شوكُ الصّبرِ وأناملُ العمرِ

(تحيّةٌ ووردةٌ لمضر الحاج الذي تخرّج من كليّةِ الطّبِّ، في جامعة “سيجد”، في هنغاريا، قبل أيّامٍ، ولكلِّ خرّيجٍ، وتحيّةٌ معطّرةٌ بشذى الوردةِ إلى كلِّ أمٍّ وكلِّ أبٍ وقفا خلفَ ابنهما المتخرّج داعمين مشجّعين)

في هذه الأيّامِ الحزيرانيّة، التّمّوزيّةِ، الآبيّة، القائظةِ ينضجُ الصّبرُ أكوازًا تتحدّى الحُمرةَ فوقَ خدودِها، وهي تقفُ على مسرحِ الحياةِ البهيجةِ بالنّضوجِ المُنسجمِ مع ألوانِ الحضورِ، وتوقّعاتِ الجذورِ، وطموحاتِ النّسورِ. لا تُقطَفُ هذه الأكوازُ الشّهيّةُ إلّا في هذا الموسمِ وهو يشتعلُ لهيبًا، وإلّا بعدما ينالُ كلُّ كوزٍ من لهيبِها نصيبًا.

في الكوزِ سوادُ اللّيالي، من السّهرِ والضّجرِ، منَ العِلَلِ والبَلَلِ، منْ عجزِ اليأسِ وتمرّدِ البأسِ، مِنْ ذُلِّ الانكسارِ وزُهُوِّ الانتصارِ، ومن قعقعةِ السّلاحِ حينَ يلتحمُ الفارسانِ، طالبُ راحةِ الجسدِ وهدوءِ النّفسِ، وطالبُ العلمِ مِنَ المَهدِ وإلى الأبدِ، فكيفَ يتعايشانِ في ذاتٍ واحدةٍ بسلامٍ ووئام وأمانٍ؟!

فوقَ صدرِ الصّبرِ بياضُ شوكِ القهرِ، وملحُ البحرِ، ووعدُ الخيرِ، وحُلمُ العمرِ. هي طبقاتٌ تُغلّفُ القلبَ وتشكّلُ الذّاتَ، لن يصلَ القلبَ مَنْ يقفُ عندَ حدِّ الشّوكِ في معركةِ البقاءِ؛ يتصارعُ فيها الشّقاءُ والهناءُ، تُهزَمُ فيها الأيادي السّوداءُ، وتنتصرُ فيها الأيادي البيضاءُ.

شجرةٌ خضراءُ، تتمسّكُ بلونِها، بشحمِها ولحمِها، بجسمِها وروحِها، أينما ألقوا بقطعةٍ منها اتّصلت بالأرضِ وعرفتْ طريقًها إلى عمقِها، فبينهما تاريخٌ عريقٌ، وحبٌّ حقيقٌ، وانتماءٌ سحيقٌ. الأخضرُ لونُ شجرِنا، وعصارةُ خيرِنا، ورضا جُهدِنا. يسمحُ الأخضرُ لبعضِ الحُمْرةِ والصُّفرةِ أنْ تُشاركَ بعضَ ملامحِ الكوزِ عندما يتخيّلُ النّاسَ تستهويهِ وتأكلُه بشهيّةٍ وابتسامةٍ بهيّةٍ.

في الكوزِ حمرةُ الدّمِ العربيِّ الذي يسري في عروقِ الأرضِ، دمٌ يدورُ في التّرابِ، في الوديانِ والجبالِ والهضابِ، في الأشجارِ والأزهارِ والأعشابِ، دورةُ حياةٍ واحدةٌ لا ينفصلُ فيها مَنْ عليها بِمَنْ فيها، وما عليها بِمَا تحتَها؛ كلُّ ما فيها من ملامِحِنا الجميلةِ، فكيفَ تكونُ جميلةً دونَنا؟!

في الصّبرِ تكتملُ حياتُنا وصفاتُنا وروحُنا؛ في الصّبرِ تتّحدُ عناصرُ البقاءِ والعناءِ والجلاءِ والفداءِ والعلاءِ والبهاءِ؛ في الصّبرِ تلتحمُ روحُ الحياةِ بِجسمِها؛ في الصّبرِ يبلغُ الغارقُ في ظلمةِ اللّيلِ، مهما ادلهمّ اللّيلُ، يبلغُ بَرَّ نورِ الفجرِ؛ في الصّبرِ شوكٌ حينَ تنزعُهُ تبلغُ لذّةَ الثّمرِ.

في هذه الأيّامِ تكثرُ الأيدي التي تقطفُ هذه الأكوازَ، وتتّحدُ العناصرُ التي تكوّنُ تاريخَ البلادِ وحاضرَها ومستقبلَها؛ في هذه الأيّامِ تنضجُ البسمةُ على الوجوهِ كما ينضجُ الصّبرُ في أعالي الصّبرِ، يقطفونَ الأكوازَ الضّاحكةَ، ونقطفُ الفرحَ الرّاقصَ في قلوبِ الأحبّةِ الصّامدينَ الصّابرينَ.

على امتدادِ ساحلِها الطويلِ الدّقيقِ الأنيقِ الجميلِ يرقصُ الموجُ لتخرّجِ الأبناءِ، مِنَ المدارسِ والمعاهدِ والكلّيّاتِ والجامعاتِ، وتلمعُ الشّمسُ على وجهِ ماءِ البحرِ حينَ يهدأُ ذهبًا خالصًا، هو بعضٌ من كنوزِها الدّفينةِ والجليّةِ والثّمينةِ، ويكتسبُ الكرملُ شيئًا من قاماتِ أهلِنا المُعتزّينَ بألوانِهم، وأَقدامِ أَكبادِهم، وعظيمِ آمالِهِم.

لقد غدا تخريجُ الأبناءِ مَعْلمًا من معالِمِ صيفِ بلادِنا، تُشرقُ فيه شمسُنا كلَّ صبحٍ على نجاحٍ جديدٍ تترسّخُ فيه جذورُ الصّبرِ في عمقِ البقاءِ، وتنتصبُ فيه القاماتُ التي تقطفُ أكوازَ الصّبرِ بفخرٍ متواضعٍ وتواضعٍ مفتخرٍ، وتستقرُّ النّفوسُ القَلِقةُ على طلوعِ الفجرِ في اللّيلِ الطّويلِ.

إياد الحاج

كفرياسيف

29/6/2022

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .