لو عرف الزيتون غارسه!  بقلم: شاكر فريد حسن  

هناك علاقة عضوية وطيدة بين الإنسان الفلسطيني وشجرة الزيتون، لما تمثله من رمزية تاريخية وثقافية، كرمز للصمود الفلسطيني والتمسك بالأرض حتى الجذور والبقاء في الوطن الغالي المقدس.

وينتشر في الأراضي الفلسطينية عدد كبير من أصناف الزيتون، التي تم اصطفاؤها وتحسينها عبر آلاف السنين ليلائم كل صنف الغرض من زراعته، ومن هذه الأصناف: الزيتون السوري/ الشامي، والمليسي، والبري، والنبالي المحسن، ومرحابيا، والرصيعي، ومعالوت، والذكاري وغير ذلك من أصناف.

وفي موسم الزيتون، الذي يبدأ عادة في شهر تشرين أوّل، تتكثف جماليات عديدة، ويتداخل في صورتها الكلية الصمود والجّد والأصالة والبهجة والذكريات الجميلة.

وفي الأدب الفلسطيني لازمت شجرة الزيتون الحديث عن رمز ثقافة أهل فلسطين، وفي رواية أم سعد للروائي الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني فإن لشخصية الواقعية للسيدة الرفيعة ترتكز على انفعالات وجدانية تحركها العلاقة مع الأرض وغرس أشجار الزيتون وقطف حباتها. أما في رواية “العشاق” للكاتب رشاد أبو شاور تبدو شجرة الزيتون عنصرًا دائم الحضور في الأحداث ورفيقًا دائمًا يلازم أبو خليل، وعن ذلك يقول أبو شاور: “الفلاح الفلسطيني وشجر الزيتون وجهان لشيء واحد، وهي بالنسبة له حقيقة كفيلة بمناهضة مزاعم صهيونية باطلة تريد ابتلاعها، وبذلك يشعر إنها تقتلعه ويرى في زوالها نهائيًا زوال وطن”.

وعلى الدوام شكلت شجرة الزيتون عنوانًا و”موتيفًا” أساسيًا بارزًا في القصيدة الفلسطينية والشعر الشعبي الفلسطيني، ونجدها شديدة الحضور، قوية الملامح، رائعة النبض، فيها دفء وحرارة التجربة. وقد أبدع الوجدان الجماعي الفلسطيني في كلمات أغاني الدلعونا، التي صاغ ايقاعاتها مجبولة بعرق الفلاح وعبق الأرض والتراب والتاريخ المضمخ بدماء الشهداء يزكيها بروائح التضحية والفداء، ويتجلى ذلك في هذه الأهزوجة الشعبية:

الزيتون اشتاق اللي زرعوها

وزيتات الموني منها أخذوها

عودوا تجاه اللـه عودوا شوفوها

الأوراق اصفرت، ذبلت العنوقا

شعبي للوطن قدّم هدية

روحه العزيزة لأجل القضية

ولا يمكن يرضى بالصهيونية

ع تراب بلادي أرض الزيتونا

وتقودنا أغاني الدلعونا للتقدير الشعبي للقعدة والجلوس تحت ظلال وأفياء الزيتونة، وملتقى العشاق وأهل السمر في ذلك الزمن الجميل، حيث نستشف معاني الغزل والوجدان من خلال هذه الأبيات:

 

غربي المارس، شرقي المارس                   دخلك لفيني أكلني القارص

بكرا يا بنيّا بتيجي المدارس                        ونتلاقى سوا بفاي الزيتونا

على دلعونا ليش دلعتيني                           اعرفتيني شايب ليش أخذتيني

سقا اللـه ايام العنب والتيني                          وأنا واياكي بفي الزيتونا

شفت الحلوة تحت الزيتوني                        من اول نظرة علقت عيوني

باللـه يا اهلي اوعوا تلوموني                       بحب السمرة أنا المجنونا

طاحت تتخطم بالثوب الأزرق                      واللي يعاديها في البحر يغرق

حلّت العصبة وبين المفرق                           اللـه يجمعنا بفي الزيتونا

بظِل الزيتوني وفي ظل التيني                     بطلب يا حلوي منك تلاقيني

حبك يا سمرا هللي ساليني                         وقضيت العمر منك محروما

وشاعرنا الشعبي الأستاذ سعود الأسدي، أمير القصيدة المحكية، كثيرًا من غنى وتغنى وتغزل بالزيتونة وكأنها ست الصبايا، فلنسمعه يشدو قائلًا:

زيتونتي يا مظللة تراب الجدود يا موشحة بالعز في عرق الجبل

يا خفقة الموال ع شفاف الخلود يا حلم اشواق العذارى للقبل

يا بسمة الاطفال في ليل الوعود يللي العطايا من كفوفك تنقبل

في كرمك الفلاح غنى للوجود كلمات خلو الكون يصحى من الخبل

وهذا شاعر الكفاح والمقاومة وسيّد الكلام الراحل محمود درويش الذي أطلق على ديوانه الشعري الثاني أوراق الزيتون”، يفتتح قصيدة له بهذه الكلمات:

لو يذكر الزيتون غارسهُ

لصار الزيت دمعا!

يا حكمة الأجدادِ

لو من لحمنا نعطيك درعا!

ثم يؤكد على بقاء الفلسطيني في أرضه وزيتون الشعر، قائلًا:

لا يعطي عبيد الريح زرعا!

إنا سنقلع بالرموشِ

الشوك والأحزان.. قلعا!

وإلام نحمل عارنا وصليبنا!

والكون يسعى..

سنظل في الزيتون خضرته،

وحول الأرض درعا!!

وفي قصيدة أخرى له بعنوان “شجرة الزيتون الثانية” يقول:

شجرة الزيتون لا تبكي ولا تضحك. هي

سيدة السفوح المحتشمة ظلها تغطي

ساقها، ولا تخلع أوراقها أمام عاصفة.

تقف كأنها جالسة، وتجلس كأنها واقفة.

تحيا أختاً لأبدية أليفة وجارة لزمن

يعيها على تخزين الزيت النوراني وعلى

نسيان أسماء الغزاة، ما خلا الرومان

الذين عاصروها واستعاروا بعض أغصانها

لضفر الأكاليل. لم يعاملوها كأسيرة حرب،

بل كجدة محترمة ينكسر السيف أمام

وقارها النبيل. في فضة حضرتها المتقشفة

خفر اللون من الإفصاح، والنظر إلى ما

وراء الوصف، فلا هي خضراء ولا فضية.

أما الشاعر المرحوم جمال قعوار المعطاء، والناثر بسخاء وصدق، دون رياء وكبرياء، فقد قال عن الزيتون:

يا شجرة الزيتون يا زينة الأشجار

يا أمنا الحنون يا بهجة الأنظار

وشاعر الشعب والوطن والغضب والثورة المرحوم سميح القاسم، في قصيدته “المنفى” يوصي أن يدفن تحت شجرة زيتون في سفوح جبل حيدر.

أما الشاعر الشهيد راشد حسين الراقد في (مصمص)، ففي محاكاته لاورشليم، عندما جاءها زائرًا، فأحبته وأحبها، ويطلق عليها ويصفها بـ “ربة الزيتون”، حيث يقول:

أمدينةَ الزيتونِ! زيتون الهوى أثمرْ

لما بسطتِ على فؤادي زندَكِ الأخضرْ

وعصَبْتِهِ بلظى محبةِ فارسٍ أسمرْ

وزرعت في قلبي عينينِ للحُبِ

من قسوة الرومانِ في لحظتيهما آثارْ

ومنَ الربيع عليهما ستران من أنوارْ

يا ربةَ الزيتونْ!

زيتونُ حُبي يوم جئتُ اليكِ قد أثمرْ!

وأخيرًا يمكننا القول، ان القصيدة الفلسطينية مزينة وموشحة ومفعمة بشجرة الزيتون واوراقها الخضراء، التي باتت رمزًا تعبيريًا للصمود والبقاء في الوطن والتشبث بالتراب والعطاء والحياة والمستقبل.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .