رأينا في المقال السابق قول (سيجموند فرويد Sigmund Freud، -1939)(1): «إنَّ الشُّعراء والروائيِّين أعزُّ حلفائنا، وينبغي أن نقدِّر شهادتهم أحسن تقدير؛ لأنهم يعرفون أشياء.. لم تتمكَّن بَعْدُ حِكمتنا المدرسيَّة من الحُلم بها. فهُم في معرفة النفس علَّمونا، نحن معشر العامَّة؛ لأنهم ينهلون من موارد لم نُفلِح بَعْدُ في تسهيل ورودها على العِلْم.» ذلك أنه يتعاور التجربة الأدبيَّة تيَّاران انفعاليَّان، يتداخلان تداخلًا حميمًا غامضًا في عمليَّة الخَلْق الفنِّي، دون انفصال: الأوَّل تيَّارٌ وجدانيٌّ نفسيٌّ، والآخَر تيَّارٌ ذهنيٌّ فِكري. وفي جِنس الشِّعر- حيث تكون «أخلص صورةٍ لتجسيد الأدب»(2)- يكون التيَّار الأوَّل هو الأساسي، وهو الفرع الفعَّال، أو الانفعاليُّ، المتكوِّن من تفاعل نزعاتنا. ويكون نشاطه استثنائيًّا لدَى الشاعر بوصفه فنَّانًا؛ فالشاعر– كما يقول (ابن سينا)(3)- ممَّن «تُخلَق فيه القوَّة المتخيِّلة شديدةً جِدًّا، غالبة». والقياس الشِّعريُّ- حسب ما يذهب إليه أرباب المنطق- «قولٌ مؤلَّفٌ من مقدِّماتٍ مخيِّلةٍ تؤثِّر في النفس تأثيرًا عجيبًا من قَبْضٍ أو بَسْط»(4). ولذا يقْدر الشاعر أن يرَى الأشياء بدهشةٍ طفوليَّةٍ ممتدَّة، كأنَّه ينظر إليها أوَّل مرَّة، معتمِدًا على إحساسه المباشر في الربط بين التجارب والصُّوَر، ماضيها وراهنها.(5) في حين أنَّ التيَّار الآخَر (الذِّهني الفِكري) يُعَدُّ ثانويًّا، من السهل نِسبيًّا تتبُّعه؛ فهو إلى حدٍّ ما يتابع نفسه بنفسه، لكنَّه الأقلُّ شأنًا.(6)
ومن ثَمَّ فإنَّ وظيفة (التفكير)، الذي يصحَب التجربةَ الشِّعريَّة، إنَّما هي تنظيم التجربة؛ فالتفكير «بمثابة تُرسٍ مهمٍّ في آلة، وظيفته أن ينظِّم الحركة، بَيْد أنَّه بدَوره تُديره الآلة ذاتها»(7). إنَّه تُرس مهمَّته ضروريَّةٌ في الخَلْق الشِّعري، للسيطرة على القصيدة، وعدم الاستسلام التامِّ للانفعالات الوجدانيَّة، وقبول كلِّ ما يتبادر إلى الذِّهن.(8) إلَّا أنَّها قد ظلَّت المبالغة في مكانة العنصر الفِكريِّ عاملًا لإساءة فهم الشِّعر والتقليل من شأنه.(9) إنَّ «الشاعر بقوله لا بتفكيره، إنَّه خالق كلمات، وليس خالق أفكار، وترجع عبقريَّتُه كلُّها إلى الإبداع اللُّغوي».(10) لا نكران هنا لوجود محتوًى للُّغة الشِّعريَّة، ولا معنى لفصلٍ بين الشِّعر والفِكر، لكن لا بُدَّ- لكي يكون النصُّ شِعرًا- من عدم تسليم ذلك المحتوَى وحده القيمة الشِّعريَّة في القصيدة(11)، كما لا بُدَّ من أن يخضع المحتوَى الفِكريُّ لشِعريَّة اللُّغة الشِّعريَّة، لا أن يخضع الشِّعرُ لنثريَّة اللُّغة الفِكريَّة.
إنَّ العملَ الشِّعريَّ– بلغة علماء النفس– ما هو إلَّا توتُّرٌ نفسيٌّ، يُهدَف ببثِّه خارجيًّا إلى خفضه داخليًّا؛ لإعادة الاستقرار أو التوازن.(12) وإذا كان ذلك ما يحدث بين الذِّهن والوجدان في عمليَّة الإبداع الشِّعري، فإنَّه يحدث نظيره في عمليَّة التلقِّي؛ فالقصيدة بمخاطبتها نزعات المتلقِّي الانفعاليَّة المعقَّدة قد تُحْدِث أَثَرًا اضطرابيًّا، وقد تُحْدِث أثرًا يزيل الاضطراب، لكنها في الغالب تجمع بين هاتين العمليَّتين. وكذا فإنَّ الفرع الفِكريَّ في عمليَّة التلقِّي يظلُّ محكومًا بالفرع النفسي؛ لأنَّ السبب في سير الفرع الفِكريِّ في مسراه بنجاح- مِثْل فَهْم الألفاظ التي استعملها الشاعر وتَـمَثُّل بنيتها- هو أنَّ إحدى نزعاتنا تستجيب وَفق ذلك الاتِّجاه الخاصِّ من الفَهْم والتَّمَثُّل؛ من حيث إنَّ حركةَ الألفاظ وجَرْسَها يؤثِّران تأثيرًا عميقًا ومباشرًا في نزعاتنا قبل أن تكوِّن الألفاظُ لدينا مفاهيمها الذِّهنيَّة، ولاسيَّما أنَّ الألفاظ الشِّعريَّة بطبيعتها مفعمةٌ أصلًا بالالتباس الدلالي، حتى لقد يُمْكِن في بعض الحالات إغفال المعنى إغفالًا يكاد يكون تامًّا أو إهماله، دون خسران الكثير. (13)
ـــــــــــــــــــــــ
(1) S Freud, (1970), Le délire et les rêves dans la Gradiva de W. Jensen, (Paris: NRF; Gallimard), p. 127.
(2) انظر: تودوروف، تزفيتان، (1990)، الشِّعريَّة، ترجمة: شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر)، 12.
(3) (1975)، الشِّفاء (الطبيعيات: 6- النفس)، تحقيق: جورج قنواتي، وسعيد زايد، مراجعة: إبراهيم مدكور، (القاهرة: الهيئة المِصْريَّة العامة للكتاب)، 154- 155.
(4) الصَّفَدي، صلاح الدِّين، (1305هـ)، الغيث المسجم في شرح لاميَّة العَجَم، (القاهرة: المطبعة الأزهريَّة المِصْريَّة)، 1: 30.
(5) يُنظَر: سبندر، ستيفن، (د.ت)، الحياة والشاعر، ترجمة: مصطفى بدوي، (القاهرة: مكتبة الأنجلو المِصْريَّة)، 32-34.
(6) يُنظَر: رِتشاردز، أ. أ. I. A. Richards، (د.ت)، العِلْم والشِّعر، ترجمه: مصطفى بدوي، راجعته: سهير القلماوي، (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصريَّة)، 17.
(7) م.ن، 19.
(8) يُنظَر: بكَّار، يوسف، (1979)، بناء القصيدة العَرَبيَّة، (القاهرة: دار الثقافة)، 97.
(9) يُنظَر: م.ن، 31.
(10) كوهن، جان، (1986)، بنية اللُّغة الشِّعريَّة، ترجمة: محمَّد الولي ومحمَّد العمري، (الدار البيضاء: دار توبقال)، 40.
(11) يُنظَر: م.ن، 41. وقارن: أدونيس، (1989)، الشِّعريَّة العَرَبيَّة، (بيروت: دار الآداب)، 23- 24.
(12) يُنظَر مثلًا: مصطفى، (1981)، الأُسس النفسيَّة للإبداع الفنِّي في الشِّعر خاصَّة، (القاهرة: دار المعارف)، 151- 154، 305- 306.
(13) يُنظَر: رتشاردز، 23، 27- 29.
(رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا- الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)