مع بعض العناصر من داخل كنيسته ورعاتهم القائمين على “شبكات التخطيط للسيطرة على العالم” غير الراضين عن مواقفه المعلنة لدعم فلسطين. كادت فرحتنا في صباح يوم الثلاثاء 12/11 تتبخر عندما قرأنا في  الصحافة ومواقع الاخبار خبرا يفيد بأن جاستين ويلبي قد أعلن استقالته.

صدمني الخبر؛ وصعقت عندما قرأت خلفياته وتداعيات القصة التي سبقته وتفاصيلها الغريبة.

ففي صباح يوم الخميس الموافق 7/11 نُشر في الصحافة البريطانية تقرير أعدّته لجنة خاصة قامت بناءً “على طلب الكنيسة ” بفحص اذا قام رؤساء الكنيسة وبضمنهم ويلبي بالتستر على مخالفات جنائية اتهم بتنفيذها مواطن يدعى جون سميث كان يعمل متطوعا في ثمانينيات القرن الماضي كمرشد في مخيمات للشباب تقيمها الكنيسة في بريطانيا وجنوب أفريقيا وزيمبابوي. اشتبه بهذا الشخص بأنه كان يتحرش جنسيا ويعتدي على الأطفال المشاركين في تلك المخيمات .

لقد استلم جاستين ويلبي منصبه كرئيس أساقفة في سنة 2013 ، ومارس عمله من دون أن  “تتحرش” بسمعته أو تشكك بشرعيته أية جهة كنسية أو غيرها. في سنة  2017 قامت احدى شبكات التلفزيون البريطانية بنشر تقرير موسع تناولت فيه التهم الموجهة لجون سميث ودور رجالات الكنيسة ومسؤوليتهم خلال تلك السنوات. وقد أعلن في أعقاب التقرير بأن الشرطة البريطانية قامت بفتح ملف وباشرت التحقيق الذي كان من المفترض أن يتمحور حول المتهم جون سميث، إلّا أن وفاته في سنة 2018 أدت إلى اغلاق الملف. مضت ستة أعوام ولم تُثَر هذه القضية من قبل أية جهة، إلى أن حصل ما حصل مؤخرا.

لم أقرأ تقرير لجنة التحقيق؛ لكنني قرأت في الصحافة أن معدّيه كتبوا أن ويلبي لم يقم سنة 2013 بواجبه بتبليغ الشرطة عن جون سميث، وهو بذلك تستّر على الفاعل. لم ولن أقرأ التقرير ولا ردّ ويلبي على هذه “التهمة”، وقد يكون في الامر مكان لخطأ. المسألة الأهم برأيي، وفقا لجميع التداعيات، هي من كان وراء هذا التقرير وماذا كانت أهدافهم ؛ فالقرائن، كما نقول في لغة القانون، والملابسات والبراهين الظرفية والمعطيات ترجح كلها أن هدف المبادرين لاعداد التقرير ونشره في هذا الوقت بالذات، لم يكن سعيهم وراء العدل والحقيقة، بل خلق الظرف الذي سيرغم ويلبي على الاستقالة والتخلص من “صحوة ضميره السياسي” وتأثيره الجائز على مواقف احدى الكنائس العريقة المعروفة بدعمها الأعمى لاسرائيل مهما فعلت، لأنها بالنسبة لهذه الكنيسة كانت “فوق الخطيئة”.

وهكذا كان ؛ فبعد نشر التقرير مباشرة بدأت جوقات معارضي ويلبي وفرق الضغط السريع وداعمو اسرائيل بمطالبته بالاستقالة. تعاظمت أصواتهم وأحدثت إضطرابا داخل الكنيسة حتى فهم أنه لن يصمد أمام تلك الهجمة، فقدّم استقالته “بحزن” كما كتب وأكّد انها “توضح لأي مدى الكنيسة الانجليكانية بحاجة الى التغيير والالتزام بخلق كنيسة آمنة”.

استقال لكنه لم يرتدع اذ فاجأنا عندما أعلن مكتبه أن زيارته لفلسطين ما زالت قائمة وأن لقاءنا معه قائم.

واجه البابا فرنسيس في شهر اغسطس، كما واجه جاستن ويلبي حملة انتقادات واسعة ومكثفة، لكنه لم يتراجع ولم يرتدع،  بل على العكس رأيناه يستبدل لهجته الحريرية المألوفة في خطبه “المتوازنة” بلغة أكثر وضوحا وصرامة تجاه ما تقوم به اسرائيل ضد الفلسطينيين؛ اذ أعلن مؤخرًا أن بعض الخبراء الدوليين يعتقدون “أن ما يحدث في غزة فيه خصائص الابادة الجماعية ” وأنه “يجب ان نحقق بعناية لتقييم ما اذا كان هذا يتناسب مع تعريف الابادة الجماعية الذي صاغه خبراء القانون والمنظمات الدولية”.  لغة حادة وشبهات خطيره لم ترُق لاسرائيل ولا لمعسكرها. لغة يخشون منها لأنهم يعرفون أن ما يقوله البابا سيسمعه مليار وربع المليار من البشر؛ يؤمن الكثيرون منهم  أن “الحق والقول كما يقول البابا”.

في الخلاصة، زار ويلبي فلسطين والتقى مع العديدين من ابنائها في بيت لحم ورام الله والقدس والناصرة. رأى وسمع وتوجع وصدم من فظاعة الجريمة.

لن أتحدث عن تفاصيل اللقاء معه، من باب احترام البروتوكول وطبيعة اللقاء الذي كان خاصا وصريحا وآسرا. كان النقاش بيننا مثيرا وصادقا واجهه هو بصراحة وبمسؤولية “مسيحية صادقة” تثبت أن ليس كل المسيحيين “صليبيين”، كما يعتقد الجهال ويدّعي بعض المغالطين والمغرضين.

لا أعرف كيف سيتعامل جاستين ويلبي مع ثمار زيارته لفلسطين؛ فهو سيعود لكنيسة غير مستقرة وفيها تشتد الخلافات والمكائد؛ وسيواجه عاصفة ضده يدّعي مثيروها انه كان من المفروض أن يلغي زيارته ولا يزور فلسطين. لسنا متأكدين ما هي هوامش تحركه وتأثيره في المستقبل، لكنني راجعت تصريحه السابق الذي أقام الدنيا عليه وطالب بنهايته بضرورة انهاء الاحتلال فهذه ضرورة ” قانونية واخلاقية” على حد تعبيره، وخلصت الى نتيجة مفادها انه لن يتراجع عن مواقفه، لأن ما سمعته في لقائي معه كان أوضح وأدق وأعدل، وحمل رؤية ثاقبة لطبيعة “اسرائيل الجديدة”  التي لم تعد تلك الاسرائيل الضحية الأثيرة.

اننا نشهد، رغم طغيان الظلم والنفاق والمصلحة، “بواكير مسيحية” واعدة وأصواتا تحمل الأمل؛ نتمنى أن تكبر وتنضج أكثر؛  ففي النهاية ما كان المسيح الا ابن فلسطين، زارع المحبة والتسامح والعدل، وفادي أهلها ومخلص شعبها ، كما جاء في الكتب !

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .