أستلّ عطرًا لأتحدّث عن عطر بروح شعر سعاد شواهنة – جنين الضفة الغربية – فلسطين

في التّاسع من أكتوبر، أي على مسافة شهر وبضعة أيّام من الآن التقيتُ الأديب والشّاعر فهيم أبو ركن، وقد كان في زيارة مع مجموعة من اتحاد أدباء الكرمل إلى مدينة جنين ومواقعها الأثريّة، سمعته يلقي فيضًا من الشّعر، وقد كان لي أنْ أطّلع وأطالع، وأقرأ الدّيوان الشّعري “أستلّ عطرًا”، وهو ديوان شعريّ صادر في طبعته الأولى عام 2019، ويقع في مئة وثلاثة وثلاثين صفحة من القطع المتوسّط، وجاءت لوحة الغلاف بتوقيع الفنّانة سلوى عثمان.

لا أذيعكم سرًّا إذ أقول إنّني لا أحب الاستهلال بهذا الشّكل التّقليديّ الّذي أحصي فيه عدد الصفحات، ولحظة ميلاد الكلمات ونشرها، لكنّني أحسست هذا مختلفًا هذه المرّة حيث أقرأ الكتاب في شهر أكتوبر “تشرين الأوّل” من العام 2021، ويصدر الكتاب في الشّهر نفسه من العام 2019، أمسك إذن بين يدي كتابًا يبلغ العامين، وأحتفل مع صفحاته في عامها الثّاني.

أفكّر الآن في الوقت، كثيرًا تراودني السّاعات، أسمع دقّاتها، دورانها، ولا أقصد أنّ الوقت من ذهب، هو من شيء ما يجعلنا متساويين جميعًا أمامه، الغني والفقير، القوي والضّعيف، النّابغة والأحمق كلّنا يملك الوقت، لكنّ قليلًا منّا من يحسن تشكيل الوقت، وإعادة صياغته بروح جديدة، أتطلّع الآن إلى صفحات الكتاب وأجدها محاولة جادة لإعادة صياغة الوقت، وتشكيل وعيه الذّاتي، نعم هي محاولة جادة لصبغ الوقت المحايد بصبغة الوعي والحكمة، ودفعه نحو الوقوف في سياق ما، بخطوة جريئة تنفي عنه الحياد والتنحّي.

أتساءل أحقًا يمكن للوقت أن يقف محايدًا لا يميل إلى هنا، أو يحيد إلى هناك، ويظلّ جرس السؤال يئن في نفسي طويلًا طويلًا، ومن الأسهل لي أن أذهب باتّجاه الإجابة النّموذجيّة الخارقة، تلك التي نتمنّاها جميعًا، لكنّها ليست ما يحدث فعلًا..

“أستلّ عطرًا” صفحات أقرأها وقد تجاوزت صفحاتها الأولى الّتي سأعود إليها بعد إتمام هذه السّطور، فالصّفحات الأولى تقدّم حالتين فريدتين في كتاب شعريّ، الأولى تبدأ بشاعر يكتب مقدّمًا لكتابه، ليس ليعرّفنا به، و لكن ليطوف معنا في خطوات إعداد هذا الكتاب، ويشكر عددًا من الكتّاب والنّقاد الّذين قرؤوا النّصوص وأبدوا رأيهم قبل الطّباعة، أمّا القسم الثّاني فتضمن دراسة أسلوبيّة لأنماط الأساليب الإنشائيّة الّتي اتّبعها الكاتب في كتابة مجموعته، وأستلُّ كثيرًا من الجرأة والشّجاعة في نفسي لأكتب بعد كلّ هذا الكثير الّذي قيل في الكتاب حوله، وعنه، وفيه بعد عامين من إصداره، ولا أكتب لأنّ الكتاب صدر حديثًا، أو قرأته حديثًا، لكنّ التراتبيّة الفكريّة الّتي يقدّمها الكتاب تقدّم حالة جديدة يخرج فيها الفرد من ذاته، فتكون أناه صاخبة متحدّثة بألم الأرض والبلاد، قبل أن يعود ثانية إلى الذّات وتجليّاتها الكبرى الخافتة الّتي لا يدري كنهها أحد.

وطن:

لم يكن الوطن للشّاعر كلمة مجرّدة، وليس قصيدة يتغنّى بها لبعض الوقت في حفل هنا، أو دعوة هناك، بل كان الوطن صخبًا لكثير من التّداخلات، الارتياب، الحلم، والجغرافية، وترجم هذا إلى:

وطن الأمنيات:

قدّم الشّاعر تسع قصائد وجمعها في باقة من ورد الوطنيّات، فكانت كلماته روحًا من نور محبة ترجمها كلمات على جسر الأرض، وما زال يستلّ كما يقول تمامًا، ويركض نحو النّار، مثخنًا بالجراح، يدافع عن حلمه بالضّياء والفجر، من غمد قلبه يستلّ حبًّا، ويفتح صدره مشرّعًا للأمل والحلم:

هذي العظام المنثورة على الرّصيف

هذي حراب ودروع

إنّني فجر قادم

يعيد الخضرة صنوبرًا

خروبًا زعترًا

ويعمّق الشّاعر من خلال نقشه الكلمات حالة التّواصل الإنسانيّ الرّوحانيّ بين الإنسان والأرض الّتي هو امتداد لترابها، بثّت فيه من روح طينها، وعادت خضرتها ونباتها ليكون سرّ الحياة.

