” لا أريد أن أعتاد عليك “..أدب الوجود- الخوف مقولة حياة والاغتراب مقولة رفض

بقلم د. أليف فرانش

 

تمّ تناول العمل القصصيّ من زوايا عدّة، وسيتمّ كذلك. سأحاول في هذه المداخلة أن ألقي الضوء على محاور أساسيّة تدور حولها النصوص القصصيّة، وسأركّز على المحاور ذات المنحى النفسيّ أو الاجتماعيّ.

لا يمكن فصل الأدب عن الواقع، أو الواقع عن الأدب، حتّى في أعمال الخيال العلميّ، فهي تستند إلى واقع متخيّل يلائم الحياة المستقبليّة. وعليه، ففي قصص المجموعة انعكاسات لظواهر اجتماعيّة، واعتمالات نفسيّة تعكس عالم الشخوص، ولكنّها تنجح في تصوير جوانب من حياتنا عامّة، وحياتنا خاصّة كأقلّيّة ثقافيّة وقوميّة على هذه الأرض، وكمواطنين يشكّلون مجموعة إثنيّة تختلف عن عرق الأغلبيّة.

هناك الكثر من المناحي النفسيّة والاجتماعيّة، وقد رأيت أن ارتكز إلى محورين تصرخ فيهما شخوص القصص:

الخوف كلقاء تماسّ مع الحياة:

يختبئ الخوف في حنايا النصّ عامّة، وفي زوايا كلّ نصّ بشكل مغاير ومتمايز يلائم حبكة القصّة.

ويشتعل الخوف لدى الشخصيّات ابتداء من هواجس صغيرة وصولا إلى حالات من الرهاب والذعر- الفوبيا. تستعين بربارة بالخوف كمركّب أساسيّ في النصوص، لتؤكّد من خلاله على التفاعل الإنسانيّ الذي يحكم علاقات الناس ببعضها. الخائف يؤكّد انتماءه إلى الحياة. من خلال الخوف نخاطب الآخر، ونخاطب أنفسنا، ونخاطب الحياة. يلعب الخوف دورًا أساسيًّا في تكوين الشخصيّات، لهذا فهي شخصيّات مبالية، مهتمّة/ مطّلعة على الأحداث.

يُعرّف الخوف بأنّه شعور أو رد فعل عاطفيّ يصيب الإنسان عندَ تعّرضه لشيء أو موقف يُشعره بالخطر، وقد يكون الخوف شيئاً صحيّا فيبقيه آمنا، وذلكَ عندما يُحذّر الشخص من شيء يشكّل خطرا حقيقيّا عليه، وقد يكون الخوف غير ضروريّ، فيصبح الإنسان بسببه أكثر حذرا ممّا يجب، وبالتالي سيتجنّب ما يخيفه ويتعزّز شعور الخوف أكثر لديه.

ويستجيب كلّ واحد منّا بشكل مختلف للحدث، وبشكل مختلف للخوف. الخوف عبارة عن مقولة للحفاظ على الكيان، للبقاء، لمواجهة مستجدّ يثير التهديد.

وتعالوا نرَ مشاهد يتجلّى فيها الخوف كائنًا حيًّا في النصوص، يوجّه تفاعل الشخصيّات مع بعضها البعض، يؤطّر علاقاتها، ويرسم الأحداث والنهايات.

في قصّة “سؤال في العاصمة” البطلة القادمة التي تخاف من صورة المدينة كتعبير صامت عن موت صامت، الخوف من ألّا تكون الحياة كما نشتهيها. يخنقها اللامتوقّع، نخاف المتوقّع ألّا يكون انعكاسا لصورة المشيئة. المرّأة التي تبيع معطف جوعًا وفاقة تخاف على ذكرياتها من الاندثار، وتعود القادمة إلى الخوف في نهاية القصّة- هو الخوف من اليقين، من الحقيقة، فقد تحتوي الحقيقة على نعي الحلم. تقول: “من لحظتها قرّرت ألّا أسأل”. في قصّة “مالك الحزين” المرأة اليهوديّة التي تخاف من العربيّة وابنتها، تخاف أن يُستعاد ما كان قد أخذ، تخاف مواجهة الحقيقة فتغطّيها بالتبلّي والاتّهام، من باب “سبقني وبكى ضربني واشتكى”. ثمّ أخافتها ضحكة العربيّة أكثر من طعنة السكّين التي توهّمت أنّها ستُطعن بها. الطفلتان تعيشان الخوف: من خوف على الروح وخوف على الكلب… والدولة تخاف قسمًا من مواطنيها. في قصّة أحلام الفقراء، خوف المفتّشة من عدم تحقّق أحلام الصغار، إنّه الخوف من أن تتحوّل الحياة عاديّة بأحلامها. في قصّة “وتركني” إنّه الخوف الوجوديّ من عدم التفاهم مع الوقت، من أن يفوتنا قطار الحياة دون أن ننجز ما نريده، ودون أن تكون كلتا رجلينا على أرضيّة ثابتة. وخوف الرجل على المسافرة من السقوط تحت عجلاته، هو الخوف من التحدّي كأولئك المتردّدين لا يقدمون على الجسارة. في قصّة احتساب… إنّه الخوف من التجدّد والعصرنة، لكنّه خوف مخادع… قناع… الخوف الحقيقيّ هو من الاندثار، الخوف من ألّا نبقى نحن كما عهدنا أنفسنا واعتدنا عليها، الخوف من فقدان صبغتنا وهويّتنا، الخوف من الزوال والعدم.

لكنّ الخوف لدى بربارة مقولة للتمسّك بالحياة. الشخصيّات تعبّر، من خلال خوفها، عن رغباتها الدفينة في الانتماء إلى الحياة، وفي أن تكون مقبولة، وفي أن تجاري الزمن وتقلّباته، والأهمّ في أن تكون متصالحة مع نفسها، من هنا يأتي الخوف المستتر في العنوان: لا أريد أن اعتاد عليك … وأكمله: لأنّ خوفي يمنعني من أن أصبح عاديّة بنظرك ونظر الناس ونظر نفسي… كي أتميّز علي أن أخاف الاعتياد. بربارة تقدّس رغبة شخوص قصصها في انتحاء الخوف لتعبّر عن وجودها. هكذا ترفض الاعتياد خوفا من الرتابة المفضية إلى الضمور… وكأنّها تصرخ بالمقولة: نخاف لنبقى.

الاغتراب المفضي إلى الشعور المجتزأ:

المحور الثاني الذي يصرخ من داخل النصوص جميعها، هو شعور الاغتراب، وقد بات الإنسان مستباحًا لما تفرضه حياته، والحدود التي ينصبها الآخرون في وجهه. شعور الاغتراب يحيط الشخصيّات، ويمنعها من الشعور بوجودها الكامل. هذا الاغتراب يطرح صورة من الوجود المجتزأ. كلّ واحدة من الشخصيّات تسعى إلى أن تعزّز انتماءها وانسجامها بعناصر وجودها: نفسها، وزمانها ومكانها والناس من حولها. لكنّ القصص تفيض بما يحدّ من تواصل الشخصيّات السويّ مع هذه المقوّمات كلّها؛ لتجد الشخصيّة نفسها في حالة من الاغتراب الذي يؤمّن لها أجزاء من التجربة، ويكرّس حالة من الشعور المجتزأ؛ فالتجارب لا تتمّ كما نرتئي.

تعالوا نستحضر الاغتراب كما انعكس في القصص:

سؤال في العاصمة- اغتراب عن المكان والزمان: إنّها المدينة نفسها، لكنّها تبدو موغلة في الغفليّة والسواد، إنّه الاغتراب من أن تكون خيالًا وتستحيل مجرّد ذكرى. الاغتراب من ذاتنا وأمامها، لهذا تصرّ المرأة على 100 لي، لأنّها تريد التمسّك بما يحميها من الغربة في وطن كان لها. القادمة تتعاطف مع المرأة المغتربة عن زمانها ومكانها، وتتضامن مع وجعها، لكنّها هي نفسها تعيش حالة من الاغتراب عن المتوقّع. الواقع غريب لدرجة القتامة، السائق مغترب عن اللغة، والسؤال مغترب عن إجابته. في موجات الاغتراب المتدفّقة هذه تعلن الكاتبة عن حاجة الإنسان إلى الشعور بالانتماء، وإلى حاجته إلى القبول، والأهمّ إلى حاجته التصالح مع كلّ ما ومن حوله.

رأينا أنّ الخوف كان مقولة أطلقتها بربارة على لسان شخصيّاتها كمقولة وجود وحياة، أمّا الاغتراب فهو مقولة الكاتبة نفسها في رفض ما آلت إليه صورة الإنسانيّة التي كرّست مظاهر القهر والإذلال، فجاء الاغتراب صرختها هي على الألسنة كموجة من رفض لواقع مؤلم بات حقيقيًّا بل وطاغيًا.

في قصّة مالك الحزين- يعيش العربيّ متمثّلًا بالأمّ وطفلتها حالة من الاغتراب عن المكان، وكأن العربيّ مطالب أن يلاحق المكان لينتمي إليه. القطار يتحرّك ويتحرّك معه الراكب باحثًا عن الوجهة التي سيرتاح فيها، لكنّ الواقع المرّ يتصدّى له، ويذكّره أنّ الغربة تلاحقه حتّى في المكان المتنقّل، وكأن فصل الراحة قد حرّم عليه.

الموت للعرب- صحيح أنّ سياقاتها مختلفة ومتنوّعة، لكن مسكين هو العربيّ في هذه البلاد، فكيف يتحوّل الموت نداء عامًّا، دون أن ينزعج مطلقوه… فهو الاغتراب بعينه.

فالعربيّ موجود، لكن هناك من يريده ميتًا أو غائبًا… نصف موجود… أو لا موجود، في قصّة يبوس تحارب الشخصيّة آلة التغريب، تتمسّك، تتعمّد بالتراث والتاريخ، تعلن أنّها موجودة…

وفي قصّة ألملم ذكرياتي معك… تختم الكاتبة القصّة بجملة تختزل موقفها من الاغتراب:

أنت الباقي ونحن الزوال، فلماذا لا نتعلّم منك أن نحيا يومنا وفرحنا ومشاعرنا قبل فوات الأوان؟

هو مقولة البقاء. إعلان الوجود، الإصرار على أن نكون. بهذا تحارب الكاتبة كلّ صيحات التغريب، وجميع مشاعر الاغتراب. … وهي هنا تعزّز الشقّ الأوّل من عنوان المجموعة: لا أريد… فالنفي هنا صرخة الرفض… ورفض الاغتراب صرخة التشبّث والوجود. وهي صرخة الكاتبة التي آثرت أن تعلن بالخوف الحياة وبرفض الاغتراب الوجود.

إنّها لا تريد أن تعتاد القهر بأنواعه.

إنّه أدب الوجود. وما دمنا نخاطب مشاعرنا فنحن موجودون، أنا أشعر إذن فنحن موجودون، وما دام هناك أدب فنحن موجودون وباقون.

وفي مداخلتي زميليّ: أدب السؤال، والتاريخ والأدب تأكيد على الوجود؛ فالسؤال وجود، والتاريخ وجود، وفي أدب الوجود جواب، وبقاء.

وكلّ كتاب، راوية، ونحن موجودون.

) ألقيت المداخلة في أمسية الإشهار في نادي حيفا الثقافي يوم  09.09.202)

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .