إنها لفرحة عارمة أن نقرأ ما ورد بين دفتي الكتاب الأجمل في فترة تكاد تكون أحوج الفترات لمجتمعنا من أجل تنظيمه ومساعدة بعضنا البعض في بناءه من جديد وهيكلته بمضامين تناسب روح عصرنا الحاضر، نحن نقف أحيانًا عاجزون أمام مشكلات كثيرة مع إخوتنا وأخواتنا بشكل عام، ومع أبنائنا وبناتنا في داخل الأسرة الواحدة، وربما لا يفهمنا الآخر حين نقول كلمتنا، أو ننهض بتصرف ما، وهذا ربما لضعف فينا أو لضعف في الفريق الآخر الذي بات يراقب كل تحركاتنا، وكل أعمالنا وكل كلماتنا حتى لو صدرت عنا بشكل عفوي دون أي قصد للإساءة.
لا تترك يدي، هو كتاب من إصدار دار الحديث للإعلام والنشر، لصاحبها الأستاذ الشاعر الكاتب الإعلامي الدكتور فهيم أبو ركن، يقع في 166 صفحه، نصّت الكتاب الكاتبة الأديبة المهذبة، شهربان معدّي، ابنة قرية يركا الجليليّة، والّتي سطع اسمها في سماء الشرق الأوسط من خلال كتاباتها الراقية لأدب الأطفال وكتاباتها الموجّهة لأبناء وبنات المجتمع الواحد من خلال نفي العادات والتقاليد السلبية الدخيلة على المجتمع وتعزيز العادات القديمة، الّتي ورثناها من الآباء والأجداد والحديثة منها التي تناسب أجواء مجتمعنا دون الابتعاد عن عاداتنا وتقاليدنا الطيبة في نهج السلف الصالح، ولا مجال لنا إلا أن نتمسك بها ونتعلق بكل جانب منها كي لا تندثر وتزول.
في التمهيد لكتابها تقدم لنا الأديبة شهربان معدّي، لوحة فنية بديعة، رسمتها بريشة حروفها اليانعة، فهي تكتب: “ما زلت أذكرها.. الامرأة بطعم الزيتون والنعناع والقطين.. ما زالت تعشّش في يمامة روحي.. وتجري في عروق دمي.. سيّدة الكلمات الطيّبة، التّي لم تكن يومًا مثقلة بالأبجدية، ولم تسرق مفرداتها من قنينة سراج متوهج، أو قاموس المعاني، ولكن الكلمات كانت تنساب هادئة، سلسة من ثقوب روحها.. رغم القهر والفقر وشظف العيش.. وأنّها كانت أمّية.. أسوة بمجتمع كامل، نجح الحكم العثماني، بطمس معالمه الإنسانيّة والفكريّة والثقافيّة مدة أربع مئة عام، ولكنّني حظيت بالجلوس معها في طفولتي الأولى لنحلق سويّة على سجادة الحكايات والأمثال الشعبية، فوق عوالم أسطورية.. خيالية.. ما زالت تعرّش في أزقة ذاكرتي كسنديانة عتيقة..”.
ما أروعه من وصف لتلك المرأة التي تحمل هذا الجمال الروحانيّ والصّفاء الذهنيّ، ومن خلال سرد هذه الكلمات، يتّضح وبدون قصد أن هذه المرأة هي مَثَلها الأعلى وهي جدّتها الّتي تحمل الكاتبة اسمها الجميل “شهربان” والّتي عاشت طفولتها معها، وما زالت هذه المرأة تذكّرها بكل جميل عذب تحمله رائحة الأجداد، وما يثير الدهشة أن الكاتبة استندت في كتابتها، على بحوث أكاديميّة، ومصادر علميّة ورد ذكرها في آخر الكتاب وليس استنادها على الموروث الشعبي المتناقل في المجتمع فقط.
ولادة الإنسان تشبه إصدار الكتاب، فالولادة بحد ذاتها ألم لا تعاني منه الأمهات فقط، بل يُعاني منه الكُتّاب والكاتبات أيضًا، وكمثل الرقي في جامعة الأمومة هكذا هي الأمور الراقية في إصدار الكتب، إلا أن أبنائنا وبناتنا يعالجون أمورنا بعد أن تتقدم بنا الحياة ولكن كتبنا تعالج أمور المجتمع ككل، وفي هذا السياق تكتب الكاتبة ص 19عن ولادة الكتاب:
“أرقى جامعة تخرّجت منها؛ هي جامعة الأمومة..
وأجمل كلمة نشفتها أٌذني؛ هي كلمة أمي.. ماما.. يمّا..
وبفضل هذه الأكاديميّة العظيمة.. رأى كتابي النور”
ما أروعها من كلمات بسيطة تدلنا على معرفة الكاتبة بقيمة أمومتها وكتاباتها على حدّ سواء فتتابع ص 22
“أحمل شمسًا في قلبي
وفراشًا في روحي
طريق الأمومة..
مليء بالهدايا.. والعطايا
حتى لو عرقلته بعض الأشواك..
ولكن بالصبر والمحبة والاحتواء
سأحصد طيب الثمار..
وستجد الورود طريقها لبيتي..”
وكم هو جميل لو نجمع بين الزمنين، القديم بأموره الطيّبة والجديد بأموره المفيدة، وهذا ما تقصده الكاتبة بالتلويح ما بين القديم الطيب والجديد المفيد كي لا تتكسر المبادئ وتختلط الصور، في ظلّ نظم قانونية وفكريّة قد لا تناسبنا في هذه الأيام، وإنما توجّه أبناء المجتمع نحو الاعتدال وتكتب لكل العائلات، والأسر التّي هي المكون الرئيس للمجتمعات البشرية، وللشريحة الشبابية بشكل خاص؛ إذ تمسد رؤوس الشّباب والصّبايا برفق، وتُخاطبهم بلسان الأم الحنون، “تعالا يا ابني/ ابنتي، نبني بيوتًا تخدمنا، لا نخدمها.. طفلكم بحاجة لتقديركم ومحبتكم واحتوائهم.. للمّسة حانية من يدكم الحنونة.. أنفقا وقتكم الثمين على أطفالكم.. واكتفيا ببيت صغير، يعجّ بالدفء والحنان والمحبة والسلام.. بيت صغير؟ تدفئه شمس روحكم وتُعطّره زهرات قلوبكم..”
تتقدم الكاتبة المتألقة في كتابتها شهربان معدّي، لتقص علينا في صفحة 72 عن تحريم عودة المطلقة عند الموحدين الدروز، بعد طلاقها من زوجها، وهذا الأمر ميزة خاصة لدين الموحدين وساروا بهذا النهج كما سار السلف الصالح، ترمز في بعض الأحيان إلى دين التوحيد التي تؤمن به الكاتبة وتظهر للقارئ محاسن هذا الدين دون أن ترمي بسهام العنصرية والحقد والضغينة أي دين آخر وهذا إنجاز مشرف ورمز رائع من رموز هذا الكتاب، فمثلًا في صفحة 74 تكتب وكأنها تحارب ظاهرة سيئة ومسيئة للمجتمع التوحيدي بأسره في ظل ارتفاع نسبة حالات الطلاق في هذا المجتمع الشرقي المحافظ: “يجب أن تتوفر في عملية إعلان الطلاق ثلاثة شروط، أولها: وجود نيّة عند أحد الطرفين عن الطلاق أمام شهود موثوق بهم، مع إعطاء مهلة للطرفين كي يعيدا النظر في الأمر، وتتابع وتكتب عن دين التوحيد: “دين التوحيد جاء يدعو إلى صيانة خمسة أشياء وحفظها وهي: حفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ العِرض، وحفظ الدين، وحفظ المال، لأنه قوام الحياة وسعادة البشر وعمارة الدنيا، وضمان استمرار واستدامة بقائها وعافيتها لم يكن في ذلك بدعًا، فلقد كانت هذه الخمسة جميعًا نقطة الارتكاز، والمحور الذي قامت عليه الأديان على امتدادها، وتسلسل حلقاتها، وتوالي رسالاتها”، منقولة عن: “مشيخة العقل لبنان”.
يجدر بنا التنويه إلى أن الكاتبة أدخلت في سياق سردها للأحداث نمطًا جديدًا نوعًا ما وهو إدخال الأمثال الشعبية في كلماتها كتوكيد للحدث الذي تكتبه لنا ببراعة لغوية، وتتابع الكاتبة فتكتب جملًا قصيرة في سرد الأحداث الجميلة، وكدت أخالها أنها تكتب شعرًا، نثريات متماسكة وجمل قصيرة، توحي بها كهمسات ناعمة تقع على الآذان الصاغية فتشنف الآذان، وتحدّثنا عن المرأة في شعر المتنبي، وتحيطنا بقصة قصيرة هادفة، وتأخذنا إلى الجزائر وتكتب “لروح صديقة غالية”، صديقتها الشاعرة الدكتورة نورة سعدي مثال المرأة الجزائرية العفيفة الطاهرة التي كانت تلطِّخ نفسها بسرجين المواشي لكي لا ينال منها الجنود الفرنسيين، وكانت هنالك مراسلات بينهن، وتأخذنا لأقوال فريدريك نيتشة وكأنها تبحث في عالم الفلسفة بين كلمات نيتشة في الحديث مع زارادشت، لكنها لا تعتمد عالم الفلسفة والخيال بل تعتمد في كل الكتاب عالم الواقع الحياتي الذي نعاني منه، وتريد أن تصرخ كامرأة وأم ووالدة، لتغير واقع تراه أمام أعينها ولكنها لا تستطيع فعل أي شيء لوحدها، بل هي تصرخ وتنادي بأعلى صوتها بالكلمات ليقرأها ويسمعها الجميع، من أجل الانضمام لهذا الصوت الروحاني من أجل تغيير الكثير من الحالات السلبية في مجتمعنا والتي تتسبب في رواسب سلبية كبيرة تكاد لا تُعالج في الأسر وتترك جروحًا أليمة في نفوس الأولاد الذين يمرون في هذه التجارب، ويعانون طيلة أيام حياتهم كأفراد من مجتمعنا الشرقي المحافظ، وهنا تضع الكاتبة المشكلات قبالة الحلول المنطقية، ليتسنى لنا جميعًا أن نتقدم في منظومة الحياة الاجتماعية الدينية الروحانية الثقافية الفكرية بسلام وأمان.
آخر المطاف:
“لا تترك يدها…!
كلمات من القلب، لك يا عزيزي الرجل:
عزيزي الرجل، بكلّ احترام وتقدير، أختم كتابي بكلماتي المتواضعة لحضرتك؛ أرجوك.. اترك الفكر الضلالي ودعك ممن شوّهوا عقول الناس، بأفكارهم العلمانية الخالية من الروحانية والنخوة والرجولة، صنّ أرضك وعرضك، واثبت في بيتك كالصخر، وعمّر حياتك وبيتك بالإيمان بالله عز وجلّ، وقف ضد العنف والعِناد والظلم، ومصاري الربا والحرام، واتبع المحبة والخير والتسامح وروّض لسانك على الكلام الأنيق والراقي، لينعم أولادك بأخلاقك العالية، وتربيتك الراقية.. واعلم أن سلوكك الراقي، نحو المرأة يعد من أساسيات بناء المجتمع السليم المتماسك، الذي يستطيع مناورة الحياة بسلام..”.
كلمات من ذهب تستحق أن تُسجل على صدر التاريخ، فكم هي بسيطة متواضعة، إلا أن معانيها الحياتية كبيرة جدًا، والالتزام بها واجب إنسانيّ اجتماعيّ، فالكثيرون من أبناء مجتمعنا، يسيرون في طريق وعرة شاقة وتصعب عليهم سبل الحياة، ويجب عليهم اتباع طريق التسامح المجتمعي، والتسامح في أمور كثيرة، كي يتسنّى لهم رغد العيش من دون شجار وصراعات في الأسرة الواحدة، هنا نرى أن من المسؤوليات الجسام في بناء الأسرة في مجتمعنا الشرقي المحافظ تقع على عاتق الرجل، والكاتبة تخاطبه ناصحة له كزميل في العمل الاجتماعي، من أجل مصلحته ومصلحة أسرته.
“يا عزيزي الرجل، أعط المرأة حُبًّا صادقًا، وستجدها تفعل لأجلك كلَ ما ظننته يومًا ما مُستحيلا.. لأن الحب سيجعلكما زنابق تتضوع نشوى بأعذب الأمنيات.. وبأسمى عهود الوفاء.. وصوتين يشدوان في أفق اللازورد.. وشمعتين تتوهجان في معابد النور.. فالحب سيخضّب بيتك بحناء المجد والتوفيق والنجاح.. ويكحّل حجارته بالعزيمة والثبات.. ليبقى صامدًا، شامخًا بوجه الريح العاتية.. وعواصف الزمان.. أرجوك يا عزيزي الرجل، لا تترك يدها..”
ما أروعه من رجاء وكأنها تقول للرجل وتتأسف له على كل ما جاء في هذا الكتاب، وتتوسل له أن يبقى في بيته ويحاول جاهدًا المحافظة عليه صامدًا في وجه عثرات الزّمان، هذا هو الرجل الأمير الذي يجب أن يُقدم على بناء الأسرة بعد أن يقرأ هذا الكتاب ويفهمه جيدًا فهذه النصائح ما هي إلا لمصلحتك عزيزي الرجل، وما فيها من العدل والرحمة خير من ألف محكمة ومحاكمة غير عادلة.
الكاتبة تضع المرأة والرجل في مقياس واحد وتقدم لهم النصائح والإرشادات والتوعية، من دون الوقوف إلى جانب أحد منهما، إلا أنها تحمّل الرجل شيئًا من المسؤولية أكثر من المرأة نوعًا ما، وهي تعطي الحق لكل منهما بإثبات شخصيته وقدراته والعمل على تنمية قدراته الفكرية والعقلية والثقافية، من دون أن يترك الواحد الأثر السلبي عند الآخر، وهكذا تستمر الحياة المشتركة بحرية وعمل مشترك ومساواة بين الرجل والمرأة دون أن يتوصلا لهدم أسرتهم الخاصة، وفي هذا المكان كم أتمنى أن لا تتكرر حالات الطلاق بين الأزواج الشابة، كي لا يتعثر في غبار الطرقات أولادهم الذين جاءوا لعالمنا من دون إذن منا، ولكن الله عز وجل وهبنا إياهم ومعهم حياتنا ستصبح أفضل.
يكاد يكون هذا الكتاب، كمرجع للإرشاد والتوعية، وعلى كل من يقدم على بناء أسرة أن يقرأه ويبحث في تفاصيله ليكون عونًا صادقًا للإناث والذكور على حد سواء، وتحضرني بعض أبيات من الشعر لقصيدة من نظم جميل صدقي الزهاوي، وكأنه بي يصادق ويؤكد كلّ ما جاء في هذا الكتاب:
“يرفع الشعب فريقان *** إناث وذكور
وهل الطائر إلا *** بجناحيه يطير
نحن نعرف أنك تعيشين وأسرتك الكريمة بسعادة وتفاهم، وهذا ما أكّدته الكاتبة ص 22 “شمس الأمومة تدق على شباكي كل صباح وتقول لي: لكِ شيئًا في هذا العالم.. قومي من أجله..”، وبدورنا نشدّ على يدي الكاتبة الأديبة المهذبة صاحبة القلم الرفيع المستوى الأخت شهربان معّدي، ونطالبها بمزيد من الكتابة والإصدارات، فأدبك بات ضرورة اجتماعية في هذه الأيام، ويمكن القول إن هذا هو أدب الإرشاد والنصائح متضمنًا التجربة الذاتية، وعليه كم نحن بحاجة لمثلك في كل قرانا ومدننا لنحافظ على خصوصية مجتمعنا التوحيديّ الروحانيّ الراقي، وكم جميل لو دمجنا عاداتنا وتقاليدنا الطيبة وتماهت في روح العصر بحرية ومساواة، دون أن نلغيها أو نبتعد عنها.
تقبلوا فائق تقديرنا واحترامنا.