 

وطن أممي:

في روح ووعي أبو ركن الإنسانيّ ذاكرة دافئة للوطن، وواسعة بامتداد أمّة، قد لا نعرف عنه في جيلنا هذا غير بضع أغان: “وطني حبيبي الوطن العربي يوم ورا يوم أحلامه بتكبر، وانتصاراته مالية حياته….”، وكثيراً من خطابات راسخة خالدة بصوت النّاصر، …….  هذه الأصوات والصّور الّتي بالكاد نقرأ عنها، ونراها في بعض الأعمال التّلفزيونيّة الكلاسيكيّة إمّا مؤرّخة لهزائمنا المتلاحقة 1948،1956،1967 أو متغنّية أكتوبر رمضان 1973.

“حلو يا مجد.. يا مالي قلوبنا.. حلو يا نصر.. يا كاسي رايتنا.. حلوة يا وحدة جامعة شعوبنا.. ”

في وعي الشّاعر صوت ينادي أمّته، وانتماء روحيّ إنسانيّ يستطيع من خلاله أن يصدح بحنجرة مجلجلة، ويبدو هذا واضحًا من امتداد المدى الصّوتيّ للكلمات والعبارات الّتي اختارها ونقشها في هذا الباب من الوطنيات، وهنا كانت الأنا الّتي تحدث فيها هي العربيّ الهائم في تيه وشقاء الآن المتعبة، العربيّ الّذي يرى في الأمّة ضوءًا ما في نهاية الحلم.

يا أمّة العرب

المجد مات في دمشق

كيف جاء الذّل

والحياء من عزّتي هرب

وتتنوّع القوالب الشّعريّة فيستخدم الشّعر العموديّ، والموزون، والحرّ، والمنثور، وتتعدّد الأساليب اللّغويّة ينادي حينًا غائبًا يثق أنَه لا يسمعه، ولا يجيبه إن سمع، “يا أمّة العرب” وينادي شريكًا متألّمًا يقاسمه الوجع: يا أختاه، يا أمّاه…” وهنا لم يكن النَداء عِتابًا، أو لحاجة في نفسه، لكنّه ينادي تحبّبًا، ومواساة، لا تفزعي…لا تجزعي … امسحي الدّموع.

وطن الجغرافية… وحكايات الفقد:

على هامش الوجع جغرافية أوطان تكسر، تتشظّى، تغيب وفي الغياب نتوه نحن، نضيع ولا يبقى منّا إلا كلمات، وبها نحفظ كثيرًا من الحكايات، من الحلم، من الجغرافية الّتي صارت تتغير على الأرض، وتحرق على الورق.

بروح الكلمات نادى أبو ركن يا شام أركان دمشق، وشوارع حلب، ومآذن اليمن، وأنهار العراق، وسفوح الكرمل، وتلّة في سخنين، وجبلًا في الجليل، وفي هذه المرّة كان ينادي ليس بحثًا عن صوت أو صدًى يعود إليه، لكنَه ينادي ليقول إنّني لا زلت أحتفظ بكم رغم حكايات الفقد، فأنتم وطن الجغرافية الّتي لا يمكن أن أنساها وأنسلخ عنها.

ومن صخر الجليل عصرت زيتًا…فصار الموت أهون من هواني

دافع بعلمك واستلم سرد الحكاية بالحكم

الوجد … ووجدانيّات العتاب:

أما روح الحكاية الثّانية، فيطل بها الشّاعر من خلف نافذة زجاجيّة، متوشّحة بألوان الخريف الرّمليّة، يصعد الوجد في روحه ثمان طبقات، ولكلّ منها قصيدة كتبت بروح من ألم، يغنّي الوجد وجعًا، ويناجي المحبوبة قهرًا، ويشتاق لها ألمًا، وتدير له ظهرها كبرياءً، وتترك أبوابها مشرّعة، فما التفتت عنه إلا ليظلّ واقفًا في بابها…

تُطِلّينَ ولا تُطيلين

تحملين حنينًا

تشعلين شوقًا

وتعبثين بشغاف القلب

 

وجدانيات الغياب:

” تحدّثنا عن الجنون و تمنّيناه، و عندما وصلناه… رفضناه” كانا على مسافة وحب، هكذا تمامًا كما تشعل النّار في ليالي الشّتاء ليسري الدّفء إلى جسدك، لكنّك تظلّ حريصًا ألّا يلامس أطرافك، أو يأتي على شيء منها:

أحاول ألّا أغرق

في عينيها شعر وبحور

يا حظ عاشق لعب اللّهيب بأصابع

في الوجد لا يقدّم الشّاعر صورة لجماليّة اللّقاء، لروح القلب وصهوة النّفس، لكنّه يشعل الحروف شوقًا، شهوة، وشغبًا، تريد، وتنتظر، تقترب، وتجزع فتهرب كما الطّيف قبل أوان الانصهار.” نسينا نفسينا معك، ونسيناك … والفجر لاح.

 

بعيدة هي… قريبة هي… لكنّه لا يتوقف عن مناجاتها، يحدّثها، يبتهل إليها علّها تعود فتروي عطشه، وتسقي وجده، وإن كان يستخدم صيغة الأمر في كلّ حديثه إليها منذ بداية وجدانيّاته، لكنّها صيغة الأمر الّتي يحفّها الرّجاء والتّوسل، وتنقطع فيها خطوط الحنجرة، فهو لا يلقي عليها أوامر عسكريّة…

“اسمعي يا وجع أحلامي اسمعي

لن أرحل فلا تقطعي

نشوة الخشوع

البعد عنك شجون

والقرب منك جنون.

 

وما زال الفقد:

هل أحدّثكم عن اللّغة قليلًا، عن “ما زال” فأقول إنها “ما” العافية تنفي الفعل فتنفي زوال الفقد حتّى الآن، أو أحدّثكم عن اللّغة وعن “ما” أخرى مصدريّة تثبت استمرار الفعل حتّى الآن، فتقول إنه ثابت لا يغيب حتّى الآن، وإنْ كان المعنى واحدًا في الاثنتين، والفقد موجع، كان وما زال، فإنّ الوقوف بباب الموت أقسى، يسجّي الشّاعر فهيم أبو ركن روح الوجع والفقد في كلمات يرسلها لأرواح من غابوا، مراثٍ هكذا يعنونها حتّى لا تخرج عن سياقها العامّ، لكنّها حواريّات أكثر منها مراثٍ، الشّاعر موجوع لفقده، لكنّه لا زال قادرًا على إعلاء ضمائر الخطاب، فيستخدم ضمير المخاطب لا الغائب، و يناجي الغائبين سميح القاسم، محمود درويش، نزيه حلبي.

تغيب وأناجيك:

وفي المراثي يقدم الشّاعر ثلاثة أطوار من الشّعور، ويبدو هذا واضحًا في العناوين أوّلًا، فحين يقول فارس المنابر، يذهب بحديثه إلى سميح القاسم، هو ضمير المخاطب، وهي أنا المتكلّم الّتي يرسلها إليه، لكنّه يحدّثه روحًا فارسة كانت على كل المنابر، وذكراها تبقى:

“أتذكّرك… وأشتاق إليك

ابقَ ..  ابق كما أنت

اسمع صوت أدمعي

يا ساكن الغار

أنت لست غائب

أنت ظلّ الورد على الأرض….”

تغيب هذا محال:

وفي طور آخر للغياب يطوف الشّاعر في دهاليز الإنكار، كأن تصديق الغياب صعب هذه المرّة، ويقول في عنوان قصيدته “لن أكتب عن درويش … بل الأولمبياد”!!!  فمن زاوية ينكر غيابه، وفي باب آخر يؤرّخ للحظة الوجع هذه بتزامنها مع الألعاب الأولمبيّة…. ولا تقل غاب ذات أولمبياد بل هكذا الأولمبياد سيذكر ذات درويش

كان يوم درويش

حدث يوم درويش

ومن الواضح في طريقة صقل الكلمات في القصيدة، أنّها كانت قصيدة ذات وجع وفقد، كلماتها فيها الكثير من الألم، والتخبّط، فيبدو أن الشّاعر كتب متوجّعًا، وعاتب وجعه وهمّ مغادرًا الورق، ثم عاد إليها معتذرًا فروى قدرًا كبيرًا من خطوات ولحظات عاشها درويش، ثم ألمه الفقد فهام على وجهه منكرًا، وبقي على هذا عهدًا كبيرًا من الوقت، فامتدّت به القصيدة، وأظنّها ما تزال، إلا أنّه ربّما أضاع قلمه فتوقّف عن بثّ ما في روحه.

قمر آخر غاب:

في مواضع رثائه الأولى استخدم الشّاعر كلمات الفقد والغياب بأفعالها الصّريحة والمواربة، لكنّه لم يسمح لها أن تكون مباشرة فهو لا يصدّقها، أما في هذه المرّة وبينما يرثي موت نزيه حلبي، بدأ كلماته الأولى بالغياب صريحًا ومواربًا: “تغيب النّجوم وتصمت الأطيار…. وتسافر بعيدًا أجمل الأقمار”، ويعود متحدّثًا عن ألم الفقد في نفسه، ووقعه عليه: “خبر صادم ارتجفت له الأزهار، حزن قادم حط واستوطن الدّار” ونزيه حالة من الفكر الإنسانيّ والمهنيّ فكأنّما يعزّي مهنته الصّحافة غياب صحفيّ مهنيّ عن قلمه، حيث صار في الغياب.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .