قراءة تحليليّة سيميائيّة في رواية “جوبلين بحري” للكاتبة دعاء زعبي د. لينا الشّيخ – حشمة

 

 

يرتكز كلّ نصّ أدبيّ على الشّكل والمضمون على حدّ سواء، حيث يبنى من حكاية النّصّ ومضمونه، ومن كلّ ما يحبكه من لغة وتقنيّات فنّيّة وأسلوبيّة. وعليه، لا يجوز دراسة المضمون بمنأى عن الشّكل. والعكس صحيح كذلك. فيقتضي التّحليل السّيميائيّ دراسة النّصّ من جميع جوانبه ومعطياته المضمونيّة والأسلوبيّة، وتصير كلّ معطيات النّصّ علامات تحمل معنًى ودلالة، ويمسي كلّ ما فيه يحمل وظيفة تخدم رسالته.

وحدها القراءة تمنح النّصّ الحياة وتسبر أغواره. فلا يتحقّق إلّا بقراءته وملء فجواته مثلما يرى “إيزر” والد نظريّة التّواصل الأدبيّ، وإلّا بقي مجرّد سواد على بياض. ممّا يعني أنّ القراءة عمليّة إبداعيّة حواريّة بين القارئ والنّصّ. فيها يمارس القارئ دوره في التّأويل وملء الفجوات حتّى يصل إلى دلالات النّصّ. الأمر الّذي يؤكّد أنّ عمليّة القراءة مرهونة بثقافة القارئ وخبرته ومعرفته ومدى ذائقته الأدبيّة وعمق تحليله. وبهذا يتميّز القرّاء أصلًا عن بعضهم البعض.

وحده النّصّ الغامض، الرّمزيّ، المليء بالفجوات، المراوغ، والّذي يرفض الانفتاح بطريقة واحدة على كلّ القرّاء، يستهويني. هو وحده الّذي يتيح لي المشارَكة والتّفاعل الكلّيّ كي أكون شريكة للمؤلّف في تشكيل المعنى وإنتاج النّصّ. هو وحده الّذي يتيح لي قراءة تأويليّة واستجابة فكريّة وانفعاليّة كقارئة نشطة مشارِكة، لا مستهلكة متلقّية، حتّى أحقّق نظريّة “القارئ – الكاتب” كما عند رولان بارث. ولمّا كنت أتّبع النّهج السّيميائيّ في قراءاتي النّقديّة للنّصوص، ولمّا كان الشّكل عندي لا ينفصل عن المضمون، والمعنى عن المبنى، فإنّ قراءتي تعتمد على اختزال كلّ المعطيات النّصّيّة وتحديدها في منظومة من الشّيفرات والرّموز والمفاتيح الّتي تصير مرجعًا أعود إليه عند التّأويل وتحديد الدّلالة. وفق هذا المفهوم، يحدث أن آتي أنا القارئة بعد عمليّات التّفكير والتّأويل بتحليل نقديّ إبداعيّ لم يكن الكاتب نفسه واعيًا لوجوده، ولم يستطع قارئ آخر الوصول إليه أو كشفه. يجوز لي ذلك، وحقّي كقارئة أن أفعل وفق نظريّة التّواصل الأدبيّ. حقّي شرعيّ في التّأويل واقتراح الدّلالات ما دمت أعتمد في إنتاجها على معطيات النّصّ، وما دامت هي مرجعي وعماد دلالاتي المقترحة. وعلى هذا الأساس لا علاقة لي بالكاتب نفسه، لا يعنيني أبدًا، ولم يكن يومًا. النّصّ وحده هو ما يهمّني. النّصّ هو حلقة التّواصل بيني وبين الكاتب؛ من خلاله أتعرّف على صاحبه، ومن خلاله أدخل إلى عالم الكتابة والإبداع. فأجد نفسي شغوفة بالنّصّ الحداثيّ الغامض الّذي يفتح نفسه على احتمالات متعدّدة، ويقبل قراءات عديدة أو يجعل من قراءته عمليّة حسابيّة ومعادلات من التّعويض والمتغيّرات. هكذا تستهويني القراءة الّتي تحمل تحدّيات البحث عن المعطيات النّصّيّة، تجميعها واختزالها، ثمّ تحليلها وتأويلها وفكّ شيفراتها ورموزها حتّى يتمّ كشف الدّلالات.

رواية “جوبلين بحري”(2021) للكاتبة دعاء زعبي نجحت في أن تحقّق لصالحها فوزًا عليّ وتجذبني إليها لأدخل معها في لعبة التّواصل الأدبيّ والعمليّات الحسابيّة، وإنْ لم تكن الرّواية غامضة عصيّة إلى درجة كبيرة. هي رواية لا تخلو من الرّموز والفجوات وزحزحة بعض المعطيات النّصّيّة وتغييب بعضها الآخر. هي رواية تنتمي إلى الحداثة وما بعدها. تثير سؤال التّجنيس الأدبيّ باتّكائها على أساليب وتقنيّات فنّيّة عديدة تحقّق لها ما يسمّى “عبر النّوعيّة”، فتمزج فيها فنونًا وآليّات متعدّدة، كالرّسائل، التّناصّ، تعدّد الأصوات، الرّمزيّة، تيّار الوعي وآليّاته: كالمونولوج والاسترجاع الفنّيّ، الشّعر، تهجين اللّغة بزجّ كلمات وعبارات باللّغة الألمانيّة وتكثيف اللّغة الشّعريّة المجازيّة. الأمر الّذي يؤكّد أنّها رواية تعوّل على شكلها وأسلوبها وتقنيّاتها لتأدية المعنى والدّلالة، إلّا أنّني لن أستطيع هنا الخوض في كلّ هذه الآليّات والتّقنيّات، بل سأتوقّف عند أبرزها، مضمونًا وأسلوبًا.

 

** ميار ومعركة البطولة

تتمحور الرّواية حول ميار، ابنة يافا، الّتي تواجه عنصريّة الجامعة خلال سنتها الثّانية لدراستها الإعلام والصّحافة “لأنّها عبّرت فيها عن الأنا الجمعيّة، عن آلام شعبها ومعاناة مثقّفيه النّازحين. لم تلائم أجوبتها أيديولوجيّة أستاذها العنصريّ… اختيارها لغسّان كنفاني ابن يافا، ابن بلدتها المنكوبة، كنموذجٍ لذلك الصّحفيّ الفلسطينيّ الّذي عاش النّكبة والتّهجير ورحلة النّزوح بدءًا من يافا فدمشق انتهاءً ببيروت، لم يعجبه”(ص42). ترسب ثلاث مرّات وتقدّم للجنة ممثّلة بالدّكتورة “سارة فنكلشتاين”، ثمّ تمنع من متابعة دراستها بادّعاء أنّها غير ملائمة للعمل الصّحفيّ. وتنصحها سارة بأن تترك الدّراسة لصالح الزّواج والإنجاب. لكنّ ميار ترفض التّنازل عن حلمها فتسافر إلى ألمانيا وتحصل على الدّكتوراة من جامعة برلين، محققة إنجازات مهنيّة عالية خلال خمسة عشر عامًا. فتبدأ الرّواية وهي لا تزال في برلين.

ميار هي بطلة وفقًا للنّظريّات الأدبيّة حول مفهوم البطولة. امتلكت الرّغبة والمحفّز والقدرة واجتازت العوائق وحقّقت الأهداف. فانتهت الرّواية بنهاية سعيدة وبإيحاء لمستقبل موعود بالزّواج من الحبيب والعودة للوطن. أدركت ميار أنّ العلم ضمان لمستقبلها فكبتت نداء الحبّ وحكّمت عقلها. عملت سنتين ثمّ سافرت لتحقيق ذاتها. نالت الدكتوراة وعملت مراسلة صحفيّة، فكانت سفيرة لقضيّتها الفلسطينيّة. حقّقت حلمها في السّعي إلى “إنصاف قضيّة شعبها وإسماع صوته في عالمٍ يحاول فيه المغرضون تشويه التّاريخ وتزويره”(ص41). كان حلمها أن “يكون قلمها وصوتها سفيريها إلى العالم، قوّتها الإنسانيّة والحضاريّة لإحقاق الحقّ والحرّيّة وتوكيد الوجود، ودحر الظّلم عن شعبٍ يرزح تحت الاحتلال وطمس الهويّة والثّقافة واللّغة، “وسلب مسمّيات المكان وانتحال الزّمان”(ص41). وفي جامعين برلين الحرّة، في المؤتمر الصّحفيّ المنعقد تحت عنوان: “الإعلام الغربيّ في الشّرق الأوسط – ما بين التّنوير والتّشويه” تحقّق هذا الحلم وترفع صوتها أمام ممثّلي العالم، وسارة ممثّلة إسرائيل. فتقدّم فيه كلمتها عن “دور الصّحافة الغربيّة في فلسطين إبّان النّكبة”. فتدرك كيف تصفّي حساباتها وتجلجل صوتها وصوت قضيّتها بجرأة وحرّيّة، وبكلّ ما تريد لهم أن يسمعوه(ص165)، مؤكّدة فيها على حقّ شعبها في الوجود والحياة. ويكون انتصارها الأخير في عودتها بعد المؤتمر إلى نديم ويافا. فتنتهي الرّواية بلقاء الحبيبين وشاطئ يافا ثالثهما.

اسم ميار يعني جالبة الحظّ والخير. والعلم والتّعلّم هو ما يجلب الخير وينهض بالحياة من براثن الجهل وهزائم الحياة. وهي بسلاح علمها حقّقت انتصارها على الظّلم، وبقلمها صاحت بصوت العدل والحقّ، وبعودتها أثبتت هويّتها ورسّخت بقاءها ووجودها.

 

** بين البعد النّسويّ والسّياسيّ

على المستوى الخاصّ هي رواية حول ميار وما تواجهه من سلب حقّها في الدّراسة والتّعبير عن رأيّها بحرّيّة. وعلى المستوى السّياسيّ العامّ هي رواية حول ما يواجهه المجتمع العربيّ الفلسطينيّ داخل إسرائيل من سياسة التّمييز والعنصريّة في صراع الهويّة والوجود، مع إلحاح الكاتبة على مواجهتها بالعلم والدّراسة والثّقافة وتحقيق الذّات، خاصّة بين الفتيات والنّساء لأنّ “البنت اليوم مثلها مثل الشّابّ إن لم يكن أكثر”(ص40).

جوبلين بحري رواية يطغى عليها الهمّ السّياسيّ، لكنها تطعّم بنسويّة ناعمة خفيفة. فليس وجع الكاتبة أنثويًّا، بل هو الوطن أهمّ. فمتابعة الشّخصيّات في هذه الرّواية في علاقاتها مع بقيّة معطيات النّصّ وأدواته اللّغويّة والأسلوبيّة يؤكّد أنّها ليست حقيقيّة ولا تمثّل نفسها، بل هي سيميائيّة تمثيليّة تنقلنا من معنى النّصّ المنسوب للكاتب إلى الدّلالات المنسوبة للقارئ. وعليه، هناك دلالة سياسيّة وراء هذه الشّخصيّات الأنثويّة. ثلاث نساء شكّلن الرّواية بالأساس: ميار وسارة وحلا، أو فلنقل: ميار بين سارة وحلا؛ بين أولى تتصارع معها، وثانية هي صاحبتها ورفيقة غربتها. ثلاث نساء لا يمثّلن ذواتهنّ، فالأنثى هنا لا تدلّ على ذاتها بل هي رمز لوطنها. هي هنا معادل سياسيّ للوطن والمكان.

سارة اسم عبريّ، وُصِفت “بالكابتن طيّار”، “المرأة الحديديّة بقوّتها العسكريّة والأكاديميّة”(ص43). “سارة فنكلشتاين” وفقًا لهذه المعطيات النّصّيّة وغيرها هي إسرائيل بسياسة تهويدها وعنصريّتها. أمّا “ميار” فهي يافا بهويّتها العربيّة الفلسطينيّة. ولعلّ ما حدث لميار في السّنة الثّانية، ونصيحة سارة لها بالزّواج، يشير إلى البعد السّياسيّ الّذي يوحي الزّواج فيه إلى ضمّ يافا لتل أبيب.  فتقصد بالسّنة الثّانية العدد اثنين. وحاصل جمع اثنين مع ثمانية وأربعين، عام النّكبة، هو خمسون. وفي عام خمسين ضُمّت يافا لتل أبيب. وإلّا فلماذا لم تختر الكاتبة أن يكون ذلك في السّنة الأولى مثلًا؟ إذًا الزّواج بالمعنى السّياسيّ يعني ضمّ يافا وسياسة تهويدها.

في الفكر النّسويّ الحبّ للمرأة حياةٌ وإثباتٌ لوجودها. أمّا الزّواج فيه فمكروه حين لا يكون بإرادة المرأة، إذ يمسي قمعًا لحقوقها. ليست الرّواية رفضًا للزّواج، بل رفضًا له إذا لم يتحقّق برغبة المرأة. لذا ترفض ميار الزّواج كما رسمته لها سارة. رفضته لأنّه يفرض عليها التّنازل عن دراستها وحقّها في تحقيق ذاتها.  فتتنازل ميار عن حبّها لكنّها ترفض التّنازل عن تحقيق ذاتها ودراستها، فتغادر البلاد لتحقّق أحلامها.

كانت يافا من أقدم وأهمّ مدن فلسطين التّاريخيّة، إذ اعتبرت قبل النّكبة عاصمة فلسطين الثّقافيّة دون منازع، احتوت على أهمّ الصّحف الفلسطينيّة وعشرات المجلّات ودور النّشر والطّبع والمسارح ودور السّينما(ص157-161)، “لكنّ المشروع الصّهيونيّ دمّر كلّ هذا الجمال وهذه الحضارة”(ص161). وعليه، إذا كانت ميار هي يافا فإنّ زواجها/ ضمّها يعني خسارتها لسيادتها وطمسًا لهويّتها وتدميرًا لمعالمها. وإذا كانت النّسويّة تعزّز الهويّة الأنثويّة وترفض التّبعيّة، وتسعى لرفع صوتها لردّ حقّها من الذّكورة واستعادة هويّتها المغيّبة، رافضة طمس هويّتها الأنثويّة، فإنّها في البعد السّياسيّ تسعى لردّ حقّها الوطنيّ العادل، فترفض تهويدها وطمس هويّتها العربيّة وخضوعها لهيمنة ثقافة أخرى، ساعية لاستعادة هويّتها العربيّة المغيّبة والحفاظ على وجودها. وهذا ما تؤكّده دلالة رمزيّة أسطورة “عروس البحر” الّتي تذكّرتها ميار؛ العروس الّتي أطاعت السّاحرة فاستغنت عن ذيلها مقابل حبّ أفقدها حقّها في وطنها البحر. فقد خشيت ميار من فكرة حبّ يفقدها الوطن كعروس البحر، حبٍّ يفقدها هويّتها وكيانها وأحلامها ووجودها. لذا تنازلت عن حبّها لنديم وتخلّت عنه حتّى لا يفقدها حقّها في تحقيق ذاتها وأحلامها. وبالتّالي لا يفقدها القدرة على استعادة الحقّ في الوطن وتعزيزه. فتحقيق ذاتها يعني تحقيق ذات الوطن؛ يعني امتلاك القدرة والوعي على حماية الحقّ وتعزيز الهويّة والوجود في البعد السّياسيّ. كانت السّاحرة في هذه القصّة معادلًا موضوعيًّا لسارة. وعروس البحر هي ميار. وميار هي يافا. والبحر هنا رمز للوطن؛ بحر يافا الّذي يتربّع على عتبة غلاف الرّواية.

تخاف ميار من فقدها ليافا فتبحث بحكمة عمّا يحقّق ذاتها ويرفع صوتها ويخلّد هويّتها، ولا تجد أهمّ من العلم والقلم. فالقلم لغةٌ، واللّغة هويّةٌ، والهويّة وجودٌ. والقلم أداة الكتابة. والكتابة توثيقٌ وتخليدٌ للّغة والثّقافة والهويّة والوجود. والكتابة بوحٌ وآليّة تطهير لتفريغ الرّوح من ذاكرتها الموجوعة المشرّدة. وهي سلاح دفاع وإدانة وهجوم ضدّ كلّ من يسلب الحقّ وينتزع الحرّيّة. بالكلمة والبوح تقول ميار ذاتها هي، وتحكي حكاية وطنها، وتعلن المسكوت عنه. وممّا يدعم هذا البعد السّياسيّ أنّ والدها كان معلّمًا للّغة العربيّة: “معتبرًا الحفاظ عليها في بلادٍ تسعى إلى تهويدها وتهميشها أوّل أشكال الصّمود وأقواها”(ص16).

انحازت الكاتبة للأنثى فمنحتها وعيًا وقدرة على المبادرة، فميار هي الّتي أنهت علاقتها بنديم، وهي الّتي راسلته بعد طول غياب في اللّحظة الّتي حدّدتها هي. ميار تحبّ اللّون الأحمر، وهي مثله، “فهو لونٌ يشبهها”؛ “مليءٌ بالشّغف، صاحب فكرٍ وعقيدة، لا يحبّ النّفاق ولا يرضى بالصّمت خيارًا أمام الخطأ والظّلم”. وميار “حمراء”، “جسورة، تعشقُ الجمال والحياة”(ص28)، مثقّفة وقادرة على الفعل وصنع القرار. ميار إذًا على الصّعيد السّياسيّ ستمتلك القدرة على التّحكّم بمصيرها وصنع القرار لأنّها امتلكت الوعي والثّقافة والعلم.

أمّا حلا فرمز لدمشق وبلاد الشّام. كانت ميار تجد في حلا الوطن فتخفّ غربتها. معها كان الوطن حاضرًا رغم الغياب. كانتا صديقتين. “عاشتا كتوأمٍ سياميٍّ لا يمكنه الانفصال.. كلتاهما عاشت غربة.. أنصتت الواحدة منهما لوجع الأخرى”(ص60). قلنا إنّ ميار تعشق الجمال والحياة، وحلا يعني الجمال. وهي فنّانة رسّامة تعشق الجمال كذلك. والجمال والحياة والحبّ هي كلّها حياةٌ للمرأة. وهي لا تنفصل بدلالاتها عن الوطن الّذي تعشقه ميار وحلا. وإذا كانت ميار ترى في حلا العروبة فهذا إيحاء للانتماء لبلاد الشّام وللهويّة العربيّة على الصّعيد السّياسيّ. وبلاد الشّام كانت تسمّى أرض كنعان. واسم يافا اسم كنعانيّ ويعني الجميل. وعليه، إذا كانت حلا تعني الجمال فيافا تعني الجميلة. وإذا كانت ميار صاحبة قلم وكلمة وتحكي بصوت الوطن، فإنّ حلا رسّامة وبالرّسم كانت تحكي حكاية الوطن وجماله. فالرّسم لغةٌ لا تقلّ تعبيرًا وأثرًا عن الكلمة. وهكذا أصلًا وجدت ميار حلا وتعرّفت إليها؛ وجدت الوطن في لوحة حلا، وجدت في إحدى لوحات حلا رسمة عن دمشق ووجدت فيها “تفاصيل عبقت بروائح حيفا وعكّا والنّاصرة.. بيوت يافا القديمة… أسواق القدس العتيقة. لوحةٌ تشبه فلسطين في جمالها ودلالها ورونق حضورها”(ص84). هكذا تشير الكاتبة إلى ذاك التّاريخ الّذي ربط فلسطين بالشّام حيث كانت تسمّى بلاد الشّام، فتربط بنوستالجيا شديدة وبرومنسيّة حالمة بين الشّعبين ربطًا وجدانيًّا، قوميًّا، جغرافيًّا وتاريخيًّا.

وحين تمرض حلا في السّنة الأخيرة تعود إلى سورية لتموت هناك. ولعلّها بموتها توحي إلى أزمة سورية. فإذا كانت ميار يافا تتوق لإحياء حبّ جديد، وقيامة تبعث فيها الحياة العادلة، فحلا اعترفت بأنّها تتوق للحبّ والبعث كذلك(ص114). وموت حلا إيحاء لحاجة سورية لقيامة تحييها من جديد وتعيد إليها جمالها واستقرارها السّياسيّ. وحتّى تؤكّد الكاتبة فكرة البعث تترك حلا تموت في الرّبيع، ففي الرّبيع يكون البعث والقيامة، وذلك تنبّؤًا وتوقًا لتحقيقه على أرض الواقع.

ليست الرّواية نسويّة إلى حدّ الانشغال بتدمير الذّكورة، فمعركتها سياسيّة وطنيّة، الرّجل فيها ضحيّة سياسة التّمييز والعنصريّة كالمرأة. نديم هو الحبيب الّذي تركته ميار قبل خمسة عشر عامًا فرفض أن يتزوّج من أخرى إخلاصًا لحبّه. هو الحبيب المنتظِر ومعادل للوطن. يأتي فراق ميار عنه موازيًا لفراق الوطن، وحين تعود إليه تعود للوطن كذلك. إذًا الحبيب والوطن هنا لا ينفصلان. كالحبيب المخلص لحبيبته يخلص الوطن لأبنائه فينتظر عودتهم. لذا تفشل ميار بإيجاد الحبّ بعيدًا عن يافا وبحرها. والبحر، رمز الوطن، شاهد على حبّهما. فقصّة حبّهما بدأت على شاطئ يافا، وحين قُرِّر لها الموت ماتت أمامه، وحين بُعِثت من جديد بُعِثت أمامه كذلك. ولهذا تجعل الكاتبة البحر موتيفًا بارزًا في روايتها.

ميار هي يافا. ويافا لقّبت بـ “عروس فلسطين” و”عروس البحر”. وعروس البحر لا تحيا إلّا في مائه. لذا ترفض ميار الحبّ خارج يافا حتّى لا تفقد وهويّتها وحقّها فيها كعروس البحر في الأسطورة. لذا عليها أن تعود لتُبعَث فتَبْعَث الحياة في وطنها وتعمل على نهضته ورقيّه بعلمها وثقافتها. واسم نديم يعني الرّفيق والصّاحب. والكاتبة لا تريد لميار أن تبقى مشروع غربة، بل ترى بالوطن رفيقًا وصاحبًا وحبيبًا. لذا تعيدها إليه لتبقى. وهذا ما يؤكّده نديم بقوله لميار على شاطئ يافا: “أريدك زوجة وحبيبة وصديقة أبديّة”(ص199).

وحتّى تكتمل صرخة الكاتبة السّياسيّة تأتيها رسالة من هاشم عبد الكريم، الصّحفيّ الغزّاويّ، من ضمن الرّسائل الكثيرة الّتي وصلتها لتهنئها بالسّنة الجديدة. كانت ميار قد وعدت نفسها بألّا تردّ على رسائل التّهنئة في تلك اللّيلة. فالحزن هو سيّد اللّيلة، ولا مجال لتبادل التّهاني والفرح، لكنّها أمام الصّحفيّ الغزّاويّ، “وواقع أليم جمعهما، تقاسما فيه هموم الأمّة والوطن والمهنة” لم تستطع أن تؤجّل ردّها إليه للغد كالآخرين. وفي ردّها تستذكر آلام غزّة مشيرة إلى أنّ غزّة “عروس بحر” أخرى(ص147)، فتعيش بحبرها صراع غزّة مع الحصار والموت. ليؤكّد ردّها إليه أنّ غزّة بالنّسبة إليها هي وجه آخر من وجوه حزنها.

مشغولة هي الكاتبة بكيفيّة بناء مستقبل ورديٍّ وإعادة بناء الوجود والإنسان وتعزيز الهويّة. فتدعو لحلّ الصّراع بحوار إنسانيّ حضاريّ يرقى فوق كلّ صوت عنصريّ عنيف، يعلو فيه صوت القلم والحكي؛ القلم الّذي كان حلم ميار “وقوّتها الإنسانيّة والحضاريّة لإحقاق الحقّ والحرّيّة وتوكيد الوجود”(ص41)، مهتمّة بأن تؤكّد أنّ المشكلة ليست مع الشّعب اليهوديّ، بل مع الاحتلال والعنصريّة وطمس الهويّة. ولذا تأتي بشخصيّة المحاضر المتديّن بروفيسور شفارتس، فتتذكّر ميار تواضعه وإنسانيّته وابتسامته والتّفّاحة الصّفراء الّتي أصرّ أن تشاركه فيها. إذ منحها نصفها حين دخلت إلى غرفته في الجامعة في سنتها الأولى: “يجلس الاثنان متقابلين.. بوجهين ضحوكين.. “كلٌّ نصفه، قبل أن يباشرا النّقاش والبحث في وظيفةٍ جمعتها تفّاحة وابتسامات، وإنسانيّة شائكة لقضيّة مركّبة عالقة”(ص120). التّفّاحة هنا رمز لتفّاحة الحياة، المعرفة والخلود. وفي إصراره على تقديم نصف التّفّاحة مناصفةً إنّما يصرّ على تأكيد توجّهه الإنسانيّ واعترافه بوجود ميار وهويّتها، ودعوته للحوار الحضاريّ والعيش المشترك.

يتشكّل معمار هذه الرّواية في زمنين أساسيّين: الحاضر والماضي. الحاضر هو الزّمن الخارجيّ، زمن الحبكة والحدث الخارجيّ الّذي لا يتجاوز بضعة أيّام قليلة، مقابل الزّمن النّفسيّ، والّذي يتميّز بالحركة الطّليقة نحو أفكارها وذكرياتها. وإذا كانت الرّواية ترتكز على الحاضر والماضي إلّا أنّها تقدّم إيحاءاتها برسم المستقبل الّذي تنشده. وهذا ما يتجسّد باختيارها لنهاية سعيدة رومنسيّة حالمة.

تبلغ عدد صفحات الرّواية مئتي صفحة. منذ الصّفحة الأولى حتّى صفحة 149 تتمحور في ليلة واحدة، هي ليلة رأس السّنة بين العامين 2019-2020. ولا يتجاوز الزّمن الخارجيّ في الصّفحات الخمسين المتبقّية عدّة أيّام قليلة من بداية عام 2020، حيث يميّزها كذلك قلّة الأحداث وكثرة المونولوج والاسترجاع. وهكذا فإنّ أبرز ما يميّز هذه الرّواية هو أنّ الكاتبة استطاعت ملء معظم صفحات الرّواية وهي لا تزال في ليلة واحدة. وقد كتبتها على شكل مونولوج ذكريات بآليّة الاسترجاع الفنّيّ.

تنهل الكاتبة متناصّاتها من التّاريخ والجغرافيا والموسيقى والأدب والأساطير وغيرها. وقد كان أبرزها برأيي التّناصّ مع غسّان كنفاني وفكرة “العودة” في روايته “عائد إلى حيفا”، فتكثّف فكرة العودة بموتيفات كثيرة. عاش كنفاني في يافا فدمشق، وكان صحفيًّا ورسّامًا، واشتهرت رسائله إلى غادة السّمّان السّوريّة. فتدمج الكاتبة هذه المعطيات في الرّواية على وجهين، بالتّصريح والتّلميح. تستوحي فكرة العودة وتدفع ميار لأن تكرّر عدّة مرّات بأنّها عائدة، وستعود حتمًا. فتتناصّ الكاتبة مع كنفاني في شخصيّة ميار؛ فميار من يافا، وتعلّمت مهنة الصّحافة وكتبت الرّسائل في الرّواية. مقابل دمج هذا مع شخصيّة حلا السّوريّة حيث تتناصّ بذلك مع دمشق والرّسم. فيكتمل التّناصّ هنا مع حلا الرّسّامة الدّمشقيّة. وكأنّ الكاتبة تتعمّد هذا التّكامل الوجدانيّ بين دمشق ويافا من خلال ميار وحلا في شخصيّة كنفاني. ومن جهة ثانية، يبدو أنّ الكاتبة تنتقم لميار الّتي عوقبت لذكرها كنفاني في امتحانها فتجعلها كنفاني روايتها. وإذا كانت العودة عند كنفاني تحمل معنى الاغتراب والفقد فإنّ الكاتبة تحقّق معنى العودة على الرّغم ممّا يحمله مفهوم العودة هنا من اختلاف في الزّمن والظّروف والواقع.

 

** فنّ الرّسائل: بين التّطهير والبعث

تبدأ الرّواية في ليلة رأس السّنة حيث تمكث ميار في شقّتها في برلين وحيدة، فتتزاحم عليها الذّكريات الموجعة لتجد نفسها تبادر إلى كتابة ثلاث رسائل لثلاثة أشخاص. وبين رسالة وأخرى تقفز قفزاتها الشّعوريّة بحركة الوعي الحرّة إلى ذكريات الماضي. في هذه اللّيلة المفصليّة تنشطر ذات ميار بالحزن والغضب والغربة والفقد، فترفض الاحتفال لأنّه لا احتفال دون حلا. ويستفحل شعورها بالانتقام من سارة كلّما تذكّرت حلا. فيشتدّ حزنها ويستفحل إلى أقصى مستوياته التّراجيديّة حتّى يمسي سيّد هذه اللّيلة، متآمرًا عليها مع كلّ مفردات القهر والألم والغياب والوحدة والحنين. وحتّى تحقّق الكاتبة فكرة البعث والعودة كان عليها أن تدخل ميار في تجربة الحزن لتفجّر براكين دمعها، وكي تنشقّ عنها حالة من التّطهّر والانعتاق، لتتبعها المرحلة الثّانية من التّطهّر عبر كتابة الرّسائل الثّلاث، ثمّ تأتي المرحلة الثّالثة بالاستماع للموسيقى. وعند انتصاف اللّيلة بالضّبط تبعث الرّسائل. وببعث الرّسائل تبعث العودة. فمن عتمة هذا اللّيل سيولد الفجر ويتحقّق البعث.

تخوض ميار إذًا تجربة وجدانيّة كان موت حلا محفّزها. تصل حدود المأساة الّتي تستدعي التّطهير كما عند أرسطو. فقد آمن أرسطو بأنّ التّراجيديا تعمل على مداواة النّفس البشريّة وتطهيرها. وهو التّنفيس والتّطهير الّذي تحدّث عنه فرويد في نظريّاته في التّحليل النّفسيّ كذلك. لهذا كانت ميار بحاجة إلى التّنفيس وتنقية الرّوح من أحزانها وغضبها. فبعد البكاء يكون التّطهير بالفنّ كما عند أرسطو. والفنّ هنا بالقلم وكتابة الرّسائل والموسيقى.

تصيب الكاتبة حين تدفع بطلتها إلى هذا الكمّ من الحزن الممهور بالغضب، ثمّ تدفعها لكتابة الرّسائل. فسواء كان هذا بوعي منها أو لا، فقد حقّق لميار فعل التّطهّر والانعتاق، فالنّموّ والشّفاء، فالبعث والعودة. ولهذا تكتب ميار ثلاث رسائل لثلاثة أشخاص شكّلوا حياتها: سارة، حلا ونديم. فلا قيمة لهذه الرّواية دون هذه الرّسائل. في كتابة الرّسائل بوحٌ ومكاشفةٌ وبعثٌ للغياب وتحرّر من القهر والألم. والكتابة ذاتها واقعٌ حرٌّ. ولأنّ الكتابة إثبات للوجود وتفريغ للغضب وتطهير للقهر تكتب ميار رسالتها الأولى لسارة. تكتب لها لأجل كلّ هذا، ولأجل أن تزفّ انتصاراتها أيضًا. ولأنّ رسالتها مكتوبة وليست محادثة شفهيّة فإنّها ستكون أشدّ صراحة ورسوخًا وأثرًا على سارة. لذا تطلب ميار منها: “احتفظي بها. أعيدي قراءتها، قلّبي حروفها على مهل”(ص10). كما أنّ استخدام الضّمير المتكلّم المباشر “أنا” إثبات لجرأتها وتعزيز لوجودها، مثلما هو إدانة ومحاسبة على مصادرة صوت ميار وحقّها بدراسة الصّحافة والتّعبير عن رأيها بحرّيّة.

ولأنّ الكلمة استحضار للفقد تكتب رسالة لنديم تستحضر فيها الحبّ وتبعثه من ماضيه على أمل أن يعود، وهو يعود فعلًا في النّهاية. فقد بعث نديم رسالة في اليوم التّالي، اليوم الأوّل من العام الجديد، يجدّد فيها حبّه لها ويؤكّد إخلاصه. في رسالتها لنديم مكاشفةٌ رومنسيّةٌ تبوح بالحبّ والاشتياق وترفض النّسيان. تعترف بأنّها تعبت من ادّعائها بأنّها تلك “القويّة الّتي لم تقهرها ظروف ولم يهزمها زمن”(ص132). في هذه الرّسالة اعترافٌ واضحٌ ضدّ كلّ ممارسات النّسيان، فهو نديم “الحبّ الوحيد” الّذي تملّكها(ص132)، والّذي تكتمل به ولا تكتمل مع غيره. وبهذا الاعتراف المتمرّغ بدمع اللّوعة تؤكّد هزيمتها أمام الحبّ الّذي لا ينفكّ ينبض في فؤادها، معترفة بفشلها في الاستمرار دونه. تعترف أنّ افتقادها له كافتقادها “لرائحة وطن وأهل”(ص131)، فمعه عرفت “طعم الأنوثة”، ومعه ذاقت “طعم الهزيمة والانتصار”(ص133). لذا تقول في نهاية الرّسالة: “نديم.. سقط المنطق عندما قرّرت الكتابة لك”(ص133). يسقط المنطق بفعل كتابة الرّسالة. هذا السّقوط ليس سقوطًا بمعنى النّهاية، بل إنّه سقوط يحمل بداية جديدة مثلما ستكشف لنا الأحداث لاحقًا. هو سقوط منطق المكابرة ومعاندة الحبّ. تحاسب نفسها وتتّهمها بالحماقة حين تخلّت عن حبّ حياتها. فطوال خمسة عشر عامًا في الغربة حاولت ميار إنكار هذا الحبّ وادّعاء البطولة في النّسيان لكنّها تكتشف أنّها لم تكن سوى “حمقاء”(ص132). وفي سقوط حبر الحبّ على الورق تكون محاسبة الذّات ومكاشفتها. في سقوط الحبر يكون الاعتراف؛ الاعتراف بالحبّ، والاعتراف بالهزيمة. إذًا هو سقوط من أجل الصّحوة من حالة النّسيان والإنكار ثمّ التّطهّر. وفي ردّ نديم لها يكون بعث الحبّ وغفران الفراق. في ردّه لها تتحرّر ميار من أسر الاغتراب وألم الغربة.

أمّا الرّسالة الثّالثة فتكتبها لحلا بدمع الشّوق والفقد، رغم إدراكها بأنّها في عالم الأموات. فبالكتابة تستحضر حلا من الموت والغياب. هي محاولة لإدراك العالم الغيبيّ، عالم الموت. فالكتابة حضورٌ. وبالذّكريات تستعيد ما فُقِد منها وما غاب. وبالكتابة لحلا تتطهّر من حزنها ومن حالة الفقد والإنكار كذلك. تخاطبها مباشرة وبضمير المتكلّم فتتجاوز المسافات بين الأحياء والأموات. كانت الكتابة بالنّسبة لميار محاولة للاقتناع بفقدانها بعد أن حاولت لشهور طويلة إنكار غيابها وفقدها: “أخبريني بربّك كيف أقنع نفسي بأنّك صرت جزءًا من ذاكرة وتراب”؟ مارست طقوس النّسيان علّها تستطيع استيعاب غيابها لكنّها فشلت(ص135). إذًا في الكتابة اعتراف واقتناع بحقيقة الموت. في الرّسالة تطهّر من الحزن، تقبّل الفقد ثمّ الوعد بأن تبقيها حيّة تعيش في ذاكرتها وقلبها.

أمّا ما يؤكّد أنّ ميار تستخدم فعل الكتابة كفعل تطهير، لا كفعل تواصل فحسب، أنّها تكتب لحلا الميّتة، أي تكتب مونولوجها لا لتقرأ، بل لتعالج ذاتها المهشّمة وتحرّرها من سطوة الحزن عليها كذلك. وكأنّها تستجيب لميثاق الفكر النّسويّ الّذي ينادي المرأة بأن تكتب نفسها.  ورغم أنّ الرّواية ليست بوحًا نسويًّا صارخًا بقدر ما هي بوح سياسيّ فيه المرأة معادل سياسيّ للوطن إلّا أنّ ميار حين تدفعها الكاتبة للكتابة تستفيد من فعل الكتابة نفسه لما في الكتابة من بوح وتطهير وتحرّر. وإذا قصدت الكاتبة بكتابة الرّسائل التّناصّ مع غسّان كنفاني فقد أحسنت بناء روايتها وارتكازها على الرّسائل، لأنّها حقّقت، بوعي منها أو بلا وعي، الانعتاق والخلاص لبطلتها.

مع رسالة حلا الثّالثة تنهي ميار رسائلها فتقرّر الاستماع للموسيقى في الوقت المتبقّي قبل انتصاف اللّيلة. في هذه المرحلة الأخيرة من التّطهّر ترتقي ميار نحو الصّفاء الرّوحيّ. تستمع روحها للموسيقى فتبلغ الخلاص وتخلع عنها عتمة الحزن، تنعتق من براثنه وتسكنها راحة نفسيّة تجعلها جاهزة للسّموّ نحو نور فجر جديد، وحتّى تتهيّأ للقادم. والقادم هو معركة بطولتها في المؤتمر؛ معركتها الأخيرة في الغربة قبل العودة، فيها ستحقّق آخر انتصاراتها. هكذا تجهّز الكاتبة ميار للعودة؛ تنقّيها لبعث الحبّ من خزائن الماضي، بعث السّعادة والاكتمال بالعودة إلى حضن نديم ويافا.

 

** جوبلين في رموز وأرقام

في البعد السّياسيّ لا بدّ من طرح السّؤال: “لماذا برلين؟”. ألمانيا هي وجع سارة ووجع شعبها اليهوديّ وظلمه في ظلّ النّازيّة. وقد قرّرت الكاتبة أن تذكّر سارة بآلام شعبها، فتأخذ سارة إلى جامعة برلين لتلتقي بميار. هناك ستستمع من جهة إلى قصّة نجاح ميار الّتي رأت بها سارة يومًا صحفيّة فاشلة. ومن جهة ثانية، تذكّرها بآلامها لعلّها إذا تذكّرت تتذكّر آلام الشّعب الفلسطينيّ فتضع نفسها محلّه. ولهذا تقول: “تودّ لو تلتقيها لتنصحها بأن تنظر في المرآة ولو لمرّةٍ واحدة ربّما ساعدها ذلك في إدراك أهمّيّة أن تكون في الطّرف الآخر من المعادلة”(ص119). هي تريدها أن تتذكّر شعبها اليهوديّ حين كان في طرف المظلوم والضّحيّة علّها تدرك مشاعر الفقد والغياب والألم الّتي يعيشها الفلسطينيّون.

يؤكّد هذا رمزيّة العام الّذي بنيت فيه جامعة برلين حيث سيكون اللّقاء بين ميار وسارة. وهو عام 1948، عام النّكبة: “صرح تعليميّ سيبقى عام إنشائه تاريخًا يرافق نكبة شعبها”(ص46). تصنع الكاتبة من هذا الرّقم مفارقة تاريخيّة مفصليّة، وتأتي بسارة إلى هنا لتسمع صوت ميار الّذي حاولت سارة نفسها كتمه قبل خمسة عشر عامًا، “فللأقدار يدٌ سخيّةٌ تعرف كيف ترتّب الأحلام والأرقام وتصفّي الحسابات”(ص46).

تكثّف الكاتبة من ألفاظ العودة ومشتقّاتها فتجعل منها موتيفات كثيرة. ولمّا كانت العودة بالنّسبة للكاتبة بعثًا فإنّها تكثّف من فكرة البعث والقيامة وتجسّدها بموتيفات كثيرة أيضًا، تلميحًا وتصريحًا. فلم يكن عبثًا أن تجعل الكاتبة الرّسالة الثّالثة موجّهة لحلا. فثلاثة رمز القيامة والبعث. وتتأكّد هذه الدّلالة بما قام به أصدقاء ميار في هذه اللّيلة بإرسالهم إليها باقة من التّوليب البنفسجيّ تعبيرًا عن محبّتهم، ومحاولة منهم لاستحضار صديقتها حلا في ليلة الفقد هذه. فالتّوليب البنفسجيّ هو ما اعتادت حلا توزيعه على أصدقائها في ليلة رأس السّنة من كلّ عام. والبنفسجيّ يرمز، إضافة للنّسويّة والملوكيّة، للولادة والبدايات الجديدة والفصح. والفصح هو القيامة. وإرسال التّوليب بعثٌ لحلا حتّى تخفّف من وحدة ميار، وإيحاء تمهيديّ لما سيحدث لاحقًا من بداية جديدة وعودة. وتتأكّد دلالة البعث الّتي تحملها حلا بموتها في الرّبيع، فالرّبيع هو القيامة وبعث الحياة.

