-1-
أشرنا في المساق السابق إلى ما نُسِب إلى (مُجاهِد بن جَبْر بن عبدالله التغلبي، -104هـ= 722م) في تفسير معنى (الرَّهْو)، في قوله تعالى: «فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ؛ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُم مُتَّبَعُونَ، وَاتْرُكِ البَحْرَ رَهْوًا؛ إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ.»(1) إذ قال، كما قال غيره: إنَّ معنى رهوًا: يَبَسًا، قياسًا على آيةٍ أخرى، في (سُورة طه: 77): «فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا.» (2) وقلنا: إنَّ هذا بضِدِّ المعنى الدقيق للكلمة؛ مع أنَّ «يَبَسًا» في آية (طه) إنَّما تعنى لا ماء فيه، كما تقول: «بئر يابسة»، أي لا ماء فيها كالمعتاد، لكن ذلك لا ينفي بالمطلق وجود بعض الماء فيها أو النَّدَى. وأضافوا في تفسير معنى «رَهْوًا»: ساكنًا، وهذا لا معنى له هاهنا. وقالوا: واسعًا. وقالوا: قائمًا ماؤه. وقالوا: سهلًا دمثًا… إلخ. وهكذا تلحظ إبعاد المفسِّرين في الفهم والتفسير. وهي، كما ترى، أشبه بالتخمينات، منها بالتفسيرات؛ لأنَّ القوم لا يعرفون أصلًا معنى المادَّة (رَهْو)، على حقيقته في العَرَبيَّة، وفي مثل هذا السياق تحديدًا، وإنَّما ينقلون، ويقارنون، ويروون، وتتضارب عليهم المعاني والروايات، فيَخلُصون إلى تفسيرات شتَّى، وكأنَّ «القرآن» لم ينزل بلسانٍ عَرَبيٍّ مبين. وهو قد نزل كذلك، وكثيرٌ من مفرداته ما برحت حيَّة على ألسنة الناس في اللهجات العَرَبيَّة إلى اليوم؛ غير أنَّ معظم هؤلاء الذين فسَّروا لنا أعاجم؛ فجاء عملهم أشبه بالترجمة عن لُغة أجنبيَّة. بل إنَّ المترجِم لا يحار تلك الحيرة، إذا كان يعلم اللُّغة المترجِم عنها جيِّدًا.
والأَوْجَه- في ضوء بعض العَرَبيَّة الحيَّة من خلال اللهجات التي ما زالت تَستعمل هذه المفردة (رَهْو)- أنَّ معنى الآية: واتْرُك ثرَى البحر مُبْتَلًّا: أي: اتْرُكْه لا ماء فيه إلَّا بمقدار الرَّهْوَة، وهي: الطَلُّ، والنَّدَى، والبَلَل اليسير. والكلمة مستعملةً في لهجات (فَيْفاء)، مثلًا، بهذا المعنى إلى الآن، وربما في لهجات أخرى. فقوله: اتْرُك البحر رَهْوًا، أي نَدِيًّا، لكي يَغترَّ بذلك فرعونُ وجنوده، فإذا هم يغرقون في ما كان في نظر العَين رَهْوًا، أو رَهْوَةً، أي بَلَلًا، كأيسر ما يكون! على أن معجمات العَرَبيَّة نفسها قد خاضت المخاض نفسه؛ لأنها تتكئ على جمعٍ لُغويٍّ ناقص، أُهمِل فيه كثير ممَّا أشار (أبو عمرو ابن العلاء) إلى أنَّه ما انتهى إلينا منه إلَّا أقلّه. ولن تعدم في اللهجات العَرَبيَّة الحديثة بعض ما ضيَّعه اللُّغويُّون وأهملته مدوَّناتهم. وأَشْبَه ما نجده في كتب العَرَبيَّة بالمقصود قولهم: الرَّهْوُ: المَطَر الساكن. وقولهم: اتْرُكِ البحْرَ رَهْوًا؛ يعني: تَفَرُّق الماء منه. وقيل: رَهْوًا أَي دَمِثًا. وما عداه ضربٌ من التخمين، لا من التفسير.
