عقدَ مركز مدى الكرمل، بالتعاون مع جمعيّة الثقافة العربيّة، أمسيّة ثقافيّة لمناقشة الإنتاج الفكريّ للمفكّر والمؤرّخ التونسيّ الراحل هشام جعيّط (1935 – 2021)، في مقرّ جمعيّة الثقافة العربيّة في حيفا، وبُثَّت بثًّا مباشرًا على صفحة مدى الكرمل في الفيسبوك. رحل هشام جعيّط في الأوّل من حزيران المنصرم (2021)، بعد مسيرة فكريّة حافلة بالإنجازات، وجاءت هذه الأمسيّة تكريمًا له، واحتفاءً بأعماله وبإنتاجاته الفكريّة وإسهامه للمشهدَيْن الثقافيّ والحضاريّ العربيّين والإسلاميّين.
افتتح الندوةَ وأدارها د. جوني منصور، المؤرّخ والـمُحاضر في كلّيّة أورانيم، بتقديم لشخص هشام جعيّط المفكّر والباحث والدارس في مجال الدين والدولة في العصور الإسلاميّة، ولا سيّما القرن الأوّل الهجريّ. ورحّب بالمتحدّثين والضيوف والمتابعين على منصّات التواصل الاجتماعيّ.
في المداخلة الأولى “هشام جعيّط والتفكير في السياسة في التاريخ الإسلاميّ”، تطرّق الدكتور مهنّد مصطفى (المدير العامّ لمدى الكرمل، ورئيس قسم التاريخ في المعهد الأكاديميّ العربيّ – بيت بيرل) إلى كتاب جعيّط “الفتنة: جدليّة الدينيّ والسياسيّ”، حيث عَرَضَ أهمّ مقولات الكتاب وناقشها. من هذه المقولات ما كان لحدث الفتنة من دَوْر في توسيع المجال السياسيّ في التاريخ الإسلاميّ، ودَوْرها في تطوير الفكر السياسيّ الإسلاميّ، إذ إنّ الفتنة كانت ثورةً مهمّة في التاريخ الإسلاميّ أسهمت في تنزيل التاريخ الإسلاميّ من لحظته المتعالية إلى واقع الصراع السياسيّ. واعتبر مصطفى أنّ جعيّط يقدّم قراءة تاريخيّة عقلانيّة لتاريخ الفتنة وتطوُّرها في التاريخ الإسلاميّ، بعيدًا عن التبسيطيّة الاستشراقيّة وعن الوعظيّة في قراءة التاريخ، بل حاول فهم الشخوص ومَطالبهم ومَصالحهم بصورة إنسانيّة، أي أسهم من خلال كتابه في أَنْسَنة التاريخ الإسلاميّ بقراءة تاريخانيّة عقلانيّة من باحث يرى أنّه ينتمي للهُويّة العربيّة والإسلاميّة.
في مداخلة حملت العنوان “قراءة في فكر هشام جعيّط”، وضّح الأستاذ شمس الدين الكيلاني (الباحث في المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات -الدوحة) أنّ هشام جعيّط ينتمي إلى الجيل الثالث من المؤرّخين العرب المعاصرين، الذين اهتمّوا بالثقافة وبالمفاهيم التي تحكم المجتمع، وعلاقة هذا بالمجتمع والتصاقه بأصوله الاجتماعيّة والتاريخيّة. اهتمّ جعيّط -شأنه في ذلك شأن أبناء هذا الجيل- بالبحث عن مشروع للتقدّم العربيّ الحداثيّ لكن عبْر المرور بنقدٍ وتمحيص للتاريخ والتراث.
يبيّن الكيلاني أنّ اهتمام جعيّط انصبّ على الإسلام التأسيسيّ واللحظة التأسيسيّة للدين الإسلاميّ. وأضاف أنّ قضيّة الأنا والآخر (الذات والآخر) أشغلت جعيّط كذلك، وانعكس الأمر في انغماسه بالتفكير في التاريخ القديم والتاريخ العربيّ، ودَوْر الدين الحاضر بقوّة فيه. في الوقت نفسه، اتّجه فكره دائمًا نحوَ الحداثة، وقد راهن جعيّط في تفكيره على إمكانيّة التوفيق بين الحداثة والدين الإسلاميّ، وتميّزت نظرته إلى الثقافة العربيّة باتّجاهها نحوَ الحداثة واعتناقها على نحوٍ كامل، والتفكير فيها بطريقة جدّيّة، ذكيّة، واعية وشجاعة، ودعا العرب للدخول فيها من موقع قوّة واقتدار، وفي الوقت ذاته بأخلاقيّة وعزّة. في الجزء الثاني من المداخلة، أَوجزَ الكيلاني بعضًا من الأفكار الرئيسيّة التي وردت في خمسة من كتب الراحل هشام جعيّط: “الفتنة: جدليّة الدين والسياسة في الإسلام المبكّر”؛ “الكوفة: نشأة المدينة العربيّة الإسلاميّة”؛ “أزمة الثقافة الإسلاميّة”؛ “الشخصيّة العربيّة الإسلاميّة والمصير العربيّ”؛ “في السيرة النبويّة”.
في المداخلة الثالثة، تحدّث د. حسني مليطات (الباحث والمترجم والحاصل على درجة الدكتوراه من جامعة الأوتونوما في مدريد، من برنامج دراسات الفنّ والأدب والثقافة) عن “فكرة التاريخ في أعمال هشام جعيّط”. يصف د. مليطات أسلوب جعيّط قائلًا: “نجده قد اتّخذ أسلوبًا خاصًّا به يقوم على “كتابة ما تمّ إدراكه” من “الحقائق التاريخيّة” التي اهتمّت بدراسة هذا الموضوع. وفعْل الكتابة الإدراكيّة يوضّح للمتلقّي مدى قدرة المؤرّخ المفكّر، هشام جعيّط، على خلق خطاب تاريخيّ خاصّ به، يفصّل فيه وجهة نظره بعيدًا عن الالتزام القطعيّ بــِ “المرْويّات التاريخيّة” وأقوال الثقاة، وإنّما ببناء رأي وتأسيس منهج خاصّ به”. ويضيف مليطات أنّ في هذا إشارة إلى قدرة المؤرّخ المفكّر، هشام جعيّط، على “التفكير في الحدث التاريخيّ”، وإدراك “الحقيقة التاريخيّة”، وجعل التاريخ عبارة عن “تفكير”، يحتاج المؤرّخ إلى درايته بتأنٍّ كي يكون قادرًا على إعادة قراءته ومحاكاته بما يتوافق مع رؤيته، إذ يرى التاريخَ العلْمَ الذي يحرّك العقل ويحتاج إلى قدرة على فهم مضامينه.
لمشاهدة الندوة،