يتكرّر الرّقم “ثلاثة” عشرات المرّات، إمّا بلفظه الصّريح أو بالتّلميح أو بمضاعفاته، فيشكّل موتيفًا هو الآخر، كثلاث مرّات رسبت ميار في امتحانها فتشكّلت لها لجنة مكوّنة من ثلاثة أعضاء شكّلوا مصيرها بين ثلاثة أزمنة: الماضي الحاضر والمستقبل، في ثلاثة أمكنة: يافا ودمشق وبرلين. فتحققّ ميار ثلاثة ألقاب بجدارة. وحين تبادر إلى كتابة الرّسائل تكتب ثلاثًا لثلاثة أشخاص. وحين تكون على موعد مع الانتصار على سارة والتّصريح بالحقّ يبقى لها “ثلاثة أيّامٍ فقط”(ص164). ويكون ذلك في المؤتمر في جامعة برلين الّتي يتكوّن شعارها من ثلاث كلمات: “الحقيقة والعدالة والحرّيّة”(ص179). هي نفسها المفردات الّتي جعلتها ميار ركيزة رسالتها في الحياة وعنوانها. كما كان بعث ميار واكتمالها في ثلاثة: مع الحبيب، وفي يافا/ الوطن، وأمام البحر. لقد حرصت الكاتبة على أن تكون ميار دومًا جزءًا من ثلاثيّة ما أو محاطة بها، كدلالة للبعث؛ البعث الّذي يعني العودة واكتمال السّعادة وتغيير الواقع وبناء المستقبل.

ولمّا كان الرّقم ثلاثة رمزًا للقيامة والبعث فإنّ لون الرّقم ثلاثة هو الأصفر. والأصفر نور. والنّور شمس وأمل. وهذه موتيفات تكرّرها الكاتبة بكثافة وتصبّ في مصبّ دلالتنا. والأصفر يعيدنا كذلك إلى تفّاحة بروفيسور شفارتس الّذي آمن بالحياة مناصفةً وبتحقيق العدل والحقّ. ولعلّنا هنا نستذكر رمزًا رقميًّا آخر، وهو من مضاعفات الثّلاثة كذلك، تعمّدت الكاتبة توظيفه وهو الرّقم ثمانية الّذي حمله مقعد ميار في طائرة العودة إلى يافا، ثمّ الرّقم أربعة الّذي كان من نصيب مقعد سارة في الطّائرة نفسها. ويأتي الجمع بين الثّمانية والأربعة بين ميار وسارة رمزًا للثّمانية والأربعين مع ما يحمله من أبعاد سياسيّة. ولمّا تعمّدت الكاتبة توزيع الرّقمين على ميار وسارة في الطّائرة نفسها إلى الوطن نفسه فإنّها تؤكّد ضرورة فرض حسابات جديدة على الواقع، وضرورة تعزيز واقع منصف عادل كالّذي يمثّله بروفيسور شفارتس.

تقودنا فكرة العودة إلى السّؤال: “لماذا لم تتذكّر ميار يافا في ليلة الحزن، ولم تذكر ما ذكره لها العمّ أبو شاهين من تاريخ يافا العريق رغم أنّ معظم مونولوجاتها واسترجاعات ذاكرتها تمّت في هذه اللّيلة؟ لماذا تحدّثت عن عراقة يافا وجمال ماضيها فقط في اليوم الأوّل من العام الجديد؟” من الواضح أنّ الأمر لم يكن اعتباطيًّا ولا عفويًّا، بل يوحي إلى أنّ يافا الجميلة ذات الهويّة العربيّة ليست من ذكريات الماضي والغربة والحزن فحسب، بل هي الماضي والحاضر والمستقبل. تتجدّد مع ميلاد عام جديد، ويتجدّد ميثاقها مع تجدّد الحبّ والعودة إلى نديم. وهذا إيحاء إلى أنّها ستعود إليها وإلى بحرها. فتنهي الكاتبة روايتها، بعد أيّام قليلة، بمشهد ميار متعانقة مع نديم أمام البحر لتجسّد “الثّلاثيّة”، كمشهد العاشقين أمام البحر في لوحة الجوبلين الّتي نسجتها والدتها وعلقتها على جدار بيتهم. هكذا تنهي الرّواية بجوبلين متفائل حالم، وبغد مرسوم بالعودة إلى الحبيب والوطن، منسوجة بالتّحدّي والانتصار وتحقيق الذّات وأرقى درجات العلم، فتعود ميار وتمسي عروسًا تنتظر زفافها. في هذه اللّحظة وأمام البحر يطلب نديم يدها ويعلنها زوجة له، لتكتمل سعادة ميار بالحلم بإنجاب ابنة تسمّيها حلا، كي تتذكّرها دومًا مثلما وعدتها في الرّسالة. كانت ميار بحاجة لأن “تتذكّرها وتذكرها طوال الوقت وكأنّها بذلك تحييها، تبعثها من جديد”(ص113).

وعليه، تدرك سارة أنّ القلم سلاح طويل الأمد فتخاف صوته. وتدرك ميار أنّه أداة لتوثّيق الحقيقة والوجود فلا تتنازل عنه. وتدرك الكاتبة كلّ هذا فنرى القلم مرسومًا على غلاف الرّواية الأبيض، رفيقًا للمفتاح رمز النّكبة والنّزوح. والأبيض رمز آخر للتّطهير وصفاء الرّوح. وبرلين كانت قدرًا أبيض لميار(ص13)؛ فهناك حقّقت أحلامها وأعادت بناء مستقبلها وصاحت بقلم الحقّ. تدرك الكاتبة أنّ الكتابة سلاح الأقلّيّة في ظلّ واقع يهدّد بقاءهم. فبالقلم تأتي بالغياب لتجعله حضورًا. بالكلمة تحفظ ما قد يسقط في الغياب، فتضع الذّاكرة والتّاريخ والهويّة في حضرة الذّكرى والوجود. بوح الكاتبة عن يافا وثيقة وحفظ للذّاكرة؛ ذاكرة شعب لم يبقَ له إلّا أن يوثّق تاريخه ووجوده بالحكي والكتابة.

وأخيرًا، مبارك للكاتبة هذه الرّواية. مباركة هي قفزتها النّوعيّة الإبداعيّة الواضحة بين مؤلّفها الأوّل “خلاخيل” وبين هذه الرّواية، فإلى المزيد من الإبداع.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .