يبدو أن أدب الرسائل عاد ليطفو على سطح الأنواع الأدبية المتعارف عليها، فمؤخرا صدر “رسائل من القدس وإليها” للأديب جميل السلحوت والكاتبة صباح بشير، وضمّناه رسائل بينهما امتدت لأكثر من عشر سنوات وقد سبقهما الأديبان محمود شقير وحزامة حبايب سنة 2021، فأصدرا كتابهما “أكثر من حب” في هذا الجانر الأدبي ضمّناه أربع وستّين رسالة امتدت لفترة أكثر من خمس عشرة سنة، وكان أديبنا المقدسي شقير قد أصدر أيضا مع شيراز عنّاب “وقت آخر للمرح” للفتيان والفتيات وهو في أدب الرسائل أيضا سنة 2020
قبل أشهر قليلة صدر للدكتور عمر كتمتو والدكتورة روز اليوسف شعبان اصدار في أدب الرسائل أسمياه “وطن على شراع الذاكرة” من اصدار دار الأسوار في عكا، وقد أهدتني الكاتبة الدكتورة روز اليوسف شعبان نسخة من الإصدار مشكورة. أتممت القراءة قبل فترة وجيزة ووجدتني أتفاعل وأتماهى مع الكاتبين ورسائلهما المتبادلة.
بدأت المعرفة بين الكاتبين ضمن أمسيات ندوة اليوم السابع المقدسية بإدارة الأديبة ديمة السمّان ومن خلال تقنية الزوم، فكانت الرسالة الأولى في الكتاب للكاتبة روز شعبان بتاريخ، 13.3.2022 والأخيرة لها أيضا بتاريخ 10.4.2022 ممّا يعني أن الرسائل امتدت على فترة زمنية قصيرة جدا، أقل من شهر واحد.
تضمّن الإصدار تسعًا وعشرين رسالة جاءت بوتيرة متسارعة، أي أن الكاتبين تبادلا الرسائل يوميا تقريبا، ويبدو للقارئ من خلال القراءة اللهفة بين الطرفين لتبادل مثل هذه الرسائل اليومية، ويُسأل السؤال: وهل يجد الشخص متّسعا يوميا ليكتب رسالة مطبوعة يوميا ويرسلها ولماذا هذه السرعة في الردّ وماذا يجول ويدور هناك من فحوى يستدعي العجلة وعدم التريّث؟
نعم إنه الوطن والحنين والشوق له، الغربة والاغتراب بكل ما فيها من وجع وألم وأمل، أفلا يستحق الوطن أن نوليه اهتمامنا الأكبر. وإنه الأدب ولغتنا الأم العربية التي أحبّها كاتبينا فكانت مسرحًا جميلا وبيدرا نثرا عليه جميل ابداعهما وعصير كلامهما، وإنها الصداقة التي نمت سريعا وتوطّدت ووجدت لها نصفًا مكمّلا ثريّا ليزدادا بها رقيًّا.
يكتب الدكتور المسرحي والشاعر عمر كتمتو من الغربة ومن مكان إقامته في النرويج ويتحرق شوقا لزيارة مسقط رأسه عكّا، عكًا التي كان قد زارها مرة على عجل والتقى بأصدقائه هناك ولكنها لا زالت تسكن روحه بكل ما فيها من ذكريات الطفولة والبيت وشجرة التين المغروسة بجانب البيت والجيران وسبيل الطاسات وغيرها.. ولشدة حنينه تقوم كاتبتنا روز شعبان بزيارة عكا خلال هذه الفترة مرتين وترسل له صور البيت وصور البحر، ونراها تبدي إعجابا بهذه المدينة الساحرة.
في الرسائل أيضا تتطرق شعبان للحديث عن بلدها طرعان ومعالمها وعن بلد أهل زوجها المهجرة حطّين وما تبقى من معالمها، ونراها تسهب وتتطرق للتحدث عن ولدها هشام حين كان في الصف الرابع الابتدائي وقرر أن يكتب وظيفته عن هذه القرية المهجرة، ليردّ كاتبنا على هذه الحادثة ويشارك كاتبتنا قصته مع حفيدته ليليا حيث طُلب منها أن تكتب في موضوع سياسي فاختارت الكتابة عن منظمة التحرير الفلسطينية.
هكذا بكل شفافية وانسيابية جاءت الرسائل دون تكلّف، حتى أن كاتبتنا تتحدث عن مشاركتها ودورها في مؤتمر أدب الأطفال الذي عقده الاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين – الكرمل 48 في قريتها في الخامس والعشرين من آذار بالتعاون مع المجلس المحلي والمركز الجماهيري والمكتبة العامة في القرية، فيما تحدّث كاتبنا عن زياراته لغزة ومشاركته في كتابة خطاب الراحل ياسر عرفات الذي ألقاه بمناسبة استلامه جائزة نوبل.
يغلب على الرسائل اللغة الشاعرية، كيف لا والكاتبان يكتبان الشعر أيضا، استهلت شعبان رسائلها بالافتتاحية ” صديقي المغترب” وأما كتمتو فتوجّه إليها بالعبارة “صديقتي في الوطن”. تضمّنت الرسائل العديد من المقاطع الشعرية لهما او استشهدا بأبيات شعرية لشعراء آخرين، ويظهر أنهما قد تبادلا دواوينهما واطلع أحدهما على كتابات الآخر.
تمّ عنونة كل رسالة بعنوان خاص بها، وأظن أن هذه العنونة جاءت لاحقا حين طباعة الكتاب ونشره، وقد يكون الكاتبان تعمّدا عنونة الرسائل لتأتي كل رسالة وحدة قائمة بذاتها يمكن استخدامها كنصّ لقراءة فردية. بعض العناوين مأخوذة من شاعرنا الكبير محمود درويش؛ حقيبة السفر، وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافرا، على هذه الأرض ما يستحق الحياة، وبعضها فيه الوجع والغربة أو إشارة الى ذكريات الطفولة في الوطن وهي عناوين جاذبة تستهوي القارئ؛ من عبق الوطن، وجع الرحيل، فاطمة نداء البحر، شجرة التين، الظلال، عكا، الطفولة، بيت ليس لنا، انا والبحر، اغتراب في الوطن وغيرها، لهذا كلّه ولهذا الوطن الذي يسكن ويقلق كاتبينا جاء عنوان الإصدار “وطن على شراع الذاكرة”، ليس الوطن منقوشا فقط على شراع الذاكرة التي لا تنتسى، إنما حلّق عاليا ورفرف متألقا ليرسو هناك بين القرّاء والمعجبين ليشهد ويبيّن ويؤكّد عشق الوطن رغم سنوات الغربة الكثيرة ومذكّرا أن لا وطن للمغترب سواه.