دون مقدمات، وأنا لست بناقد، وفي جلسة واحدة امتدت حوالي اليوم، قرأت “مطلقة” الصديق الشيخ جميل السلحوت. لم أتعثر كثيراً في القراءة، فاللغة سلسلة، والأحداث متسلسلة، ومشوقة، لأعرف ما مصير هذه المرأة، الشخصية الرئيسة “جمانة”. يعني ذلك أن الرواية تستحق القراءة، والتوقف عند المفاصل الرئيسة منها.
بغض النظر عن الاحتراس الذي تقدم الأحداث، بأن هذه الرواية، هي محض رواية، وأن أي تشابه بين شخصياتها، وما في الواقع، هو صدفة، فإن ما جاء ليس بعيداً عن الواقع، وليس صدفة، بل هو تخطيط مقصود، وموزون من الكاتب، وربما جاء الاحتراس، للنأي عن أية تعقيدات قد تحصل لتشابهها مع الواقع، فمهما حاولنا الابتعاد عن الواقع، يكون أحياناً أغرب من الخيال والمتخيل.
وإن كنت أعيش بضع كيلومترات بعيداً عن البيئة الاجتماعية للشيخ جميل، فإن كل الشخصيات الواردة في الرواية، كانت من واقعي أيضاً، فأعرفها كلها، تعيش حولي، في المدينة وفي القرية وفي المخيم، فهي منا وفينا، وإن اختلفت التفاصيل قليلاً أو كثيراً، حتى أني أفكر بعرضها على بعضهن، ليستمدن القوة والحزم ليعشن كما ينبغي، ويطبقن الرؤية العامة لجمانة كما ينبغي.
ربما سأختلف فنياً مع صديقي جميل، بالزواريب التي سلكها في بعض الأحيان، لكن الرواية تبقى منارة، ورؤية للنساء وللرجال معاً، لفهم هذا الواقع العادي والمتخيل.
من قال أن الكاتب، والروائي بالذات، يجب أن يحمل رسالة، يبلغها في كتابته، دون إقحام، ودون تصنع، ببساطة، دون تزلف، فعليه أن يقرأ “المطلقة”، فلا الأيدلوجيا تحكمه بشكل صارخ، ولا استطاعت القيود الاجتماعية من انطلاقه، رغم انغماس جميل في المجتمع وقضاياه. بل ربما لأن جميل منغمس لهذا الحد وأكثر، في التقاليد الاجتماعية، والصلح العشائري، والدين كمرجع، جاءت روايته بهذا الشكل.
في الدين، ليست هناك قراءة واحدة، كما أي نص بما فيه نص جميل الجميل، فالدين ممكن أن يكون قيداً، وممكن أن يكون عامل تحرر، فاختار جميل، العامل الثاني، بمعرفته التفصيلية به، من آيات وأحاديث، وإن اختلفنا على صحة بعضها، فما زال النقاش دائراً حول الأحاديث الصحيحة، وتلك غير المثبتة، وغير المنطقية.
لقد اختار شيخنا جميل، الشخصية الرئيسة، طليق جمانة، أسامة، الذي عمل في السعودية مدرساً، وأكتسب هذه الثقافة التكفيرية، الثقافة المغلقة، التي لا ترى في المرأة سوى عورة، ليس لها حق في الحياة، ووعاء للتفريخ. أغلق عليها النوافذ والأبواب والتلفاز وكل شيء، كانت جمانة مجرد سجينة، ليقوم هو بواجباته الدينية، وبالتسلط عليها كل وقت. هذه الثقافة لم تلتزم حدود أرض الحجاز ونجد، بل امتدت لتصبح لها فروعا، وأتباعا في كل الوطن العربي، ذوي الدشاديش القصيرة، واللحى الطويلة، والسواك والمسبحة. هؤلاء الذين رضوا لأنفسهم أن يكونوا مؤدين للعبادات ومتمسكين بالشكليات، دون تدخل في أمور الحكم والسلطات، وحين تدخلوا، كانوا أدوات بأيدي الاستعمار، ففرخوا داعش ومشتقاتها، ليجعلوا من “الربيع العربي” خرابا وتقتيلاً. كل ذلك باسم الدين والتدين، هؤلاء الذين اختلفوا وشرحوا بالتفصيل أركان الوضوء وطقوس الصلاة والصيام، ليضعونا في النهاية في دائرة الزندقة والكفر. جمانة لم تحتمل ذلك، بل تفهم الدين بطريقتها المتنورة، المتعلمة والعاملة والمتفاعلة مع المجتمع. وجدت نفسها في السجن، وقررت أن تمزق قضبانه، وهكذا كان.
يفهم المجتمع، ويفهم آخرون، أن الزواج مقدس، يربط بين ذكر وأنثى إلى الأبد، مطيعة له، راضية بالذل أحيانا، وبالهوان أحياناً أخرى، تحت مقولة أن طاعة الزوج، هي الطريق إلى طاعة الله، لكن الفهم الحديث، والمتنور، بأن الزواج هو مجرد عقد، له شروطه وبيئته، فإذا ما اختلفا يستطيعان التفريق بإحسان، وأن يبدأ كل منهما حياته، وهذا ما فهمته جمانه، رغم تحملها لسنوات، لتختار التفريق، والبحث عن حياة جديدة، بدل الخنوع والبقاء في السجن الزواجي.
في كل الأحوال، تبقى الأسرة هي طوق النجاة، للأنثى، فإذا كانت متفهمة كما أسرة جمانة، أطلقتها، وفتحت أمامها أبواب الحياة الجديدة، وإذا كانت غير ذلك، ساهمت في موتها النفسي والجسدي. أما دور الأم، أي أم، كما أم أسامة، فيمكن أن يكون دورها مبني على الغش والخداع والكذب والانحراف والغيرة، وممكن أن يكون إيجابياً كما في شخصية أم جمانة. نحن نعرف أن عماد المجتمع عندنا هو الأسرة، بدل الفردية التي يعيشها الغرب، وهذا ما أكده شيخنا جميل الجميل.
إن التفاصيل الدقيقة التي أوردها جميل، تساعد على فهم النص، والانغماس في بيئته، وتمنيت أن تتركز الرواية في صفحاتها جميعها على العنوان الموسوم به الكتاب، إلا إذا كان ذا فائدة. ورغم اختيار شيخنا جميل عنوان “المطلقة”، فإن هذا مدعاة للنقاش أيضاً، فهل هو تقبل نظرة المجتمع، لتقسيم الإناث، إلى عزباوات ومطلقات وأرامل، أم هو استجابة لحظية، لإبراز الموضوع، ونقاشه؟ أميل إلى الخيار الثاني.
هل كان من الضروري، والطبيعي، أن تكون جمانة واختها “سلافات”، أم مجرد صدفة، فلم يأت زواجها مناقضاً ومختلفاً ومبتعداً عن الطرق التقليدية المتبعة؟ ربما صدفة، لكن الكتابة خيار.
هل تمكنت جمانة من اجتياز أزمتها النفسية، والتحول السريع في اختيار زوج جديد؟ لم أتوقف عند ذلك كثيراً.
هل يمكن لعريس جمانة قبول أن يعيش ابنها السابق معه؟ هل هذه دعوة لقبول ذلك؟ أظن أن هذا الموضوع بحاجة لنقاش أكثر.
لماذا تتعلق الأمهات بالابن لهذه الدرجة؟ هل يمنعها ابنها/ ابناؤها من زوج أول لقبول زوج ثاني؟ ما هو الحل المقبول والمعقول؟ لا أملك إجابة واضحة ومقنعة، فما دور الأب والأجداد في هذه المسألة، فالحياة وعيشها الكريم هي بحد ذاتها قيمة، قيمة فردية وأسرية، ولا أرى أن يكونوا عائقا لا للأب ولا للأم، وما زالت القوانين الاجتماعية، تلقي باللوم على الأم دون الأب، ونحن نعرف يا جميل الشيخ، كم سببت هذه السلوكيات إشكالات للمرأة المطلقة بالذات، وسببت انحرافات أيضاً.
بغض النظر عن وجهة نظري الواضحة أحياناً، والباهتة أحياناً أخرى، فإن الشيخ جميل من خلال روايته، سعى لأن نناقش هذا الموضوع، وهذا ما فعلته.
لا بد من الإشارة مرة أخرى، بأن لغة جميل، تصبح أكثر جمالاً من رواية إلى أخرى، وهذا ما دفعني لقراءتها بهذه السرعة، والتأثر بها، وطرح وجهة نظري التي لم تنته بعد.
30-9-2020