حكت لي سجى في زيارة ما بعد منتصف ليليّة وقد افترشتُ وإيّاها كومة ركام:
“إنّها رأت وجه أبيها الجريح في بدر حزيران، وما أن رأته حتى وقف الدمع في عينيها، فقررتْ ألا تبقى يتيمة الأب وسيكون القمر من هذا اليوم ولاحقا أباها، وتماما كما كانت تنتظر عودة أبيها من غيبته التي لا تعرف سرّها ستنتظر القمر من غيبته التي لا تعرف سرّها.”
وبعد صمت تابعت: “لن أبقى كذلك يتيمة الأمّ، فمنذ اليوم أمّي الشمس فليست حرارتها أشدّ من حرارة قلب أمّي ولا نورُها أبهى، ولن أبقى ثاكلا فالزُّهرة وسُهيل أخواي.”
وأضافت: “هكذا لن أبقى وحيدة، فعائلتي ستكون دائما معي ليل نهار، وحين يغيب أحدها سيكون آخر معي، وصحيح أنّني لن أستطيع بعد اليوم ضمّهم بذراعيّ لكن سيكفيني أن أضمهم بعيني.”
عانى الأنبوبُ الخارقُ جدار بيت سجى وصديقُه القديم، في الأيّام الأخيرة عناء شديدا لشحّ في بطنه، وليس لحرارة شمس حزيران فهذه مقدور عليها، وإنما من نيران مزّقت حناياه.
كانت سجى عائدة شرقًا حاثة خطاها بعد أن عجزت أقدامها عن الركض، تضمّ إلى صدرها قارورة ماء ينتظرها جفافُ فم قمرها الجريح وشمسُها التي قاربت مقاومتُها الانطفاءَ النهايةَ ونجماها الباكيان المُنطفِآ اللألاء، عادت والعرق يرسم على وجهها خطوطًا متعرجة مثلما أراد لها أن تُرسم، لم تستطع رغم الجهد الكبير الذي كانت تبذله أن تتخطى السيل البشرّي المتدفق رهوا غربا فحمَلها معه بعد أن عجزت عن مقاومته.
ظلّت القارورة في يدي سجى ملأى أيّاما إلى أن عادت بها إلى حيث كانت يجب أن تعود، ويًحكى أن مسعفًا قصّ على الأطباء في المشفى والبكاء يخنق حنجرته، أنّه التقطها وهي تجلس على كومة ركام بيت في “الشجاعيّة” تسكب ماء من قارورة على قمّة كومة ركام، ولم تقبل أن ترافقه إلا بعد أن تأكّدت أنّ آخر قطرة فارقت القارورة.