جرت انتخابات السلطات المحلية والبلدية باستثناء البلدات الحدودية في الشمال والجنوب، حيث لا يزال سكانها ينزحون بقرار من الدولة. في تاريخ 27/2/2024 والانتخابات المعادة لرؤساء البلديات التي لم تحسم في الجولة الاولي يوم 10/3/2024.
في العادة لا تعكس هذه الانتخابات بالضرورة الحالة السياسية ولا الوزن الحزبي نظرا لتداخل عوامل محلية وجهوية وهوياتية وحمائلية وحتى شخصية في تحديد وجهة نظر الناس. ومع ذلك بالإمكان التوقف عند بعد المظاهر اللافتة أولها الانتخابات في البلدات العربية الفلسطينية في الداخل حيث شهدت تقلبات عديدة تشير الى تراجع نفوذ الاحزاب والحركة السياسية وحصريا القوى الوطنية لصالح قوى اجتماعية محلية مختلفة غير سياسية. وهذا قد يؤثر على هوية المؤسسات الكيانية التمثيلية لهذا الجمهور اذ تشكل السلطات المحلية ورؤسائها مركّبا اساسيا في هذه الهيئات وحصريا، لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية والهيئات المنبثقة عنها، ولجنة رؤساء السلطات المحلية العربية، مما قد ينعكس على الصوت السياسي الجماعي وهوية المؤسسات. خاصة في ظل تحديات تفرضها المؤسسة الاسرائيلية في مساعيها الى تفريغ لجنة المتابعة العليا من دورها ومضمونها. في المقابل تعزز منحى تراجع الحمائلية في الانتخابات البلدية والتي عادة ما تكون على تنافس بين حملولتين مركزيتين وتصطف حول كل منهما عائلات صغيرة، بينما اتسع منحى التصويت وفقا للقدرات والمؤهلات الشخصية للمرشحين بغض النظر عن الانتماءات الاجتماعية وحتى الحزبية. يؤكد جعفر فرح مدير مركز مساواة الحقوقي هذا المنحى “بتراجع الاحزاب والحركة السياسية وتراجع الحمائلية وفقدان الثقة بالسياسة العامة”. بينما وفي ظل سعي منظومة الجريمة المنظمة فرض سيطرتها على الحكم المحلي العربي فقد شهدت الانتخابات تحولا شعبيا نحو السلم الاهلي وجد تعبيرا عنه في التوافق في بعض البلدات على مرشح واحد، او تنازل مرشح لمرشح اخر وتقاسم الرئاسة بالتناوب بدلا من التنافس، وقرار عدد من الرؤساء بعدم الترشح مسبقا، وكذلك منحى انتخاب مرشحين للرئاسة على اساس الكفاءات الشخصية وليس الانتماءات الجهوية، مما قد يعزز النسيج الاجتماعي ويعزز مكانة الفرد ضمن السعي لتعزيز المكانة الجماعية.
اسرائيلياً، كان الصراع الاشد في البلدات ذات الصبغة الدينية اليهودية، حيث ظهر انجاز كبير للاحزاب الدينية الحريدية وخاصة حزب شاس لليهود من اصول مغاربية، وحتى لحزب الصهيونية الدينية (سموتريتش) مقابل اخفاق حزب القوة اليهودية (بن غفير) وفقا لتوقعاته قبل الانتخابات. كما حققت احزاب اقصى اليمين والليكود والحرديم انجازها برئاسة بلدية القدس وهو منحى ثابت في العقدين الاخيرين.
لأول مرة خاضت الانتخابات حركة الاحتجاج على الانقلاب القضائي وتلك الداعية الى تسريع الانتخابات للكنيست وحققت انجازات ملموسة في 26 سلطة بلدية.
المدن الساحلية والمختلطة: شهدت المدن الساحلية والمختلطة وهي عكا وحيفا واللد والرملة وتل ابيب (يافا) وبئر السبع و”نوف هجليل” (بمحاذاة الناصرة واقيمت في الخمسينيات ضمن مخطط تهويد الشمال والجليل بينما بات نحو ربع سكانها عربا فلسطينيين)، اصطفافات سياسية قد تكون هي الاهم من حيث استشراف المستقبل. وقد برز اصطفاف احزاب اليمين من الليكود والصهيونية الدينية والقوة اليهودية وقوى محلية لصالح مرشح معين، مقابل القوى المعنية بالحفاظ على طابع أقرب لليبرالي في هذه المدن، والتي في بعضها خاطبت جهارا الجمهور العربي الفلسطيني وسعت الى كسب تأييده لرئاسة البلدية مقابل اتفاقات ائتلافية محلية، وفي بعضها لم تملك الجرأة على ذلك خوفا من قيام تكتلات اليمين بالتحريض ضدها.
في النتيجة، ومن السمات للتصويت في هذه البلدات باستثناء الرملة فقد اخفق بن غفير وحزبه، واجمالا اخفق الاصطفاف الليكودي اليميني الاكثر عنصرية.
في غالبية هذه المدن سعى رؤساؤها المنتخبين بعد انتخابهم الى ضم ممثلي المجتمع الفلسطيني العربي الى الائتلاف الحاكم على الرغم من حملة التحريض على هذا الجمهور والتي سبقت الانتخابات وحتى المساعي لإخافة الجمهور اليهودي بأن هذا المرشح سوف يتحالف مع العرب او مع هذا الحزب العربي او ذاك، في مسعى لاستمالة المصوتين اليهود. وتشير مينا تسيمح وهي من أبرز علماء الاحصاء واجراء الاستطلاعات الى تعزز ظاهرة الناخب العقلاني واتساع نطاقها في المجتمع الاسرائيلي رغم حالة الحرب والخطاب الدموي التحريضي والشعبوي الناتج عنها. ثم ان نجاح شرائح من حركة الاحتجاج اليهودية هو ايضا مؤشر في هذا الاتجاه.
ان اقامة ائتلاف مع ممثلي الجهور العربي الفلسطيني هو مؤشر الى ان الوجود العربي الفلسطيني التاريخي والمتجدد في المدن الساحلية والمختلطة لا يمكن تجاوزه، بل ان كل من يسعى الى منافسة اليمين الاسرائيلي لا بديل له عن الصوت العربي، كما انه اعتراف بأن قوة التمثيل العربي المنتخب مصدرها في قوة هذا الجمهور ووجوده، وفي بعض الحالات مثل مدينة “نوف هجليل” حيث تم توحيد كل القوى الوطنية العربية فقد حصلت انجازات كبيرة وتضاعف عدد الممثلين وكذلك النفوذ السياسي.
للخلاصة:
باعتقادنا، إن نموذج ما حدث في المدن الساحلية والمختلطة من شأنه ان يشكل نموذجا بأن مسألة توحيد الصوت العربي الفلسطيني قد تكون حاسمة في انتخابات الكنيست ايضا، سواء بقائمة واحدة او بقائمتين منسقتين، كما ان تعزز القوى الليبرالية في هذه المدن فيه مؤشر الى ان هناك قناعة بمحورية الصوت العربي والحضور العربي السكاني وشرعيته التي لا يمكن تجاوزها او الانتقاص منها على الرغم من حملة الترهيب الرسمية وسياسة كبت صوت هذا الجمهور بصدد الحرب على غزة وعلى مجمل الشعب الفلسطيني. كما ان هذه المنظومة وكتم الصوت الاحتجاجي بين العرب الفلسطينيين في اسرائيل ليست قضاء وقدرا وسقوطها هو مسألة وقت وبالأساس مسألة إصرار ضحايا هذه السياسة على وضع حد لها.
في داخل المجتمع العربي الفلسطيني لا يزال بارزا منحى التراجع في صدارة الاحزاب والحركات السياسية والحركة الوطنية وهو متأثر من التحولات عالميا في مفهوم ودور الاحزاب، الا ان الحركة السياسية الحزبية والتي نجحت في ابقاء دورها رغم التحولات وعلى مدى عقود، لا بد من ان تراجع ذاتها ونمط عملها وسياساتها كي تبقي على دورها الحيوي، وبتقديري مسألة التحالفات الوطنية السياسية والمجتمعية الواسعة باتت تحديا وفرصة للاحزاب ومجمل الحركة السياسية والمجتمعية.
انعكاس مؤشرات لرغبة المجتمع في السلم الاهلي وتحويله الى سلوك في عدة بلدات في مواجهة بنيوية للجريمة المنظمة والصراعات المحلية، هو شأن هام وواعد وقد يكون مصيريا.
( مركز تقدم للسياسات)