أمَّا قول مجاهد بأن معنى (الحُور العِين): «أَنْكَحْناهُمْ حُورًا عِيْنًا يَحارُ فيها الطَّرْفُ»(3)، فيبدو أيضًا عن عدم معرفةٍ بمعنى (الحُور العِين)، عند العَرَب، وإنَّما هو يربط بين (الحُور) و(الحَيرة)، و(العِين) و(طَرْف الناظر بعينه إلى جمالهن)! وكأنَّ معنى «الحُور العِين»: اللَّائي يحار فيهن الناظر، لا على أنَّ ذلكما نعتان لعَينَي المرأة، بصفتَي (الحَوَر) و(العَيَن). والقائل بهذا كذلك لا يرجع إلى شواهد العَرَبيَّة، بل ينطلق من فرضيَّات وروايات وخواطِر فرديَّة، تضرب أخماسًا بأسداس.
وكُنَّا قبلئذٍ قد رأينا ترنُّح المفسِّرين في فهم كلمة (جَدٍّ)، في الآية «وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا»، وتقاطرهم مردِّدين القول: إنَّه «عُنِي بذلك الجَدُّ، الذي هو أبو الأب، وقالوا : ذلك كان جَهْلَةً من كلام الجِنِّ»! والحقُّ: إنَّ هذا القول كان جَهْلَةً من جَهَلَة الإنس بالعَرَبيَّة التي جاء بها «القرآن»، ولا علاقة للجِنِّ المفترَى عليهم بالموضوع من قريبٍ ولا بَعيد. أولئك الإنس من متعاطي التفسير، في القرن الثالث الهجري أو الثامن الهجري، وهم لم يسمعوا كلام العَرَب، كما يشهد عليهم كلامهم، وقلَّما كلَّفوا أنفسهم بالعودة إليه حينما يتصدَّون لفهم ما تصدَّروا له من تفسير نصِّ «القرآن الكريم»، الذي جاء بلسانٍ عَرَبيٍّ مُبين، لا بلسان الجِنِّ والشياطين. لم يسمعوا مثلًا، في ما لم يسمعوا، قول الشاعرة الجاهليَّة (سُعْدَى بنت الشَّمَرْدَل الجُهَنِيَّة)(4)- لا الجِنِّيـَّة!- وهي تُنشِد في رثاء أخيها (أسعد)، الذي قتلتْه (بَهْزٌ، من بني سُليم بن منصور):
ذَهَبَــتْ بِـهِ بَهْـزٌ فَأَصـْبَحَ (جَـدُّها) ::: يَعْلُو وَأَصْبَحَ (جَـدُّ) قَـوْمِيَ يَخْشـَعُ
ولعلَّ في هذا، وفي ما تقدَّم من هذا السياق، ما يُغني عن تتبُّع نظائره من التفسيرات، أو قل: من التخمينات.
-2-
وفي مقابل هذا يُصدَم العَرَبيُّ بتنطُّعات لُغويَّة جديدة قديمة، وسلفيَّات تافهة، تسعى إلى تجميد اللُّغة في ثلَّاجة ما نطقَ به بعض القدماء، قبل ما يربو على ثلاثة عشر قرنًا، إبَّان ما سُمِّي بعصور الاحتجاج، مع جهلٍ بلسان تلك العصور أصلًا. من شواهد هذا أن قد تسمع تفيهق هؤلاء حتى في قراءة «القرآن» بطرائق مبالغ فيها من القلقة والإقلاب، ونحوهما مما لا أحسب إنسانًا عَرَبيًّا سَوِيًّا نطق بمثله قط، لا في تجويد «القرآن» ولا في غيره. وتلحظ ذلك لدَى الإخوة الأزهريِّين بخاصَّة، حتى أصبح هذا مجال تندُّرٍ في السينما المِصْريَّة، منذ (إسماعيل ياسين)، وغيره. ولقد وصفَ لنا أمثالَ أولئك (طه حسين) في سيرته «الأيَّام»، ممَّن يفتنهم التشدُّق، وتفخيم الكلام، ونفخ الأوداج به حين ينطقون، وكأنَّ أحدهم نُفَساء ساعة مخاضها المتعسِّر. مشوِّهين لغتنا الجميلة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ظانِّين أنَّ تلك هي لغة العَرَب الفصحاء، لا لغة العامَّة والدَّهماء، فإذا هم يُغالون في المدِّ، والغن، والإخفاء، والإدغام، والقلقلة، والإقلاب، بصُوَرٍ عجيبة. ولعَمري ما ذلك الزُّحَّار المتكلَّف لديهم بلُغة العَرَب، ولا العجم، ولا الإنس، ولا الجان. هذا فضلًا عن ارتجالهم التفسير ارتجالًا، كذلك الشيخ الذي سُئل عن الآية «وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا»، فأجاب باطمئنان: أي خلقكم كالثِّيران، لا تعقلون شيئًا! وليست تلك بظاهرة منقرضة- سادت أيَّام الجيل الذي صوَّر بعض نماذجه طه حسين(5)- بل ما زال بعضهم بيننا، تسمعهم في أحفاد أولئك السَّلَف وأسباطهم ونظرائهم. حتى لقد قدَّم أحدهم مؤخَّرًا قراءة جيِّدة لكتابٍ تراثيٍّ في اللُّغة والأدب، نشرها على موقع «يوتيوب»، لولا أنه ظلَّ في قراءته يُضحِك الثكلَى، بطريقته المتكلَّفة، التي لا تفرِّق بين تجويد «القرآن» وغيره من النصوص، حتى إنَّه ليكسِّر الأوزان الشِّعريَّة تكسيرًا بتلك التلاوات التجويديَّة، بما فيها من القلقة والإقلاب؛ لأنه لا يعي أنَّ تلك المواريث المبتدعة في القراءة، إذ تشوِّه النصَّ القرآنيَّ نفسه أحيانًا، لا يصحُّ تطبيقها على الشِّعر بحالٍ من الأحوال. والكُتب المسموعة اليوم- مع كونها خدمة ثقافية رائعة- لا تنجو من تطفُّل طائفتين من القرَّاء: قارئ جاهل، يكاد لا يُحسِن قراءة جملةٍ واحدةٍ بلا ارتكاب فواحش نحويَّة ولُغويَّة، تجد معها عَرَبيَّة (اللِّمبي)، في فيلم «اللِّمبي في الجاهليَّة»، خيرًا من عَرَبيَّته! ولا تدري ما دافع أمثال هؤلاء الأُميِّين لتقديم قراءات شوهاء لكُتب التراث؟! وطائفة مقابلة، تشوِّه اللُّغة أيضًا بقراءتها، التي لا تدري كيف تصف تكلُّفها في النُّطق والتفخيم والتشدُّق والتَّفَيْهُق. مع أنَّ أبناء هذه الطائفة الأخيرة، غالبًا، لا يجهلون الحديث النبوي: «أبْعَدُكُم منِّي مجالِسَ يومَ القِيامةِ الثَّرثارونَ المُتَفَيْهِقون.»
يحدُث هذا وذاك على الرغم من أنَّ الأصل في اللُّغة أنها وسيلة تعبير، وهي كائنٌ اجتماعيٌّ حيٌّ، ينمو بحياة الإنسان ويتطوَّر بتطوُّرها. خذ، على سبيل الشاهد، ما راج ويروج من تشنيعٍ على من يستعمل صفة «يتيم» لمن فَقَدَ أُمَّه، وتقريع مَن قال ذلك، والزعم أنَّه لا يوصف باليُتم من فَقَدَ أُمَّه، وإنَّما ذلك في عالم البهائم! قائلين: اليتيم: مَن فَقَدَ أباه فقط، وأمَّا مَن فَقَدَ أُمَّه، فهو العَجِيُّ، أو المنقطع، ومَن فَقَدَ الأبَ والأُمَّ: اللَّطيم! وكأنَّ هذه الكلمات المعجميَّة مقدَّسة، أو أنزلها الله في كتابه، وأمر بعدم تغييرها، وتعبَّدنا بالتمسُّك بها! على حين أنَّها لا تعدو صفات، جاءت لتصوِّر واقع الحال قديمًا، والحال متغيِّرة. فلقد كان الأبُ قديمًا هو الراعي؛ فإذا فُقِد تيتَّمت الأُسرة جميعًا. وما كانت كذلك الأُمُّ؛ لحال المرأة عمومًا في تلك الأزمنة. وهذا واقعٌ قد تغيَّر اليوم. بل إنه لم يكن واقعًا شاملًا لجميع الأزمنة والبيئات والظروف في الماضي نفسه. ومعنى كلمة (يتيم)، في الأصل: المفرَد، الخالي من مُعِينٍ ونَصير. هذا هو الأصل؛ فمن انفرد عمَّن يَعُوْلُه ويَعتمد عليه، فهو يتيمٌ لُغةً، حقيقةً أو مجازًا. حتى لقد نُسِب إلى (علي بن أبي طالب) البيت:
لَيْسَ اليَتِيمُ الَّذِي قَدْ ماتَ والِدُهُ ::: إِنَّ اليَـتِـيمَ يَتِـيمُ العِلْمِ والأَدَبِ
وبالحريِّ القول: إِنَّ اليَتِيمَ يَتِيمُ الأُمِّ والأبِ، معًا أو يَتِيمُ أحدهما. على أنَّ الرعاية للإنسان ليست ماليَّة مادِّيَّة فحسب، بل هي نفسيَّة، قبل ذلك وبعده. والطِّفل في كثيرٍ من الحالات عالةٌ على أُمِّه لا على أبيه، ماديًّا ومعنويًّا. أفإنْ وُصِف الطِّفل بأنَّه يَتِيمٌ لفَقْد أُمِّه، عُدَّ ذلك منكَرًا من القول وزورًا؟! أيُّ عمًى بعد هذا، أو جمود لُغوي، أو تعطيل لطاقات التعبير. وما وُصِف الحيوان الفاقدُ أُمَّه بصفةٍ خاصَّةٍ (يتيم) إلَّا لأنَّ اعتماده على أُمِّه لا على أبيه. وما كذلك الإنسان. بل الأصل في الإنسان أنه يعتمد على الاثنين؛ من حيث هو يعيش في أُسرة لا في غابة، فإذا فَقَدَ أحد مؤسِّسَيها، أُفْرِدَ، وتَيَتَّمَ. ولذلك جرى العُرف الاجتماعي في التعبير بخلاف محفوظ اللُّغة في بعض كتبها التراثيَّة، فصار يوصف باليُتْم مَن فَقَدَ أباه أو أُمَّه أو كليهما، وما عاد ثمَّةَ اليوم من عَجِيٍّ، ولا لَطيم، والعياذ بالله!
ثمَّ إليك ما يقوله أحد الأعراب القدماء جِدًّا- وهو من الذين يتمسَّك المتنطِّعون بلُغتهم، التي عبَّرت عن زمانهم وظروفهم، حَذْوَ القُذَّة بالقُذَّة- وهو (حُمَيْدُ بن ثَوْرٍ الهِلالي، -30هـ= 650م)(6)، والرَّجُل يُعَدُّ صحابيًّا، وهو شاعرٌ مُخَضْرَمٌ، لكنه، مع الأسف، لا يُحسِن العَرَبيَّة السليمة، بمقاييس أولئك المتفيهقة، إذ يقول:
يَظَــلُّ بِــهِ فَــرْخُ القَطَـاةِ كَـأَنَّهُ ::: يَتِيمٌ جَفَتْ عَنْـهُ المَراضِيعُ رَاضِعُ
فيُسمِّي مَن فَقَدَ أُمَّه، فجفتْه المرضعات: «يتيمًا»! فيا له من جاهل بالعَرَبيَّة الصحيحة، التي يعتنقها بعض فِراخ القطا من المعاصرين! لِـمَ لم يقل «عَجِيٌّ جَفَتْ…»، مع أنَّ الوزن يستقيم له بذلك؟!
[وللحديث بقايا].أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيفي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سُورة الدُّخان: الآيات 22- 24.
(2) يُنظَر: البخاري، (1981)، صحيح البُخاري، ضبط وتعليق: مصطفى ديب البُغا، (دمشق، بيروت: دار القلم)، 4: 1822.
(3) يُنظَر: م.ن.
(4) يُنظَر: الأصمعي، (1993)، الأصمعيَّات، تحقيق: أحمد محمَّد شاكر وعبد السلام هارون، (القاهرة: دار المعارف)، 103/ 18.
(5) يُنظَر: (1992)، الأيَّام، (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر)، مثلًا: 64، 70، 74، 95، 113، 116.
(6) (2010)، ديوان حُمَيْد بن ثَوْر الهِلالي، تحقيق: محمد شفيق البيطار، (أبو ظبي: هيئة أبي ظبي للثقافة والتراث)، 313/ 2.