القدس:14-9-2023 من ديمة جمعة السمان- ناقشت ندوة اليوم السّابع الثّقافيّة الأسبوعيّة المقدسيّة رواية “حقيبة من غمام” للكاتب للكاتب محمد عبدالسّلام كريّم، وقدّم لها الشّاعر عمر كتمتو. وصدرت الرواية التي تقع في 302 صفحة من الحجم المتوسّط عام 2023 عن دار الأقصى للدّراسات والنّشر في دمشق -سورية، ويزيّن غلافها الأوّل لوحة للفنّان الفلسطيني يحيى عشماوي.
افتتحت الأمسية مديرة الندوة ديمة جمعة السّمّان فقالت:
يحمل عنوان الرّواية معنى عميقا، يكمن في طيّاته عذابات سنين من المعاناة والتّشرد. هو أدقّ وصف لحالة الفلسطيني المغموم، الذي شرّد من وطنه قسرا نحو المجهول؛ ليذهب في رحلة الضيّاع وعدم الاستقرار، يحمل حلمه في حقائب الأمل، يتنقّل من مكان إلى آخر بحثا عن الأمن والأمان، ولا يستفيق إلا وأحلامه في إجازة أبديّة.
أهدى الكاتب روايته إلى شعبه الفلسطيني البطل الذي قاوم حتى أدمن المقاومة، وهزم الموت.كما أهداها إلى أبيه وأمّه وأهداها إلى “مروة وأحمد ومعتصم”، أبناء العائلة، وأبطال روايته الذين ارتكزت عليهم أهم أحداث الرّواية، وهم من خصص لهم شكرا خاصا، ذكر فيه: ” إلى عائلتي مروة ومعتصم وأحمد”. ثلاثتهم خاضوا التجربة القاسية أثناء الهجرة من مخيّم اليرموك في دمشق إلى حيث ظنّوا أنّه مكان أكثر أمانا. كانوا طيلة الرّحلة يتأرجحون بين الموت والحياة، في باخرة ضخمة قديمة متهالكة متآكلة، تمّ تكديس ما يزيد عن سبعمائة مهاجر أسفلها، داخل عنبر لا يصلح للاستعمال الآدميّ، تتسرب فيه المياه من أسفلها ومن أعلاها بفعل المطر، فعادوا من الموت “طائر فينيق” يعلن أن الشعب الفلسطيني باقٍ لا يزول.
الرواية أشبه بسيرة شعب اقتلعوه من وطنٍ لا زال يسكنه. شعبٌ ذاق الأمرّين، فقد هويته منذ أكثر من خمس وسبعين سنة، ولا زال يبحث عنها بإصرار، علّه يجد ضالّته، ويلتقي مع ذاته.
كان وصف دقيق ومؤثر لحالة الحرب التي وقعت في سوريا عام 2012، واستهدفت مخيم اليرموك، مخيّم اللجوء الفلسطيني، حيث تسكن عائلة الكاتب، فبعد أن كان المخيّم هم المكان الأكثر أمانا، وشكّل لهم الوطن الصّغير المؤقت، إلى حين العودة إلى الوطن الأمّ، إذا بالقذائف تحصد أرواح الشّهداء، وتوقع الجرحى، فغدا مجرّد الخروج إلى الشارع ضربا من ضروب المغامرة.
كانت الحياة داخل المخيم جميلة وهانئة، إلى أن أصبحت مصدرا للخطر يهدّد أرواحهم، فحمل البعض حقيبة السفر، ولكن ليس للعودة إلى الوطن، بل للبحث من جديد عن موطن آخر مؤقّت يجدون فيه الأمن والأمان.
كانت الوجهة إلى إسطنبول، إلا أن كثرة المهاجرين إلى العاصمة التركية استفزت بعض الأتراك، الذين أصبحوا يرون في المهاجرين منافسين لهم على لقمة العيش، وتحوّلت مشاعرهم من عطف عليهم إلى كره تجاههم، تم ترجمتها بالاعتداءات المتكرّرة على المهاجرين، ممّا شكّل خطر عليهم، ليكتشفوا أن اختيار الوجهة لم يكن موفقا، فعادوا من جديد يحملون حقيبتهم -التي لا زالت تحتفظ ببقايا حلم- للبحث عن مكان آخر أكثر أمانا. فوقع الاختيار على السّويد، ولكن كيف؟ من سيقوم بعمليّة التهريب إلى أوروبا؟ وهنا خاضوا تجربة قاسية في رحلة العذاب شموا فيها رائحة الموت، وارتفعت الأيدي نحو السّماء تطلب من الله العليّ القدير السّلامة. وإذا بها ساعة استجابة، إذ وصلوا بعد عدة أيّام إلى الشواطئ الإيطاليّة، وهم في أشدّ حالات التّعب النّفسي والجسديّ، خاصة وأنّ كمّيّة الماء المخزّنة في الباخرة قد نفدت.
وانهى الكاتب الرواية هناك، على الشواطئ الإيطاليّة، بعد أن كانوا قد لبسوا سترات النّجاة الصفراء تأهّبا لأيّ طارىء يتسبب في غرق الباخرة؛ لتكون نهايتهم في بطن سمكة من أسماك القرش، كما حدث مع الباخرة الفرنسيّة التي سبقتهم.
وما كان من المهاجرين بعد وصولهم إلى الشاطئ، سوى أن يشكروا الله الذي أكرمهم، وكتب لهم الحياة بعد أن كانوا أقرب ما يكونون إلى الأموات.
رواية قويّة بوصفها الدّقيق الصّادق، عكست معاناة المهاجرين بتفاصيل جفّفت ريق كل من قرأها. رواية أكملت دور التّاريخ الذي يكتفي بتسجيل أرقام المهاجرين ولا يتحدّث عن حالاتهم الإنسانية. رواية تعتبر إضافة للمكتبة العربيّة، كتبت بحرف جميل، ولغة بسيطة ، وأحداث شيّقة، رغم كل جرعات الألم التي كانت تختبئ خلف كلّ حرف.
وقالت د. روز اليوسف شعبان:
ملخّص الرواية:
يأخذنا الكاتب في روايته الواقعيّة، حقيبة من غمام، إلى حقبة زمنيّة مؤلمة في سورية عام 2012، حيث بدأت المواجهات بين أعداء النظام السوري الممثل بجبهة النصرة، وبين مؤيدي النظام ومن بينهم الفلسطينيون في مخيم اليرموك.
تبدأ الرواية بوصف حالة الحرب والقصف والدمار الذي حلّ بمخيم اليرموك الذي يقطنه الفلسطينيون المهجّرون من وطنهم، كما يقطنه الكثير من السوريين. وقد كان المخيم ” بيتا واسعا ومأوىً حنونا ليس للفلسطينيين وحسب، بل لكل من ضاقت بهم الأحوال، فيه العراقي واللبناني والأردني والسوري، كان يضج بالحياة”. ص 15.
يسلّم الكاتب دفّة السرد في الرواية إلى الراوية وهي بطلة هذه الرواية، التي تصف لنا ما حلّ بمخيّم اليرموك من دمار وقتل وخوف وهلع، ممّا اضطرها وعائلتها للخروج من المخيم والعيش في بيت أخيها في منطقة قدسيا، وقد تفرّق شمل العائلة، بعضهم هاجر الى مصر، والبعض في حمص، أما الراوية وأمها فسكنتا مع الابن في قدسيا.
وحدث أن تزوجت الراوية من شاب فلسطيني من مخيم اليرموك، ولما كانت العودة إلى المخيم شبه مستحيلة ومحفوفة بالمخاطر، قرّر الزوجان الهجرة إلى تركيا.
تصف لنا الراوية بأسلوب شائق طريقة تهريبهما من الحدود السورية إلى الحدود التركية، واصفة لنا الخوف الذي اعتراها حين عبرت الحدود وهي تزحف على الأرض، وتسمع طلقات الرصاص من الجنود الأتراك نحوهما.
وعندما وصلا تركيا استقرا في استنبول حيث عمل زوجها في شركة للحاسوب، لكن أجرته بالكاد كانت تكفي السكن والمعيشة، إضافة الى المخاطر والاعتداءات التي كانت تصوّب ضد المهاجرين من قبل الأتراك.
وقد رأت الراوية اعتداء عدّة شباب على شاب فلسطينيّ دون أن يقدم أحد على نجدته. كما قُتل شابان سوريان من قبل الأتراك، ممّا ضاعف من مخاوفها فقررت الهجرة إلى أوروبا، بلاد الأمن والاستقرار والرفاهية؛ خاصة مع وجود أقارب لها في السويد والدنمارك وفنلندا، وقدوم ابنيْ اختيها احمد ومعتصم وصديقهما محمود الى تركيا الذين قرروا الهجرة أيضا الى أوروبا.
تصف لنا الراوية ما تعرض له الشباب الثلاثة من تحقيقات من جبهة النصرة أثناء خروجهم من سوريا، لكنهم عبروا جميع الحواجز بسلام.
بدأت رحلة هجرة الراوية مع الشباب الثلاثة دون زوجها، الذي بقي في تركيا لتسديد الدين الذي استدانه من أجل دفع تكاليف تهريب زوجته عبر البحر إلى أوروبا.
تصف الراوية رحلة العذاب أو رحلة الموت كما أسمتها، في السفينة التي أقلّت سبعمائة مهاجر من مختلف الجنسيات والقوميات في ظروف صعبة للغاية، تختلف كليا عما وعدهم بها المهرّب. تقول الراوية في ذلك:” لم يف المهرّب بأي من وعوده، فلا السفينة سياحية، وليس هناك من أجنحة، ولا غرف مستقلة للإقامة. أمّا الكراسي الدوّارة التي رأينا صورها فلم يعوّضنا عنها ولا حتى بحصير نمدّه على الحديد الصدئ”. ص 188.
كما تصف الراوية تسرّب الماء الى العنبر إضافة إلى هطول المطر الذي بدأ يتسلل من فتحات السقف ، ثم تدفّق الى داخل السفينة. وليس هذا فحسب، فقد نقصت مياه الشرب، وتعرضت السفينة لعاصفة هوجاء، كادت أن تودي بالسفينة بجميع ركابها. تقول الراوية في ذلك:” أخذ هيجان السفينة التي ترتفع نحو عشرة أمتار عن سطح الماء، يزداد شيئا فشيئا، بسرعة لا يمكن توقعها. فما أن ارتفعت مقدمة السفينة إلى علو هائل كفرس طموح تحاول رمي من عليها، حتى هوت في المياه، رامية بالمئات ممن كانوا في مؤخرة العنبر إلى مقدمته، فوق بعضهم البعض”. ص 265.
:” مالت السفينة بكليّتها على جانبها الأيمن، وانجرف الناس، وكنت بينهم، من جانب السفينة الأيسر ومن وسط السفينةـ الى يمينها ليتكدّسوا فوق بعضهم البعض، مضى البعض على بطنه والبعض على ظهره، بينما تدحرج كثيرون وانزلق آخرون. تضارب صوت البكاء والعويل والصراخ بصوت الدعاء وهاج العنبر وماج في حين تدفقت اليه كمية هائلة من المياه دفعة واحدة”. ص 270.
بعد أن هدأت العاصمة ومع اقترابها من السواحل الإيطالية اتصل أحد المهاجرين بخفر السواحل، وادعى أن هناك طفلا قتيلا وامرأة جريحة في السفينة، فحضر أفراد الشرطة بطيارة هليكوبتر، وهبطوا على السفينة بحثا عن الجناة، لكنهم لم يعثروا على أحد، ثم قدمت سفينة كبيرة بعدة طوابق رافقتهم إلى إيطاليا. عن ذلك تقول الراوية:” كانت لدي رغبة كبيرة في الابتسام الا أن شفاهي المضرّجة بالعطش لم تستطع ذلك، عزائي الكبير الذي سأظل أشكر الله عليه هو أننا ما زلنا أحياء مع كل ما عانيناه في رحلة لا تشبه الا رحلات الموت”. ص 302.
عنوان الرواية:
عنوان الرواية حقيبة من غمام، يثير الكثير من التساؤلات. لماذا الحقيبة ولماذا الغمام؟ هل لأن الحقيبة تشير إلى السفر؟ والرواية تتحدث عن السفر والهجرة؟ أم لأن الحقيبة مغلقة لا حيّز فيها للحركة وكأنّ المهاجرين المضغوطين داخل سفينة لا تتسع لهم، يشعرون بالانغلاق داخلها، فهم بالكاد يتحركون، وإذا تحرّك أحدهم فقد يدوس على رجل أو يد أو جسد مستلقٍ على أرض السفينة.
وقد تشير كلمة الغمام إلى وجود الغمامة في السماء، تحرّكها الريح أينما شاءت، وقد تختفي الغمامة بين سائر الغمام، أو ربما تسوقها الريح إلى أماكن بعيدة، كما فعلت العاصفة الهوجاء في السفينة في عرض البحر، حيث تقاذفتها الأمواج والعواصف.
فحقيبة من غمام هي إذن تمثل المهاجرين المخنوقين داخل سفينة تشبه الحقيبة في انغلاقها، وعدم الحريّة في الحركة داخلها، هذه الحقيبة كأنها غمامة تسوقها الريح. فهل تسوقها إلى مكان آمن؟ أم تتقاذفها الرياح في الفضاء الرحب؟
السرد في الرواية:
تميّز السرد في الرواية بـ”الرؤية مع”، أو “الرؤية المصاحِبة”: وهي رؤية سرديّة كثيرة الاستخدام، إذ يُعرض العالم التخييليّ من منظور ذاتيّ وداخليّ لشخصيّة روائيّة بِعينها، من دون أن يكون له وجود موضوعيّ ومحايد خارج وعيها. إنّ السارد في هذه الرؤية، على الرغم من كونه قد يعرف أكثر ممّا تعرفه الشخصيّات، إلّا أنّه لا يقدّم لنا أيّ تفسير للأحداث قبل أن تصل الشخصيّات ذاتها إليه. تُحكى الروايات التي من هذا النوع بضمير المتكلم، وبذلك تتطابق شخصيّة السارد مع الشخصيّة الروائيّة. (بوطيّب، 1993، ص. 72-73). ويستخدم السرد في هذه الرؤية ضميرَي المتكلّم أو الغائب، مع المحافظة على تساوي المعرفة بين السارد والشخصيّة (شبيب، 2013، ص. 117).
تميّز السرد إذن بالسرد الذاتيّ الواقعيّ، الذي فيه نتتبّع الحكي من خلال عينَي الراوية، التي سردت لنا رحلة الموت بلغة مؤثرة ووصف مثير دقيق.
المكان في الرواية:
يُعدّ المكان واحدًا من أهمّ المكوّنات السرديّة؛ فإنّ أيّ نصّ سرديّ يحتمل الوقوع ضمن وسط مادّيّ يشكّل خلفيّة للأحداث، ويُسهم، إلى جانب بقيّة مكوّنات النصّ السرديّ، في إيصال الرسالة النصّيّة.
يدخل المكان في علاقات متعدّدة مع مكوّنات العمل الروائيّ، من شخصيّات وزمن ورؤية وغيرها، تجعل كلًّا منها مؤثّرًا في الآخر. ففي حين يُسهم المكان في صياغة الشخصيّات وبيان اهتماماتها ومستواها الاجتماعيّ والفكريّ، تعبّر الشخصيّة في مستويَيْها الاقتصاديّ والاجتماعيّ عن مكان سكناها، من غير الحاجة إلى الإسهاب في وصْف مكانها وتعليله. (الطويسي، 2004، ص. )167.
ويبرز البعد النفسانيّ للمكان داخل النصّ، فالمكان ليس أبعادًا هندسيّة وحسب، إنّما هو المكان المصوّر من خلال خلجات النفس، وتجلّياتها، وما يحيط بها من أحداث ووقائع.( النابلسي، 1994، ص. 16).
تُعَدُّ علاقة المكان مع الزمن علاقة وطيدة أيضًا؛ إذ إنّ الزمن والمكان أصبحا جزءًا من الفضاء السرديّ، عامّةً، والروائيّ، خاصّة، كما هو شأنهما في الفضاء الواقعيّ، فلم يعد ممكنًا أن تتخيّل فضاء الرواية من دون تخيُّل الزمن الذي ينبني من خلاله، فالزمن أصبح البعد الرابع للمكان، ما يعني أنّ حضور أحدهما يُلزم، بالضرورة، حضور الآخر( محمود، 2009، ص. 290.).
في رواية حقيبة من غمام نجد أن المكان أخذ حيّزا هامّا فيها، إذ دارت جميع الأحداث في مخيم اليرموك وفي سفينة الموت، أما الزمن فكان جزءا من المكان، متعلّقا به، ولم يحظ بأهميّة خاصّة، ففي غمرة الصراع على البقاء يغور الزمن ويختفي خلف أقبية المكان، ويتجلّى المكان ليغدو الحلبة الرئيسيّة للصراع على البقاء، حيث تتصارع أيضا اختلاجات النفس وهواجسها ومخاوفها، فتعيش أوقاتا صعبة من الخوف والقلق والتوتر.
الشخصيات في الرواية:
تعدّدت الشخصيات في الرواية وتنوعت جنسياتها وثقافاتها وطباعها، لكنّ الشخصيّة المركزية هي شخصية الراوية/ الساردة التي سردت لنا أحداث الرواية ومن خلالها تعرّفنا على الشخصيات الأخرى.
تميّزت شخصية الساردة بالجرأة والقوّة والأمل، فقرارها بالهجرة دون زوجها ينمّ عن ذلك، إضافة إلى تحملّها ظروف المعيشة المضنية في العنبر، رغم ذلك فقد ساعدت امرأة أصابتها الحمّى وغابت عن الوعي، وتكفّلت بالاعتناء بطفل المرأة طيلة الرحلة.
يمكن اعتبار شخصيتيّ أحمد ومعتصم شخصيتين مركزيتين أيضا، اذ كانا يساعدان المهاجرين في السفينة ولعبا دورا أساسيًّا في فض الخلافات والشجار الذي كان ينشب بين الفينة والأخرى بين ركاب السفينة.
اللغة في الرواية:
اللغة في الرواية هي الركيزة الأولى والأهمّ لبنائها الفنّيّ، فهي تصف الشخصيّة أو تُمكّنها من وصْف شيء ما. واللغة هي التي تحدّد غيرها من عناصر الرواية وتبنيه، كحيّزَيِ الزمان والمكان. واللغة، أيضًا، هي التي تحدّد الحدث وتبنيه، ذلك الحدث الذي يجري في هذين الحيّزين.
تميّزت اللغة في الرواية بلغة النسيج السرديّ: السرد هو الطريقة التي تروى بها أحداث الرواية وترسم بها شخصيّاتها؛ إذ يسعى من خلالها كاتب الرواية إلى إقناعنا، فنّيًّا، بما حدث، أو يزعم أنّه حدث. ولمّا كان السرد هو البنية الأساسيّة في النصّ، فإنّ الروائيّين المحدثين يحرصون كلّ الحرص على لغته، بحيث تكون أنيقة، رقيقة النسج وموحية، تتوفّر فيها المواصفات الفنّيّة المطلوبة كافّةً.( بعيطيش، 2016).
من الأمثلة على لغة النسج السردي في الرواية والتي تتسم بالرقة والأناقة ما يلي:” كان يوما مختلفا منذ لحظة ولادته، لا يشبه أيا من الأيام التي ولدت معي منذ أكثر من عشرين ربيعا، لم يشهد شعاع الصباح وانعكاساته على التحف الزجاجية التي كانت تحرس زوايا غرف بيتنا تعليمات أمي المبكّرة، ولم تودّع عتبة باب البيت خطواتي إلى عملي”. ص 13.
” لم تعد حارات المخيم تضجّ بالصياح تلك التي بنى الضجيج تفاصيل جدرانها وتعشّقت رائحة طعامها التراثي عميقا في أساسات بيوتها، ونقشت تفاصيل حجارتها بضحكات الأولاد وابتكاراتهم المميزة من الشتائم والسباب”. ص 13-14.
ومن لغة النسج الموحية ما يلي:” 2012/12/16 يوم محفور في الذاكرة كرسم مفتاح دار جدي الذي ما عاد إليه يوما بعد أن نزح عنه”. ص 13. في هذه الجملة تذكير للقراء بنكبة الشعب الفلسطيني وتهجيره من وطنه، والمفتاح الذي لا ما زال الجد محتفظا به تيمنا بالعودة المنشودة.
“: هل هذا هو قدرنا نحن الفلسطينيين أن نبقى بلا قبطان، يحسن التخطيط، يستشعر المخاطر، متمكن من أدواته وعناصره؟”. ص 253. في هذه الجملة ايحاء سياسي وانتقاد التشرذم الموجود بين القيادات الفلسطينية وعدم وجود قائد ماهر.
” لقد غرّر بنا المهرّب، كما فعل بنا سياسيونا، فلا مراكبهم صالحة للإبحار، ولا هم على قدر المسؤولية ليقرّوا بعجزهم”.ص 189. وهنا أيضا إيحاء سياسي في انتقاد رجال السياسة.
سمات الحداثة في الرواية:
رغم انتماء هذه الرواية الى الرواية الواقعيّة إلا أنها لم تخل من سمات الحداثة، التي تميّزت بالسرد الذاتي والذي من خلاله تمكنّا من الاطلاع على العالم الشعوري الداخلي للراوية، إضافة الى تقنية الاستذكار أو الاسترجاع والحوار الداخلي (المونولوج) التي ظهرت في الرواية كما نجد في الأمثلة التالية:” أخذ عقلي يستحضر صورا قاسية عن الأعاصير، ويتساءل:” هل سيمتلئ العنبر بالماء؟؟ هل ستنقلب السفينة؟ كم تبعد أقرب يابسة عنا؟ هل أرتدي سترة نجاة؟”. ص 253.
في استذكار الراوية وحوارها مع نفسها تقول:” وأخذ خيالي يستذكر صور أحبابي من زوج وأم وأخوة وأصدقاء وجيران، حاولت أن أستبعد موضوع غرق السفينة أو غرقنا إلا أنها المرة الوحيدة التي لم أعد أسيطر فيها على عقلي، الذي كان يأبى ذلك.. وأخذت أفكّر في الغرق وسبل النجاة”. ص 255.
” استذكرت في لحظات، السفينة الفرنسية التي أخبراني عنها، والتي افترضت أنها غرقت في المنطقة ذاتها التي تغرق فيها، ولعلها مقبرة السفن”. ص 254.
الخلاصة:
حقيبة بلا ذاكرة رواية جميلة شائقة مؤلمة واقعيّة مستمدّة من السيرة الذاتية لبطلة الرواية، التي سلّمها الكاتب دفّة السرد، فجاءت الرواية بالسرد الذاتي بصيغة المتكلم. وهي حافلة بالمشاعر والأحاسيس والأوصاف الواقعية التي تصف رحلة الموت لسبعمائة مهاجر على سفينة قديمة تفتقر لأدنى الشروط الإنسانيّة. صيغت لغتها بأناقة وعناية إذ تميّزت بلغة النسيج السرديّ ،فيها الكثير من الايحاءات السياسيّة. كما تميّزت ببعض من سمات الحداثة، حيث وجدنا فيها تقنية الاسترجاع والاستذكار وتقنية المونولوج.، إضافة إلى خاصيّة المكان في هذه الرواية حيث كان المخيم والسفينة مسرحا للأحداث الجسام.
ويبقى السؤال: لماذا تعمّد الكاتب عدم ذكر اسم بطلة الرواية؟ هل أراد أن يجعل اسمها مجهولا؛ ليشير بذلك إلى وجود الكثير من المهاجرين الذين تركوا بلادهم بسبب الحروبات والنزاعات الداخلية؟
وهل ستجد حقيبة من غمام التي يحملها الفلسطينيون في الشتات مستقرًّا لها في الوطن؟ لتتحول من حقيبة مغلقة إلى مروج من السنابل والزيتون والرمان؟ فيهطل المطر عليها من الغمام ليحيي الأرض بعد توقها لأهلها!
المراجع:
بعيطيش، يحيى (2016)، “الخصائص اللغويّة في الرواية الحديثة: لغة عبد الحميد بن هدوقة نموذجًا”، جامعة قسنطينة، موقع إلكترونيّ.
الرابط: http://www.benhedouga.com
بوطيّب، عبد العالي (1993)، “مفهوم الرؤية السرديّة في الخطاب الروائيّ”، مجلّة عالم الفكر، الكويت: وزارة الإعلام، مج. 21، ع. 4، أبريل-مايو-يونيو، ص. 32-48.
شبيب، سحر (2013)، “البنية السرديّة والخطاب السرديّ في الرواية”، مجلّة دراسات في اللغة العربيّة وآدابها، ع. 14.
الطويسي، محمود (2004)، “الفضاء الروائيّ عند غالب هلسا رواية (سلطانة)”، وعي الكتابة والحياة: قراءات في أعمال غالب هلسا، مجموعة كتّاب، عمّان: دار أزمنة للنشر والتوزيع، ص. 166-195.
محمود، صفاء (2009)، البنية السرديّة في روايات خيري الذهبيّ “الزمان والمكان”، بحث لاستكمال مستلزمات الماجستير في اللغة العربيّة وآدابها، د. م.: جامعة البعث.
النابلسي، شاكر (1994)، جماليّات المكان في الرواية العربيّة، بيروت: المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر.
وقالت هدى عثمان أبو غوش:
العنوان “حقيبة من غمام” يرمز إلى فحوى الرّواية؛ فالحقيبة هي رمز السّفر والرّحيل، والغمام جمع غمامة أي السّحاب، والغم في الّلغة، هو ستر الشيء، ومنه الغمام لكونه ساترا لضوء الشّمس، والغمام مرادفة ذكرت عدّة مرّات في القرآن الكريم؛ فالغمام يستر الشّمس، ويستر السّماء، أ ي أنّ الغمام رمز لمصيبة كبرى، يمكن القول أنّ العنوان، هو رحيل يصحبه كوارث وأهوال، وفي الرّواية هو رحيل الفلسطيني والسّوري من النزاعات المسلحة، ومواجهته الأهوال في السفينة.
“حقيبة من غمام” هي رواية واقعية، جاءت بضمير المتكلّم، حيث يصور لنا الأديب محمد كريّم في روايته الأولى، على لسان بطلة الرّواية الرّاوية حالة الفلسطيني والسّوري في مخيم اليرموك، في ظلّ الصراع بين معارضي النظام السّوري وبين مؤيديه، ومن بينهم الفلسطينيون؛ وهروب الرّاوية الشّابة حديثة الزّواج مع زوجها
وبعض العائلات إلى الحدود التركية بوساطة المهربين.
نحن أمام أديب متمكن، يصقل حروف العذاب والقهر، يضعها فوق الأوراق؛ لنحظى بروايته التي تحمل حقائب الوجع، ينتصر الأديب للأماكن وتنقل المكان وعدم استقراره، ففي البداية يصف مخيم اليرموك، ثم ينتقل إلى البحر وسفينة الخوف، ثم اسطنبول، وفي النهاية إيطاليا.
أبدع الأديب في تصوير حالة القلق والذعر وحالة العائلات التي تشتت بين داخل المخيّم وخارجه، وتوترالشخصيات من خلال إبراز ملامح الشّخصيات القلقة والصراع النفسي الذي ينتابها، فوصف الجسد المنهك الذي يهتز من القلق، والأسنان التي تصطك وترتجف من الخوف. “لقد أثار قلقها الرّعب فيّ خاصة وهي تلطم وجهها وتفرك يديها بعضهما ببعض”.
وقد صور حالة القلق كثيرا في عدّة مواضع، في التدخين الكثيف الذي شبهه كالقلق في رحلة السّفينة، وأيضا من خلال التّساؤلات البركانية عند الشخصيات” أمّا النساء الكثيرات فقد كانت غمائم التّساؤلات تعتلي رؤوسهنّ، والخوف والقلق من المجهول الذي يتخطى ولا ندري في أيّ ساعة قد يظهر”.
“تتصارع في رأسك الأفكار المتناقضة”.
“كانت الأفكار حادّة ومتناقضة بعيدة وقريبة ممكنة ومستحيلة”.
وكذلك من خلال الحوار المشحون بالحالة النفسية المتعبة، والحوار الداخلي (المونولوج).” لم يعد هناك من أكسجين في الغرفة” “ أيّ رحلة هذه ؟” “ لم يعد هناك من إمكانية للإقامة في الأسفل، وعلينا تحملّ بعضنا البعض” وقد كان الإسهاب في الوصف الدقيق هو المدخل لتقريب الصورة الواقعية للقارىء، حيث وصف الصراخ في السّفينة، وصف ملابسهم المبللة جرّاء ثقب السّفينة، وصف خداع المهربين وكذبهم، وصف شحّ الماء في السّفينة، وصف آلام بعض العائلات في السّفينة، وصف الزّمن يمشي بشكل بطيء ومرعب مرفقا بساعات الانتظار الموجعة:“ مرّت الدقائق باردة ومظلمة”، صوّر ظروف التّهريب القاسية، وأثر الحرب في سورية على الحالة الإقتصادية والإجتماعية، صوّر بإبداع متقن وواقعي المخاطر التي تعرض لها النازحون من أجل عبور الحدود لتركيا، فالأديب أدخل القارىء لحالة تشويق وترقب وخوف، جعلنا فعلا نرى المشاهد أمام أعيننا، وجعلنا نتوقف أمام الاسترجاع الفني وذكريات الماضي وحنينه، هي رواية تطلق صرخة في وجه الحروب والنزاعات التي تمطرنا بالفراق والفقد والوجع.
وكتبت أسمهان خلايلة:
الإهداء: إلى شعبي البطل الذي قاوم حتى أدمن المقاومة والصمود، وهزم الموت.
إهداء جميل برمته وترشح كلمات الكاتب حبا للوطن ولأهله وشعبه وأمّه ومروة وأحمد ومعتصم طيور الفنيق العائدة المنتفضة.
توا َضع الكاتب أمام من مدوا له يد العون والاستشارة والدعم، وهذا الأمر يعرفه كل كاتب ُيصدر عملا ويدرك كم يستشير من المعارف والأساتذة والأصدقاء في مراحل كتابة الرواية، أو أيّ لون أدبي كان، غالبا هنالك من يراجع ومن يدقق لغويا ومن يبدي رأيه في البنية العامة للعمل.
تعمدت ألا أقرأ مقدمة الكاتب الأستاذ عمر كمتو حتى لا تحدث في نفسي تأثيرا! فقرأتها بعد انتهائي من هذه الرواية المثيرة للغضب على ” قيادات الحمقى الذين يقودون العالم على ما يبدو وليس عالمنا العربي فحسب) الاقتباس من الرواية ص 163، تاريخ 16-12-2012 بدأ تساقط قذائف الهاون على مخيم اليرموك، حيث تسكن راوية القصة – حقيبة من غمام.
انتشر الرعب والخوف في النفوس وعمت الفوضى وإطلاق النار والمجموعات المسلحة تنتشر في المخيم وتحاصره، خمسة أشهر من الحصار نفذت المؤن وتعطل العمال والتزم الطلاب بيوتهم، هذا المخيم الرائع الذي لا شبيه له في البقاع كما وصفته الراوية، لكن ” يا له من ألم عندما يغدو بيتك مفتوحا لما يمكن أن يقتلك أو يقتل أحد أحبابك، أمام هذا الوضع الذي قلب حال المخيم من مدينة متفردة بخصوصيتها مزدهرة بكل مقومات الحياة والحضارة، يؤمّها التجار والمتسوقون وبين كل بنايتين هنالك خريج جامعي أو خريجة.
في وصف الوضع المادي والثقافي الراقي لسكان المخيم ,. المخيم شكل الوطن الصغير لكل فلسطيني مغترب في سوريا.
يصف الكاتب بسلاسة التغيير الذي بدأ يفرض نفسه على الحياة، الهجرة من المخيم وهم يرددون : لن نتأخر سنعود بعد أيام، وكأننا بالكاتب يعيد مقولة الأهل والأجداد الذين هجرتهم قوات الاحتلال الإسرائيلي عن قراهم، وبقوا على أمل العودة فتركوا أشياءهم في البيوت معتمدين على أن الغيبة لن تطول، وإذا به تمتد لعقود وعقود.
الأمر المعقد المسيطر على المخيم أن الجميع لا يعرفون شيئا عن المسلحين من هم ماذا يريدون؟ وسيطرت غمامة الحزن على المخيم، وافترشت قلوب الناس، وعلى العقل أن يفرض رأيه لا القلب المتعلق بالمخيم ..الرحيل الى جهة أخرى.
من تلك الجهة رحلت راوية قصتنا الى تركيا بعد زواجها، وتمكنت من اقناع زوجها، ولم يمض على زواجهما سوى فترة قصيرة جدا تعد بالأيام.
لقد نفذت طاقة بطلة الرواية حتى أنها اختارت الرحيل عن دمشق بكاملها ( شأن النازحين والمهاجرين من حضن الوطن سوريا إلى بقاع الأرض، حسبما تفرقوا كل بطريقته وإمكانياته ( وبطلة القصة لم تملك من الإمكانيات المادية سوى النزر اليسير، فجعلت توفر وتقترض هي وزوجها حتى رحلت عن استانبول.
لكن ما بين استانبول والهجرة الى ايطاليا كانت الرحلة الشاقة الأولى التي قامت بها مع زوجها، حين ساعدهم أحد المهربين لقطع الحدود السورية التركية تسللا، كما يفعل الجناة والمجرمون.
ص77 اننا نحاول الفرار بحياتنا صوب حياة أكثر أمنا، لقد رأت التهمة الموجهة إليها من رجال الحرس على الحدود، وهم يرونها هاربة من الوطن خائنة هي وزوجها. معاناة التنقل لمدة يومين وسط التعب وقلة النوم والرعب من القبض عليهما ” الوقت يغدو نسبيا لا علميا يحسب بالثواني، ويصبح عدة دقائق تقضيها مرميا على الأرض وطلقات الرصاص تحيط بك أطول بكثير من عدة ساعات من التنقل في حافلة وكرسي فاره ص.98.
وصف دقيق قدمه الكاتب لعملية الهروب تنقل القارئ إلى هناك حيث السياج والملاحقة والترقب.
لم يهمل الكاتب وصف النزوح التدريجي عن المخيم حتى أوصلنا مع الراوية وزوجها الى استانبول مقرهما الأول.
وقد استحضر سيرة أخوات الراوية الثلاث اللواتي يعشن في المهجر: مصر ، فرنسا وغيرها ثم وصف المؤن التموينية التي بدأت بالاختفاء، وتحكم التجار في الأسعار اختصار حفلات الزواج الى أقل القليل.
عرس متواضع جدا مختصر جدا بالطقوس والمعازيم حفل زفاف خجول لم يقترب من أحلامي اليافعة “ص 71.
لو لم يكن غير الأسنة مركبا … فما حيلة المضطر إلى ركوبها؟
وركبت العروس أسنة الهجرة مغامرة متوقعة الاستقرار والهرب من جحيم الحرب.
بعد استنبول لا بد من مهرب جديد يخرجها وزوجها الى أوروبا ووجهتهم كانت إيطاليا.
حالات متنوعة من الناس رافقوا الراوية في رحلتها المرعبة على متن السفينة المهترئة، التي سافروا بها، وقد زجوا بهم في قعر السفينة في ظروف غير إنسانية.
عدد مهول في مكان شديد الضيق، وهنا بدأت المعاناة الحقيقية للمهاجرين . فات الأوان على الاعتراض ولا حياة لمن تنادي
وصف تجلى فيه الكاتب مبدعا دقيق الرسم لجميع الطياف المسافرة، زوجة شهيد، رجل غني ترك أمواله في موطنه سوريا، ولم يتمكن من إحضارها، أكراد، أفغان، فئات هاربة من رمضاء الحرب وجحيم الفقر وعبودية الحكام ونزقهم؛ ليقعوا فريسة حيتان اتخذوا من الحروب سلعة تدر عليهم الأموال يحصدونها بأساليب الاحتيال والكذب والوعود الكاذبة على مهاجرين لا ملاذ لهم سوى الاستسلام لأنياب الوحوش البشرية المفترسة.
قدرة رائعة وهائلة، وأرى المؤلف محمد كريم قد أخذ منه التعب مأخذه الجدي وهو يصف ويكتب عن أسبوع كامل تقريبا قضاه هؤلاء المساكين في قبو -إن صح التعبير-، أو زنزانة تفتقر الى أقل شروط الراحة الجسدية، حيث انهمرت عليهم الأمطار فنزلت تحمل الصدأ عن سطح السفينة المتآكل.
صراعات بدأت تطفو بين الركاب على المكان المكتظ، مجرد اتهامات صبيانية كانت تؤدي إلى مناوشات، فشة خلق واخراج كبت يعاني منه المساكين الذين اتفقوا
في حالات الكرب على الاتحاد والتعاضد والتعاون، فابتهلوا بصدق وتضرعوا الى الله كي ينقذهم مما هم فيه . حالهم كان أشد صعوبة وضيقا من حال النبي يونس عليه السالم، الذي غيبته ظلمات المحيط وظلمات بطن الحوت ثم “نجيناه “، قدرة إلهية استجابت لهؤلاء المساكين المعذبنن في مكان وصول السفينة المتهالكة هو أهم أولوياتهم.
تساءل الكاتب على لسان بطلته: هل هذا قدرنا نحن الفلسطينيين أن نبقى بلا قبطان يحس بمن يقود؟ بحسن التخطيط متمكن من أدواته وعناصره ؟( اكتشفت أن القبطان زج بهم في مغامرة العاصفة، وهو على دراية بأنها ستحدث، ذاق المسافرون المهاجرون ذل العبودية في مقطورة السفينة التي خصصت للماشية! لكنهم مجبرون على الاختفاء لكن ” لعلك وأنت في درب اللجوء وأنت بلا وطن مضطر أن تطأطأ الرأس كثيرا “ص 158.
سفينة متهالكة، مهربون قساة ، قبطان لا يبالي بحياة المسافرين، هذه هي الوسائل الوحيدة التي توفرت للمحاصرين بنيران الحرب وقسوة التهجير، وبهذه الوسائل فقط كان لهم الخلاص من واقعهم المؤلم ومن الجراح والظلم والقلق.
وقالت رفيقة عثمان:
نسج الكاتب روايته، حول الصّراعات الّتي واجهها المُهاجرون أثناء هجرتهم من “مخيّم اليرموك” في سوريا؛ هربًا من الأوضاع السّياسيّة والاجتماعيّة السيّئة، الناجمة عن الحوب والخلافات الحزبيّة والطّائفيّة.
اختار الكاتب شخصيّة الرّاوي، شخصيّة البطلة امرأة؛ لسرد الأحداث على لسانه بصوت ضمير الأنا. برأيي نادرًا ما يختار الأدباء الذكور، للراوي السّارد بشخصيّة الأنثى.
يُعتبر اختيار الأديب لشخصيّة الأنثى البطلة، اختيارًا جريئًا إلى حدّ ما، وذلك تبعًا للاعتقاد السّائد بأنّه لا يُعبّر عن المرأة إلّا المرأة نفسها؛ نجح الكاتب في تصوير الأحداث الدراميّة الدّائرة داخل السّفينة على لسان المرأة. صوّر الكاتب أدق التّفاصيل والمشاعر المختلجة في نفوس المُسافرين من وجهة نظر نسويّة.
شخصيّة المرأة المُهاجرة برفقة ولدي أختيها: أحمد ومعتصم، الشّخصيّتان المحوريّتان في الرّواية.
هذه الرّواية ذكّرتني” بسفينة التايتنك”، لكن هذه الرّواية بعيدة كل البعد عن تصوير الحياة الرّومانسيّة؛ بل صوّرت حياة المُهاجيرن الفّارين من بلادهم، بحثًا عن حياة أفضل في تركيا ومن ثمّ أوروبا وبالأخص في إيطاليا، في سفينة الأوجاع كمّا سمّتها الرّاوية.
أبدع الكاتب في وصف المعاناة والمآسي اللتي عاشها المُهاجرون على متن السّفينة، من تصوير الرّعب الّي داهم قلوب المهاجرين جرّاء الاكتظاظ وزيادة عدد المُهاجرين، ومواجهىة العواصف والامطار، والجوع، والعطش؛ بالإضافة لتعرّض السّفينة للغرق، نتيجة العواصف القويّة، كل ذلك أدّى لفقدان الأمل بالنّجاة والوصول إلى شاطئ الأمان.
كل تلك الأحداث أتاحت الفرصة؛ للتّعبير عن المشاعر والعاطفة الحزينة والجيّاشة، والخوف والقلق، وفقدان الأمل واليأس من الحياة، والنّدم أحيانًا على قرار الهجرة.
يظهر زمن الرّواية عام 2014، من خلال السّرد، عندما ذكر بأنّ موعد العاصفة المُتوقّعة 2014.12.28.
ومن لبنان كتب عفيف قاووق:
حقيبة من غمام هل هي رواية واقعية شهد الكاتب أحداثها أم هي من نسج خياله؟
فإذا كانت واقعيّة كما يظن البعض إنطلاقا من الإهداء الذي يقدّمه الكاتب لكلٍّ من مروة وأحمد ومعتصم، فقد استطاع أن ينقل لنا الأحداث بصدقٍ وبواقعيّة مؤلمة، وإذا كانت من نسج خياله فقد أبدع في اختلاق الأحداث وتطويعها على نحوٍ من شأنه أن يزيد قناعة القارئ بها وتجعله جزءً منها؛ تاركاً لنا نحن القرّاء مكاناً، سواء في مخيّم اليرموك أو على متن سفينة الرعب، وهذا هو الابداع لأيّ روائيّ يحترم القارىء.
خلال تصفّحنا لهذه الرواية، بحثاً عن الحقيبة التي حملها العنوان، نكتشف أن السفينة كانت بمثابة تلك الحقيبة المقفلة على أكثر من سبعماية مهاجر مُقبِلين على المجهول.
رواية زاخرة بالمشاعر، أبدع الكاتب بأسلوبٍ سرديّ شيّق بعيدا عن التعقيد، فجاءت روايته صادقة ومؤلمة في آنٍ معاً. كما تمكّن الكاتب من أن يجعل القارىء ينجذب لإكمال القراءة ويتفاعل مع هذه الصعوبات والأهوال التي اعترضت أولئك الهاربين من جحيم الوطن.
يُشير الكاتب بداية إلى الأحداث والإضطرابات التي اجتاحت الوطن السوريّ بمعظمه، وينطلق من مخيّم اليرموك في دمشق ويُسهب بلسان بطلة الرواية في توصيف هذا المخيّم والتغنّي به، قبل أن يتحوّل إلى ساحة صراع ويحلّ الخراب والدمار في معظم أحيائه ومبانيه فتقول: “كان المخيّم بيتاً ليس للفلسطينيين وحسب، بل لكلّ من ضاقت بهم الأحوال، فجاؤوه وافدين، سواء في الأزمة السوريّة أو قبلها. كان يضجّ بالحياة كما لو أنّه مَصنعا لها، كان قلباً نابضاً لكلّ فلسطينيّ يقيم في سوريا.
كما تشير الرواية إلى حال الذعر والخوف التي تحكّمت بحركات وسكنات سكّان المخيّم بسبب المعارك العبثيّة التي اجتاحته، فتقول الساردة : كنَّا جميعًا نخشى المجهول الذي لا يمكن لأحدنا أن يتنبّأ به. ما إن يخرج أحد من أحبّتنا من بيته، ونعرف بذلك، حتى تشتعل نيران الخوف والقلق في صدورنا خوفًا من مكروهٍ قد يصيبه. ونتيجةً لهذا الخوف وفقدان الأمن والأمان في المخيّم، كُتِبَ على سكانه تهجيراً قسريّاً آخر بعد تهجيرهم الأول من فلسطين.
أشارت الرواية إلى استغلال التجّار لحاجات الناس، والإرتفاع الجنوني لأسعار المواد والسلع، وهذا ما حصل مع محمد عندما توجّه لتأمين الخبز لعائلته، لكن البائع رفض بيعه كيسا من الخبز إلا إذا دفع أكثر من خمسة أضعاف ثمنه.
ثم تسرد الراوية المرحلة الثانية من معاناتها، سيما بعد زواجها وتفكيرها جدّياً بمغادرة سوريا باتجاه تركيا أملاً في حياةٍ أكثر أمنًا. والهجرة إلى تركيا ستكون تهريباً، بما تحمل من مجازفة. تقول الراوية في وصفها لعمليّة التسلّل إلى الأراضي التركيّة “ركضنا متجاوزين تحذيرات الجنود الأتراك إلا أنهم أخذوا يطلقون النار علينا.
ويبدو إن مسلسل الهجرة يكاد لا ينتهي عند الفلسطينيّ، لذا اتّجهت أنظار الراوية الى أوروبا وبدأت تعدّ العدّة للهجرة إليها طمعاً في الحصول على جنسيّة أوروبيّة، لما تقدّمه هذه الجنسيّة من مكتسبات وحوافز، فتقول: “مع إدراكي، شأني شأن كل الفلسطينيّين، بأنّه باستخدام وثيقة السفر الفلسطينيّة، لا نستطيع دخول معظم الدول العربية. وبمجرّد الحصول على جنسيّة أوروبيّة، سيكون من السهل الحصول على عقد عملٍ مُجزٍ، حتّى في دول الخليج.
وفي سردها ليوميّات الهجرة من تركيا باتجاه أوروبا تهريباً، تصف الساردة المَهانة التي يتعرّض لها المهاجرون على أيدي المهرّبين تقول: “طلب منّا أحد رجال التهريب أن نتبعه ونحن نخفض رؤوسنا، امتثلنا للأمر لأننا في درب اللجوء، ونحن بلا وطن، نضطرّ أن نطأطىء رؤوسنا كثيرا”. وفي موضعٍ آخر تشير إلى غدر المهرّبين بهم وعدم الوفاء بوعودهم فلم تكن السفينة التي أبحروا بها سياحيّة كما وعدهم المهرّب بل كانت سفينة قديمة عمرها أكثر من ستين عاما، تحمل بداخلها أكثر من سبعمائة مهاجر من مختلف الجنسيّات. وتدخلها المياه والأمطار من خلال فتحات السقف والأرضيّة أيضاً نظراً لتآكل حديدها.
أبدع الكاتب في توصيف ما تعرّض له المهاجرون خلال رحلتهم هذه، وذكر كيف كانت حجرة المحرّك العملاق الملاذ الوحيد لهم طلبًا لتجفيف الملابس والدفء. وكيف عمل أحمد ومعتصم على تجميع مياه الأمطار بعد نفاذ مياه الشرب في السفينة مع حِرصِهماعلى جمع الماء من الأعلى قبل أن يغيّر الصدأ مواصفاته. لتبدأ معاناتهم الحقيقية مع ورود أنباء بأنّ السفينة ستواجه في الساعات القادمة عاصفة يبدو أنها عنيفة، وهنا يسيطر الكاتب على مشاعر القارىء ويجعله متوتّراً ومتحفّزاً لمعرفة ما ستؤول إليه الأمور بسبب تلك العاصفة، وقد برَعت الساردة في نقل الحدث بطريقةٍ تخالُ نفسك إلى جانبها، تلاحظ كيف أنّ السفينة بدت وكأنّها تواجه تلّة رمليّة تحاول اعتلاءها، فما تلبث أن تنزلق إلى الخلف ثمّ تتقدّم بتثاقلٍ كما لو أنها مقيّدة بسلسلة، لتأخذ بعد ذلك بالتحرّك كما لو أنّ مقدّمتها ترتفع عالياً ثم تهوي. أما حال الركّاب، فكانوا عرضةً للتقاذف والإنزلاق داخل العنبر، تقول الراوية : كُنَّا ننزلق مع كلّ تمايلٍ، لأننا شأن كل المهدّدين بالغرق، لم نجد ما نتشبّث به.
جولةٍ أخرى من الرعب طاولت المهاجرين بعد أن ارتفعت مقدمة السفينة إلى علوٍّ هائل، كفرسٍ جموح تحاول رميَ من عليها حتى هَوَت في المياه، راميةً بالمئات ممّن كانوا في مؤخّرة العنبر إلى مقدّمته فوق بعضهم البعض. ولكي تكتمل رحلة العذاب هذه بكل صنوفها كانت المياه التي تمُرّ عبر هذه الشقوق تنزل على رؤوس المهاجرين حمراء ممتزجة بالصدأ نتيجةً لتآكل حديد السفينة.
بالرغم من كلّ هذه المتاعب التي اعترضت المهاجرين، إلّا أنّ الكاتب أبرَزَ لنا حالةً من التعاضد والتعاطف بينهم تمثّلت في اهتمام الساردة بالطفل ورد وتكفّلت بالاعتناء به طيلة الرحلة، بعد ان أصابت أمّه الحمى التي أدخلتها في غيبوبة . وفي موضعٍ آخر، طلبت الساردة من أبناء أختيها أن يأتوا بالسيّدتين اللّتين كانتا من ضمن مجموعتهم في العنبر إلى غرفة المحرك لأجل تجفيف ملابسهما ولينعما بقسطٍ من الدفء الناجم عن حرارة المحرك.
إضافة إلى الساردة وحِسّها الإنساني ، فإن أحمد ومعتصم أيضا إمتازا بروح المسؤولية، وشرعا في مساعدة المهاجرين بل أكثر من ذلك لعِبا دوراً لافتًا في فضّ النزاعات التي كانت تنشب بين المهاجرين.
ويختم الكاتب رحلة الرعب هذه بإيصال المهاجرين إلى إيطاليا بعد طول معاناة تاركاً للقارىء أن يرسم الخطوة الثانية لكل مهاجر من هؤلاء.
وليس مستغربا من أي كاتب فلسطيني أن يُضمّن روايته بعض الايحاءات والثوابت السياسيّة، ومن هذه الثوابت حق العودة ، ففي وصفها لمخيّم اليرموك، تقول الراوية بأنّه كان أشبه بمدينة مستقلّة لما يحتويه من مشافٍ ومدارسَ وأسواق تجاريّة، لكنه آثر الإبقاء على صفة المخيّم. كان وطناً صغيراً ومؤقتاً بانتظارالعودة إلى فلسطين. وفي موضعٍ آخر، وفي عمليّة ربطٍ بين يوم نزوحها عن المخيّم ويوم نزوح جدّها من فلسطين، تقول يوم 16/12/2012 محفور في الذاكرة كرسم مفتاح دار جدّي الذي ما عاد إليه يوماً بعد أن نزح عنه.
وفي محاولةٍ لقراءة الأحداث التي شهدها مخيّم اليرموك وغيره من مناطق سوريا، إستحضرت الساردة عبارة أبيها حيث قال: أخشى ان الأحداث أشتعلت في تونس لتصل إلى دمشق« وفي موضعٍ آخر، تذكّرت آخر عباراته التي لا تزال تستوطن أذنيها وهي : “يا خوفي تكون هالحرب كلّا مشان نخسر فلسطين… نخسرها للأبد« وهنا الشيء بالشيء يذكر، فما نشهده حاليا من إقتتال فلسطينيّ-فلسطيني في مخيّم عين الحلوة الذي لا يقلّ أهميّة عن مخيّم اليرموك، بل يفوقه للكثير من الإعتبارات، فهو مخيّم حق العودة بما تعنيه الكلمة من معنى، ولكن الخشية كلّها هي أن يصيبه المصير نفسه الذي أصاب مخيّم اليرموك.
وفي نقدٍ واضحٍ لبعض المسؤولين في أوطاننا، عمِدت الساردة إلى المقارنة بينهم وبين قبطان السفينة فتقول: ” أيّ قدرٍ أن نكون رهنًا لقبطان هنا وآخر هناك. هذا لا يعرف القيادة وذلك سفينته مهترئة وآخر بحّارته مقعدون. هل هذا قدرنا نحن الفلسطينيّين، أن نبقى بلا قبطان يحسّ بمن يقود، يُحسن التخطيط، يستشعرالمخاطر ومتمكّن من أدواته وعناصره؟”.
إضافة إلى مقارنة القبطان بسياسيّي هذه الأوطان أيضا، تورد الراوية أوجه الشبه بين المهرّبين وهؤلاء السياسيّين، فكما أنّ المهرّب غرّر بالمهاجرين، فقد فعل سياسيّونا الشيء نفسه وهرّبوا القسم الكبير من أرضنا ومقدّراتنا.
إشارة مؤلمة ذكرتها الرواية في موضوع الهجرة، مشيرة كيف أنّ بعض الأُسَر السوريّة التي لم تتمكّن من توفير(مال التهريب) اكتفت بإرسال قاصرٍ مع بعض أقاربه على أن يقوم هذا القاصرعند وصوله بإجراءات لمّ شمل الأسرة بكاملها. وللإجابة على الساردة التي تتساءل كيف لأبيه أن لا يفترض ألف افتراض قبل أن يرسله، وأيّ يأسٍ ذاك الذي يجعل الرهان ولداً من اولادنا ؟ أقول: لا أحد يرمي ابنه في قارب الموت إلّا لإعتقاده بأنّ البحر أكثر أمانا من الوطن.
سؤالٌ آخر يبقى بدون إجابة شافية: لماذا إصرار المهاجرين على المجازفة بركوب البحر باتجاه اوروبا رغم ما يتهدّدهم من مخاطر؟ ألا يمكنهم أن يحاولوا العيش في تركيا مثلا بدل أن يكونوا طعاماً مفترضًا لأسماك المتوسط؟ كما قالت الراوية بعد أن شعرت باقتراب الموت منهم. هل طمعاً في الجنسيّة الأوروبيّة التي تمنحهم حرّيّة التنقّل بين أقطار العالم؟ فتراهم يراكموا على أنفسهم ديوناً ومستحقاتٍ لتسليمها للمهرّب، في حين أن هذه المبالغ يمكن إستثمارها في أيّ عملٍ يعود عليهم بمردودٍ ماليٍّ لا بأس به.
وكتب الدكتور ابراهيم أبراش:
تصور الرواية فترة ثقيلة أرخت سدولها منذ بدايات الأزمة السورية 2012 وكان من مآسي تلك الحقبة ما حلّ بمخيم اليرموك الذي كان مأوى لكلّ الضواحي المحيطة به من مشردين ومنكوبين ومن الجنسيات كافّة يضمد جراحاتهم كما ضمّد جراح اللاجئين الفلسطينيين إبّان النكبة ،تنزل القذائف على المخيّم من كل حدب وصوب، ويسقط شهيد هنا و مصاب هناك، وطفل هنا وأمّ هناك ،وتحت وطأة القصف لم يجد أهالي المخيّم بدّاً من مغادرته مكرهين، وتقود السرد بطلة الرواية التي خرجت مع عائلتها إلى ضاحية قدسيا في ريف دمشق، دون أن تحمل العائلة شيئاً معها ليقينهم أن العودة قريبة، وقد تزوجت البطلة شاباً فلسطينيّاً من مخيّم اليرموك وبعد اليأس من الرجوع إلى المخيّم قرّرا مغادرة سورية صوب تركيا وقد لقيا من المشاقّ والصعوبات و الأهوال ما لقيا عند تجاوز الحواجز ومن ثمّ الحدود السورية دخولا إلى تركيا، عبرا الحدود زحفاً تحت وابل رصاص حرس الحدود التركي، وبعد نجاتهما توجها صوب اسطنبول ،وقد أقاما في منزل مستأجر وعمل الزوج في شركة للحاسوب، وبالكاد كان راتبه الشهريّ يكفي لتدبير شؤون المعيشة، ولم يهنأ لهما عيش في هذه المدينة الكبيرة التي تضج بالحياة فالتكاليف باهظة، وطريقة التعامل مع اللاجئين والمهاجرين لا تبشّر بخير، فثمة شاب فلسطينيّ اعتدي عليه أمام الراوية دون ان يتدخّل أحد لنجدتة، وشابان سوريان قتلا من قبل أتراك منذ أيام، والتنمّر يزداد صوب المهاجرين، وثمة سؤال واحد تقرؤه في كثير من الوجوه ؛لماذا أنتم هنا؟!.
أمام هذه الضغوط والمخاوف قررت الراوية وزوجها السفر إلى أوروبا ،ولكن لن تستطيع أن تسافر هي وزوجها لضيق الحال وعدم قدرتهما على تأمين تكاليف السفر لكليهما، فقررا أن تسافر هي مع ابني أختيها أحمد ومعتصم وصديقهما وكانوا قد وصلوا جميعاً إلى اسطنبول بعد أن عانوا ما عانوا في رحلة مشابهة لرحلة الراوية وزوجها، و سيبقى الزوج على رأس عمله في اسطنبول عسى أن يسدد الدين الذي استدانه لسفر زوجته، وتبدأ رحلة الموت والعذاب في تلك السفينة المتهالكة التي فوجئ بها المهاجرون ،فليست سفينة سياحيّة كما ادعى المهرّب، وليس فيها أجنحة وغرف مستقلّة ومقاعد كما وعد، وهي تنوء بحمل سبعمئة مهاجر من جنسيات مختلفة وقد يكون هذا العدد ضعفي أو ثلاثة أضعاف ما تحمله مثل هذه السفينة عادة، وتبدأ رحلة الشقاء وتراجيديا العذاب الجماعي الذي مرّ بعدة مراحل منها تسرّب الماء ودخوله إلى العنبر من الشقوق التي لا يمكن ترميمها، و قلّة مياه الشرب ومحاولة جمعها من الأمطار وعدم وجود مكان جاف في العنبر لأخذ غفوة ، ما جعل ركاب السفينة في حالة من القلق والتوجّس وربما وصل الأمر أحياناً إلى التشابك بالأيدي، وتتأزّم الأحداث وتتشابك بهبوب عاصفة هوجاء جعلت السفينة تميل ميمنة وميسرة، وارتفاعاً وهبوطاً كخيل جموح يريد أن يهوي بمن على ظهره ،والركاب يتطايرون ويُتقاذَفون داخل السفينة وعلى سلالمها وفي عنبرها ككرات لا حول لها ولا قوة، وتتدفق المياه إلى العنبر وسط عويل النساء وصراخ الأطفال، ودعاء البائسين بقلوب ضارعة بأن يكشف الله البلاء، بعدها هدأت العاصفة وسارت حتى وصلت قريباً من السواحل الإيطالية، عندها اتصل أحد الركاب بخفر السواحل مدّعياً أن على السفينة طفلاً قتيلاً وامرأة جريحة، فهبطت طيارة (هوليكوبتر) بحثا عن الجناة ولكنهم لم يعثروا على أحد، ثم جاءت سفينة ضخمة حملت المهاجرين إلى إيطاليا وحمد المهاجرون الله أن ما زالوا على قيد الحياة .
المخيم وعبقرية المكان في الرواية
شكّلت مخيمات اللجوء للفلسطينيّ اللاجئ المبعد عن وطنه موئلاً يتنفس فيه الصعداء من لأواء البعد و التشرّد، واستطاع اللاجئ الفلسطيني أن يرسم معالم العودة في هذه المخيمات في الشتات، وأن يورث حبّ فلسطين وحق العودة لأبنائه جيلاً بعد جيل، ومخيم اليرموك كان أكبر تجمّع للاجئين الفلسطينيين في سورية، وكان كلّ ما فيه يموج بالحياة (كانت الحياة لا تكف السهر في شوارع وحارات المخيّم في الأزقّة وعلى أسطح البيوت ،كان وطناً صغيراًومؤقتاً)ص16
وقد استطاع اللاجئ الفلسطينيّ أن يحوّل كل ما في المخيّم إلى نواقيس تدق الذاكرة الفلسطينية التي ما كان ليكسوها الغبار مادام كل شيء في المخيّم يذكّر بفلسطين، فأسماء الشوارع والجادات تذكره بوطنه السليب، ههنا شارع صفد يسلمك إلى شارع لوبية وههنا جادّات بئر السبع تسلمك إلى جادات كفر قاسم، وذاك شارع حيفا ينتهي بك إلى شارع المدارس، المدارس التي حمل كل منها اسماً لمدينة او قرية فلسطينية فضلاً عن أسماء المراكز الثقافية والرياضية، وما يموج فيها من فعاليّات فلسطينيّة، ناهيك عن ضروب الطعام الفلسطينيّ والأعراس الشعبية والأهازيج الفلسطينية التي تمجّد الكفاح والنضال الفلسطيني، وتترنم بسيمفونيّة العودة التي لا مناص عنها، وكبار السن ولباسهم التراثيّ وسحناتهم وتجاعيد وجوههم التي حفرتها سنوات الغربة فما لانُوا لها ولا ذلّوا يحملون مفاتيح العودة يورثونها أبناءهم وأحفادهم ،
لذا يصعب على من لم يعش في مخيّم اليرموك أن يدرك ما كان يمثّله للاجئ الفلسطيني في سورية، فقد لقي أبناء المخيّم في فقده من اليُتم ما يجده الأبناء في فقد الآباء، بل كانوا يشعرون بالغربة كلّما ابتعدوا عنه أميالاً وساعات، وهذا ما عبّر عنه الكاتب على لسان بطلة الرواية (كنت أعشق المخيّم الذي لايشبهه في هذه البقاع شيء) ص16،(كنتُ أشعر بالغربة إذا ما تأخرت بالعودة إليه..) ص27 ،ولئن اختلفت التحليلات السياسيّة بين أفراد عائلة البطلة حول ما يحدث للمخيّم إلا أنّ أراءهم مجمعة على أنّ الغياب عن المخيّم لن يطول .
وإذا كانت الأماكن هي أوعية للحوادث، فقد استطاع أديبنا كريّم أن يرسم أهمّ الملامح والمحطات التي كان فيها مخيّم اليرموك شاهداً على حوادث ونوازل عصفت بمسيرة اللاجئ الفلسطيني، والتي كان التهجير من المخيّم وهدمه آخر فصولها، فالمخيّم عاصمة الشتات الفلسطيني (كان عاصمة الشتات الفلسطيني الجامعة المانعة..) ص26،وهو خزّان الثورة الفلسطينية من الفدائيين والمناضلين، فهو حتّى آخر لحظة ظلّ يدفع فواتير الدماء الزكيّة (وكان منبع الأبطال الذين رفدوا الثورة الفلسطينيّة منذ نشأتها) ص26
وهو الذاكرة التي تتأبّى عن النسيان لأنّ كلّ ما فيه يذكرك بفلسطين، (لقد تركتم وطناً كان جسر العبور نحو فلسطين..) ص59