العودة إلى أمِّ الزِّينات أكيدة ـ فصل من كتابي “حماة الدِّيار” د. خالد تركي حيفا

 

الرَّفيق إبراهيم الفحماوي، أبو وائل:

تقع قرية أم الزّينات على سفوح جبل الكرمل، منطقة وادي الملح، جنوب شرق مدينة حيفا، حيث تبعد عنها نحو عشرين كيلومترًا. وقد كانت مأهولة بالسُّكَّان منذ العهد الرّوماني ـ البيزنطي إلى أن سقطت في الخامس عشر من شهر أيّار من العام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين بعد أن احتلّتها الكتيبة الرّابعة من لواء غولاني في عمليَّة سُمِّيَت “ביעור החמץ” أي اجتثاث الخميرة، (وهي عملية تطهير، اعتمدها اليهود قبل عيد الفصح العبريّ، عن طريق النّار بالحرْقِ أو الغليان لجميع أواني البيت وأثاثه وأطراف البيت وتنظيف كلّ ما هو شائب أو مُخمّر حتّى يكون البيت نظيفًا) والتي كانت جزءًا من عمليّة المقصّ لقطع أوصال مدينة حيفا العربيّة. لقد أرادوا لأمّ الزّينات ومنطقة جبل الكرمل، كما أرادوا لباقي الوطن أن يكون “حلالاً כשר” و”طاهرًا” و”نظيفًا” من سكّانه الأصليين، أي مُلكًا خالصًا لهم، فوجود العرب فيه “يُدنِّسه” – حسب زعمهم- لذلك قاموا بعمليّة تطهير عرقي، بعملية اجتثاث “الخميرة” (العرب الفلسطينييّن) أهل هذه البلاد الأصليين، وأقاموا واقعهم الاستيطاني.

يسردُ الكاتب الفلسطينيّ، ابن أمّ الزّينات،والمُقيم حاليًّا في الكويت، محمّد الأسعد (اسمه الكامل محمّد إسماعيل الأسعد حردان)، في روايته “أطفال النّدى” ما حدّثته والدته عن “الدّعم” العربي للثّوّار وكيف كانت تصل الإمدادات للحركات الصّهيونيّة من الغرب إلى الدول العربيّة المجاورة، كمحطّة لتخطيط إدخالها إلى فلسطين، وكيف أنّ الجيوش العربيّة طلبت من الثُّوَّار الفلسطينيّين أن يُشاركوهم في القتال، لمساعدتهم، فتنفّس المُقاومون الصّعداء، حتّى يستريحوا قليلاً من عناء القتال، وتركوا لإخوانهم أن يتسلّموا المواقع، فطلبوا منهم تسليم أسلحتهم ليُقاتلوا عنهم ومعهم، لكنّهم بعد أن تسلّموا سلاحهم، اعتقلوا الثّوّار ونقلوهم إلى الأسر العربيّ، تاركين جثث المقاتلين في مواقع المواجهة والقتال لدرجة أنّ والده ظلّ يعتقد بعد عشر أو عشرين سنة أنّ الضّباع ما زالت تأكل جُثثهم:” لا يبدو أنّ أحدًا أدرك لهم وجودًا” (ص 22). وفي مكان آخر يقول:”أنحن أصحاب أحزاب وتحزّبات وما زالت الضِّباع تأكل جثث رجالنا؟ ويبدو لي هذا التّعبير بليغًا أو شبيهًا بحكمة تُقال لترسم حياة كاملة. وما بعد هذه الحكمة هو الصّمت ..الصّمت إلى الأبد” (ص46).

لقد لجأ أهل أمّ الزّينات إلى التّجمّعات السّكّانيّة المجاورة كالفريديس وطمرة وأمّ الفحم وحيفا ودالية الكرمل وجنين وبعضهم تجاوز حدود الوطن إلى الدّول العربيّة المُجاورة.

وُلِد الرّفيق إبراهيم محمّد إبراهيم فحماوي، أبو وائل، في قرية أمّ الزّينات عام ألفٍ وتسعِمائة وثمانية وعشرين، حيث أنهى الصّف الرّابع الابتدائي في المدرسة الابتدائيّة للبنين في القرية، وتابع بعدها دراسته في مدينة عكا، حتّى أوّل ثانوي، إلى أن أنهى ثانويّة كليّة النّجاح في مدينة نابلس. يذكر كيف أنّ الجيش البريطاني كان يدخل قريتهم للتّفتيش عن الثّوّار بعدما شارك أهلها في ثورة العام ستّة وثلاثين تحت قيادة الشّيخ يوسف أبو درّة وبعد مقاومةٍ شرسة أراد الانجليز الانتقام من أهل القرية فقاموا بهدم خربة أم الدّرج عن بكرة أبيها وهجّجت أهلها بعد أن استشهد ثلاثة من أبنائها. وقاموا بطرد أهل القرية من بيوتهم إلى البيادر، ودخل الجنود البريطانيّون بيوت المواطنين ليَعيثوا فيها دمارًا وخرابًا حيث خلطوا مؤن البيت بعضها ببعض، الزّيت والبيض والطّحين والسّكّر، بعد أن رموها أرضًا ففي رواية “أطفال النّدى” يذكر الكاتب ما حدّثته والدته عن انتقام الانجليز: “لَم يتركوا في البيت لا زيتًا ولا قمحًا إلاّ وخلطوه بالشّيد وطاردوا الدّجاج ومعسوا رؤوسه بالشّيد..”(ص 72).

ابراهيم فحماوي أو وائل في الوسط لقد كانت علاقة أهل أمّ الزّينات مع جيرانهم اليهود في مجمّعاتهم المجاوِرة علاقة حسن جوار، وكان طريق القرية الشّارع السّالك والآمن والوحيد والرّبط بين الجنوب والشّمال وكانت تربط هذه المجمّعات مع مختار البلد، أيضًا، علاقة ودّيّة ودودة.

يقول الرّفيق إبراهيم: “يصقل الانتماء الطّبقي عقلَ الإنسان ويخلق عنده الوعي، لأنّ الوطنيّة عند البرجوازي الوطني تنبع من جيبه بينما عند الفلاحين تنبع من قلوبهم وأفئدتهم وشعورهم الإنساني، لقد أقمنا في قريتنا قبل سقوطها خليّة شبابيّة يجمعها الحسّ الوطني وتنشد إلى كيفيّة التّصدّي للاستعمار ودعم حركة المقاومة وكنّا جميعًا أبناء فلاحين فقراء حيث كان مسؤول الخليّة حرَّاثًا، وأتذكره حين هاجم بالمنساس (عصا يضرب بها دواب الحراثة كي يحثّها على متابعة السّير للحراثة، أبو وائل) جنديًّا مستعمِرًا نزل من سيّارته العسكريّة وأراد تصويره وهو يحرث الأرض ففرّ هاربًا إلى سيّارته، لقد اعتقد الحرّاث أنّه يريد تصوير بدائيّة العرب وتطوّر المستعمر”.

يتذكّر أبو وائل مواقع كثيرة في قريته، وما كانت تروي له جدّته عن شجرة الزّير الواقعة في بلدتهم، في وادي الملح، قرب بئر النّاطف، وهي شجرة بلّوط حيث يُحكى عنها أنّ الزّير سالم شرب هناك حليب السّباع وبعدها قتل الأسد انتقامًا منه على افتراسه حماره، وكذلك بنى لنفسه بيتًا من جماجم السّباع بعد أن قتلهم، وتروي رواية أخرى أن السّبع افترس حمار الزّير وانتقم منه الزّير وربطه وعبّأ قربة ماءٍ ووضعها على ظهر السّبع وركبه ودخل أمّ الزّينات وهو يُردّد: اللي بدو يوكل حمير العرب بدّو يزازي تحت القِرب ودخل القرية معزّزًا على ظهر السّبع، وكان لأهل البلد درسًا في الشّجاعة (سلمان ناطور، أم الزينات والرّمز الأخضر).

ويتذكّر كذلك خربة أمّ الدّرج والهراميس ووادي الملح وزينة وأوديتها وينابيعها

عيون الرّوحة والصّفصافة وبئر السّباع وبئر الهراميس وبئر النّاطف..

وجد الرّفيق إبراهيم فحماوي نفسه، بعد أن سقطت بلدته، لاجِئًا كأهل بلدتِه،

يقول الرّفيق أبو وائل: “قبل سقوط أمّ الزّينات بيوم واحد دخل قريتنا الآمنة ثلاثة رجال من مستوطنة عين هعيمق يُحذِّروننا بأنّ قوات الهجناة تتحضّر لدخول قريتنا حيث كان هدفهم إخافتنا لنهرب، ونترك القرية، فمنهم من خاف وهرب ومنهم بقي وانتظر مصيره”.

فقد اتّبعت عصابات الهجناة نفس الخطط لتهجيج النّاس في كلّ البلدات، الإرهاب والتّخويف والتّجويع والحصار والقتل، لقد قتلوا النّاس دون رحمة حتّى العُجَّز لَم تسلم من رصاصهم، فقد قتلوا ثلاثة رجال تراوحت أعمارهم بين مائة وسنتين وسبعين سنة وهم الحاج عبد الغني بشر واسماعيل عرف فحماوي ومحمّد سليم حردان وحتى الآن لم تجد عائلة حردان جثّة شهيدها، إذ كان رجلاً محترمًا وقديرًا من وجهاء القرية. لقد أحكموا إقفال المنطقة في منافذها الثّلاثة وأبقوا منفذًا واحدًا إلى قرية دالية الكرمل. ويروي الكاتب الفلسطيني سلمان ناطور في أم الزينات والرّمز الأخضر عن علاقة الهجناة مع مختار البلد الذي كان مسالِمًا، اللهمّ بلدي:” كان الضابط يهودا من يكنعام “لطيفًا وإنسانيًّا”، فلم يجبره على الخروج من الجهة الشّمالية، كان لطيفًا لدرجة أنه ترك له حقّ الخيار “لأي جهة بدك تروح”. واختار يوسف العيسى… خربة أم الدرج. “بعد دقائق سمعنا طلقات رصاص، عن مسافة كيلومتر..

كانت أمّ الزّينات تحت مجهرهم منذ العام ألف وتسعمائة وأربعة وأربعين “كان الهدف تفحّص القرية وجلب معلومات مثل أين يقطن المختار، وأين يقع الجامع، وأين يسكن أغنياء القرية، ومن كان نشيطًا في ثورة 1936. لم تكُن هذه مهمّة خطرة جدًّا لأنّ القائمين بها كانوا يعرفون أنّهم يستطيعون استغلال أصول الضّيافة العربيّة التّقليديّة. بل أنّهم حلّوا ضيوفًا في بيت المختار نفسه. وعندما لم ينجحوا خلال يوم واحد في جمع المعلومات التي كانوا يبحثون عنها، طلبوا استضافتهم مرّة أخرى. وكُلِّفوا أن يحصلوا في زيارتهم الثّانية على معلومات عن خصوبة الأراضي التي يبدو أنّ نوعيَّتها الجيِّدة أدهشتهم كثيرًا. وقد دُمِّرت أمّ الزّينات في عام 1948 وطُرد جميع سُكّانها، مع أنّه لم يصدر عنهم أي استفزاز” التّطهير العرقي في فلسطين، إيلان بابه (ص 30).

عمل رفيقنا أبو وائل في دالية الكرمل مدرِّسًا، وانتمى إلى صفوف الحزب الشّيوعي في أواخر عام النّكبة، بعد أن تعرّف هناك على زميلٍ يُعلِّم معه في المدرسة، على ما يعتقد أنّ اسمه سهيل، رفيق في الحزب الشيوعي انتقل بعد ذلك للعمل في يافة القدس وبدأ انتماءه وميله إلى الشّيوعيّين أكثر. يذكر أنّه كان مع أصدقائه يتمشون في شارع دالية الكرمل الرّئيسي و”إذ بشابٍّ يافع طويل القامة عريض المنكبين اسمر البشرة، لا أذكر اسمه، يسألني وين ساكن إبراهيم فحماوي فقلت له وما طلبك قال لي: أريده شخصيًّا وعندما عرّفته على نفسي أعطاني كيسًا ثخينًا قائلاً: هذه هديّة من الجماعة وعندما فتحته وجدتُ أعدادًا من صحيفة الاتّحاد، لقد كانت تُوزّع بشكلٍ سرّيٍّ، حتى قراءة الصّحيفة كانت سرّيّة فكم بالحري توزيعها”.

لكنّ مواقف أبي وائل الوطنيّة ومعارضته للاحتلال ورفضه للظّلم اللاحق بأبناء شعبه واضطهادهم حالت دون أن يستمرّ في عمله حيث فُصِل من سلك التّعليم وبدأ يعمل أينما وُجِدَ العمل وكان عليه إصدار تصريح كلّ يوم أو ثلاثة أيّام..

وهذا يدُلّ على مدى تدخّل أجهزة المخابرات في سلك التّربية والتّعليم من تلك الأيّام وإلى يومنا هذا، كما هي الحال في باقي المجالات من سلك التّدريس والتَّعلُّم والتّعليم، إلى القبول في الجامعات والمصانع والمكاتب والدوائر الرّسميّة وغيرها. كلّ شيء مُراقب وبدرجة عالية وفائقة الإحْكام من أجل إرهاب وترهيب الجماهير فارِضَةً عليهم جوّ الشّكّ من كلّ شيء والتّشكيك في كلّ شيء، لتكون القناعة عند جماهير شعبنا أنّه حتّى الحيطان لها آذان تسمع وتنقل ما تسمع لمن يهمّه الأمر ليُحاسِب.

“إذا تكلّمت في النّهار فالتفتْ، وإذا تكلّمت في الليل فاخفتْ…”

قائمة المعلّمين الّذين طُرِدوا واعتُقِلوا وفُصِلوا من سلك التّعليم طويلة جدًّا، وكان السّبب أنّهم رفضوا كلّ إغراءات المخابرات والوزارة التّابعة لها من توظيف وتعيين وتنصيب بمركز تعليميٍّ مرموق، لكن هيهات، لقد أرادوهم ختمًا في يدهم وخاتمًا في خنصرهم، أرادوهم ببغاوات، وطبولاً جوفاء، أرادوهم كمثل الحمار الذي يحمل أسفارًا، أرادوهم أن يُعلّموا طلاّبهم “كيف جفّفنا مستنقعات الحولة وأقمنا المستوطنات” وأن يُنْشِدوا مع طُلاّبهم “عيد استقلال بلادي” وأن يُدرِّسوهم قصيدةً لإلقائها في احتفالات نكبة شعبهم عن الدّولة التي أقاموها على تراب وطنهم بعد أن طردوا شعبهم “نورٌ تألّق في سماء المشرِق” عن ظهر قلب وأرادوهم معلّمين يُخَرِّجوا طُلابًا حطّابين وسقاة ماء ورعاة. لأنّهم يخافون من الكلمة والدّراسة والتّطوّر. فالكلمة والقلم الّذي يكتبها والعلم الّذي ندرسه ونتعلّمه أقوى وأمتن سلاح. فقد جاء في الحديث الكريم: فضل العلم خير (أو أحبُّ إليَّ) من فضل العبادة، أطلب العلم ولو في الصين. فكم هو العلم مُهمّ في تطوّر الأمم.

انتقل بعدها رفيقنا أبو وائل إلى طمرة وهناك تعرّف على الأصدقاء علي عمر زيداني، وأنيس القاسم ولطفي سليم همّام وعلي عيّاشي ومحمود محي الدّين ومعهم تكوّنت أوّل خليّة شيوعيّة في طمرة. وبعدها انضمّ الشّباب الوطني الغيور لتُكوِّنَ أوّل خلية للشّبيبة الشّيوعيّة حيث ضمّت محمّد حسّان وحسين حسّان وعلي حسّان وعادل أبو الهيجاء ومروان أبو الهيجاء وآخرون. “وسكنتُ في حارة الحجازي وكنّا نجتمع عند الرّفيق أنيس القاسم حيث كانت تصله جريدة الاتّحاد للتّوزيع لأنّ بيته يقع قرب محطّة الباص، وكثيرًا ما اعتدوا علينا وقت التّوزيع وتصدّينا لهم بقوّة ونما الفرع وكبُرَ وتعدّدت خلايا الحزب والشّبيبة رغم أنف الغاصبين”.

استلم الرّفيق ابراهيم فحماوي أمر الإقامة الجبريّة حيث مُنع من الخروج من طمرة وأن يُلازم بيته بعد مغيب الشّمس. فكتب منشورًا بالتّنسيق مع الحزب يدعو فيه إلى وقف هذه الإجراءات المُذِلّة حيث أعلن فيه عن إضرابه استنكارًا لاضطهاد الجهاز العنصري الحاقد والتّجويع ومنع العمل. يقول: “أخذت عائلتي، زوجتي وابْنِي وائل (الآن أصبح طبيبًا) وابنتي أحلام إلى مقر الحاكم العسكري في شفاعمرو ودخلته بالقوّة، وبدأ ولداي هناك باللعب والمشاغبة وإذ بسكرتير الحاكم، شكري، يدعوني إلى الجلوس فقلتُ له صارِخًا وموبِّخًا أنّنا لم نأتِ هنا للجلوس أو الضّيافة أتينا معلنين الإضراب إلى أن أتحرّر من الإقامة الجبريّة وأحرّر عائلتي من الجوع وأضمن لهم لقمة العيش بشرف. فجاءتني أم خازن (من سخنين على ما أظنّ تعمل هي الأخرى هناك) وسألتني مالك على شكري فهو مسكين موظّف قلت لها أنه ذنب لِهَذا الجسم وقطع الذّنب حلال.. وحين كان الوقت دوامًا كان حضور الجمهور غفيرًا حيث ظنّ الضّابط شويلي أنّهم أتوا للتّضامن معنا، وخوفًا من تطوّر الحوادث أعطاني تصريحًا ولشهر كامل”.

سُجن الرّفيق إبراهيم فحماوي عدة مرّات منها الإداري لبضعة أشهر ومنها لسنوات عديدة

كان أطولها اثنتي عشرة سنة، في سجن شطّة، “ظلمًا وافتراءً وخوفًا من الصّوت الحرّ”.

أُقيمت في أوائل الخمسينات لجنة لثلاث عشرة قرية مُهجّرة، بعد أن اجتمعت في

مقهى الدّلالين في مدينة عكّا، يطالبون من خلالها بالعودة إلى قراهم وبحقّهم في زراعة أراضيهم لكنّ جهاز المخابرات كان حاضرًا، على الأرجح، مع مندوب وزارة الزراعة حيث قرّروا إعطاء هذا الفلاح وحرمان ذاك الأمر الذي كاد يُدخل الفلاحين في خلاف شرسٍ، فوقف رفيقنا أبو وائل مخاطِبَهم بعد أن حاولوا منعه: “هذه مؤامرة لن ندعها تمرّ لأنّهم يريدون تفرقتنا لنتعارك مع بعض وننسى وحدتنا وحقّنا في وطننا، وما أن أنهيت كلمتي وإذا بعصا في يد كاهلٍ من قرية كابول كادت أن تهوي على رأس مندوب الوزارة فخافوا وفرّوا هاربين من الاجتماع، لكنّهم عادوا ليلاً كالخفافيش السّوداء لاعتقالي، وأتاني الضّابط حنّا حدّاد ليُخيِّرني إمّا أن تُعلن براءتك من الحزب الشّيوعي أو تسجن إداريًّا! فاخترتُ شرفي وشرفَ حزبي”.

حين وصل خبر الاعتقال إلى رفاق حيفا، طلب الرّفيق غسّان حبيب، سكرتير منطقة حيفا للحزب الشّيوعي، من والدي، إبراهيم تركي، الذّّهاب إلى طمرة لإعلام أهله بالاعتقال وإحضار حاجيّاته، رغم أنّ أبا خالد كان عائدًا لِتَوِّهِ من عمله الشاقّ. فذهب إلى حانوت ستيراتي اليوناني واستأجر منه درّاجة هوائية منطلِقًا من هناك إلى قرية طمرة. حين وَصَلَ القرية أعلم عائلته بالاعتقال وجَلَبَ معه حاجيّات أبي وائل، وكان قد أرخى الليل عباءته السّوداء، وكانت الدرّاجة الهوائيّة المُسْتأجرة دون أضواء. فقد كان في حوزته فانوس يضيء بعد شحنه ببطاريّة، وكانت عملية إطفاء الفانوس وإشعاله متعاقبة وبوتيرة سريعة واحدة حتّى يُرَى في العتمة، على الطّريق ما بين طمرة وحيفا، وحين وصل مصنع تكرير البترول “الرِّيفاينَري”، التقى صُدفةً بالرّفيق ميشيل عون يقود سيّارته، فصاح بوالدي أن يتوقّف ليقِلّه إلى حيفا مع درّاجته بسيارته، مُوصِلاً إيّاه مقرّ الحزب، إلى قاعة “مؤتمر العُمّال العرب” الواقع في حيِّ وادي النِّسناس.

وفي اليوم التّالي ذهب الرّفاق إبراهيم تركي وعودة الأشهب إلى أبي وائل في

مُعتقله في سجن الدّامون، الواقع على سفوح جبل الكرمل قرب خربة الدّامون

المُهجّرة. حيثُ استمرّ الرّفيق إبراهيم فحماوي رهن السّجن مُدّة عشر سنوات في سجن شطّة، تحرّر بعدها ليبقى شريفًا ومُخلِصًا وأمينًا لشعبه ولمبادِئ حزبه إلى يومنا هذا. وهنا يشرّفني أنشر صورة أبي وائل حامِلاً علم الحزب الشّيوعيّ في مقدِّمة مظاهرة الأوّل من أيّار بتاريخ 30/4/1988 والّتي جابت شوارع مدينة حيفا بِدءًا بوادي النِّسْناس، وإلى جانبه رفاق الشّبيبة الشّيوعية بأعلامها الحمراء والرِّفاق بطرس سمعان ونظلة عطيّة وإيتيل كلنغر.

يتذكّر الرّفيق إبراهيم أنّه كان يلتقي بأصدقائه لقاءات عفويّة وليليّة ويدور نقاشٌ، يحتدّ تارةً وأخرى يهدأ، لكنه كان يتّفق دائمًا مع الرّفاق شفيق خوريّة من شفاعمرو ومحمّد الحاج من كفر ياسيف وإبراهيم بولس من البعنة في النِّقاش، وذات مرّة زارهم رفاق من قيادة منطقة عكّا يذكر منهم جمال موسى ورمزي خوري وهكذا تحوّلت إلى خليّة من الشّيوعيّين انضمّت بعدها إلى الشّبيبة والحزب “حيث أذكر أنّني تلقّيتُ منهما هديّة، رواية لمكسيم غوركي، الأمّ، وقرأتها عدّة مرّات”.

حين سُجن رفيقنا أبو وائل في سجن شطّة، بعد أن اتّهم تهمة نقل معلومات للجمهوريّة العربيّة المُتّحدة، لَم يكن السّجن غريبًا عنه. وهناك قاد إضرابًا تضامنيًّا مع الرّفيق القيادي في الحزب الشّيوعي الفلسطيني نعيم الأشهب، حين قام أحد الزّعران بالاعتداء عليه بضربة غدّارٍ على رأسه بصحن الأكل وجرحه، وكان الإضراب ناجحًا باشتراك خمسة وأربعين سجينًا، دام ستّة أيّام حيث أوقِف بعد تدخّل الرفيقة المحامية فليتسيا لانغر بقولها أنّ هدف الإضراب نجح وغايته وصلت إلى العالم و”كان هناك سجّانون من بني معروف وقلّة من اليهود أيضًا كانوا ينادونني ليلاً للاجتماع مع الرّفيق نعيم، نشرب القهوة ونتسامر، حتّى أن السّجّانين قالوا لنا مرّةً عيب علينا نحمل هاي المفاتيح ونسكّر عليكو وحين أخبروني، مرّة، بمعركة الكرامة حزنتُ فقال لي السّجّان أنا كمان زعلان بس ولا يهمّك صامدين.. ومرّات عديدة أوصلوا رسائلي، سِرًّا، إلى أهلي وإلى رفاقي..”

سافر الرّفيق إبراهيم فحماوي إلى موسكو لدراسة الفلسفة الماركسيّة والتّطوّر الاجتماعي في المعهد الدّراسي، في أوائل الثّمانينات، دامت ستّة أشهرٍ، وكان رئيس الوفد الرّفيق حنّا خشيبون. وهناك زاره الرّفيق نعيم الأشهب، أبو بشّار، حيث كان لقاؤهما مؤثِّرًا، فَتَحَ صفحات مشرِّفة من تاريخهما الواحد والموحّد وكان لحديثهما شجون أعادت لهما ذكريات صعبة لكنّها دروس في الصّمود والوحدة والموقف المشترك..

تحرّر في العام ألفٍ وتسعِمائة وواحدٍ وسبعين حيث باشر نشاطه الحزبيّ، وحالاً غيَّر مكان إقامته إلى مدينة حيفا بعد أن أخذ إخوانه أبناء عائلته ليسكنوا فيها. “ووصلني إلى طمرة إخطار لحضور مركز الشّرطة في مدينة عكّا، حيث أراد الضّابط “منحي” الإقامة الجبريّة، مرّة أخرى، فقلت له كيف هذا وأنا أسكن مدينة حيفا وعندما أعطيْته هويتي شحبَ لون وجهه القاتم والحاقد وتفتّحت خلايا جسمي فرحًا وسكنتُ في حيفا”.

يسكن الرّفيق أبو وائل في مدينة حيفا، حيّ الحلّيصة، وحين تسأل عنه أهل الحيّ يدلّونك على بيته وحانوته الصّغير ويقولون آه أبو وائل الشّيوعي..

إبراهيم محمّد إبراهيم فحماوي مناضل عنيد ولاجئ في وطنه ومعتقل ضميرٍ حرٍّ وأسير لقضيَّةٍ عادلةٍ، خضع لأوامر الإقامة جبريّة والتّجويع والتّرحيل والطّرد من العمل وكلّ هذه الضُّغوطات لم تنل من عزيمة هذا المقاوم الشّيوعي قيد أنملة، بقي مقاومًا، شيوعيًّا، ثابتًا، شهمًا، حُرًّا، ذا مروءة، عزيزَ النّفس وحريصًا على مبادئه من أجل عزّة الوطن ورفاه أهله وعودة أهله إلى أمّ الزّينات، ليشربوا من ماء آبارها كما يحلو لهم ومتى يريدون ومن أيّ بئر أو ينبوع يختارون من عيون الرّوحة والصّفصافة وبئر السّباع وبئر الهراميس أو بئر النّاطف ويعملون في أرضهم ما يشاؤون..

وليجدوا قيلولتهم تحت شجرة الزّير سالم متى طابت لهم..

هذا المناضل يُردِّدُ معنا ونُردِّد معه:

مِطَّاوِل عَ الشُّيُوعِيّة خايِن مِيِّة بِالمِيِّة..

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .