عن منشورات مكتبة كل شيء في حيفا صدرت قبل أيّام قليلة رواية المطلقة للأديب المقدسي جميل السلحوت، وتقع الرواية التي يحمل غلافها الأوّل لوحة للفنّان التشكيليّ المعروف محمد نصرالله في 192 صفحة من الحجم المتوسّط، ومنتجها وأخرجها شربل الياس.
في الحقيقة ها أنا أعود مرّة أخرى وأقرأ من حيث وقف الأستاذ جميل في روايته “الخاصرة الرّخوة”، وكما اعتقدت وتوقّعت بأنّ الرّواية لم تتوقّف عند عودة جمانة إلى بيت أهلها مُحمّلة بالكَدّ والعناء كما قرأناها في “الخاصرة الرّخوة”، فكان لا بدّ من استكمال بقيّة القصّة، وها أنا الآن أشعر بكثير من المشاعر بعد قراءتها، في الحقيقة لقد شُفي غليلي من ردّات فعل جمانة الجديدة، وأقول بأنّ الرّواية عادت وتناولت بقيّة حياة جمانة لتوضيح الخبايا، وقصّة عائشة.. وكان هناك عرض واضح لتابوهات جهل الشّعوذة ولجوء النّاس إلى الحلول غير السّليمة دون تفكير أو وعي، فبالنّسبة للرّواية من النّاحية الموضوعيّة فقد استكملت بقيّة القصص، وجذبت وصال أعيننا لنعرف المزيد والمزيد حول تسلسل الموضوعات، وبواطن الشّخصيّات، وحول التّصويرات المشهديّة، ووجود الحركة السّريعة أو البطيئة في عرض تفاصيل الحكاية.
وعند وقوفنا على باب الشّخصيّات، فبالنّسبة لاستكمال قصّة جمانة بطلة الرّواية الّتي صرخت وتمرّدت على كلّ الظّالم الّذي كان واقعا عليها، بالرّغم من تأخّر وقت استيقاظها وإعلانها بأنّ هذه نهاية الصّمت، نعم لقد استيقظت حتّى لو بعد وقت متأخّر، وأكملت صورتها بصفتها مثقّفة وواعية، والآن تستطيع اتّخاذ القرار بقول نعم أو لا، استطاعت التّخلّي عن الحائط المائل الّذي كان يُعذّب فيها بقيّة ما بقي لها منها، وكان ردّها القويّ جدًّا والّذي عبّر عن أهميّة وعي الأمر بعد تعرّضها للألم والظّلم، ألا وهو “رغبتها في دراسة الماجستير في الشّريعة الإسلاميّة، والّذي يختلف تمامًا عن تخصّصها الجامعيّ الأوّل، فوجهة نظرها بأنّ مَن هو ضليع في اللّغة فهو سيفهم الدّين بشكل أيسر وأسلَس بطبيعة الحال”، أعجبني في جمانة هذا التّحوّل الكبير في شخصيّتها وخروجها عن الصّمت، رغبتها الجديدة القويّة في البحث عمّا وراء الأشياء واستقصاء الحقائق بكلتا يديها.
وكان لا بدّ من النّظر في شخصيّة المرأة الظّالمة “أمّ الزّوج” الّتي شكّلت عنصرًا أساسيّا في بداية الرّواية، والّتي عكست بشكل ضروريّ وهامّ دور المرأة في ممارسة العدوان ضدّ المرأة، وفي الشّرّ الّذي قد يتملّك صورة الإنسان، وها أنا أرى هذه المرأة صاحبة الإزدواجيّة في المعايير، والمتناقضة حتّى بينها وبين ذاتها ضحيّة لجهلها وتخلّفها، فدوما نعرف بأنّ “الجاهل عدوّ نفسه”، فأمّ أسامة كانت عدوّة نفسها ومَن حولها، تلك الشّخصيّة المُتسلّطة صاحبة الكلام الفَجّ والجارح، صاحبة الرّؤية القاصرة لكلّ ما حولها، فهي لا ترى ما هو أبعد من أنفها، أراها هنا وقد أصابتني نوع من الشّماتة والسّعادة؛ لأنّها وقعت في فخّ الشّعوذة واستباحة المحرّمات، وأنّها وقعت في الرّذيلة، ولا تزال تُكابر على نفسها وبأنّها لا تخطئ، تلك الشّيطان الّتي اعتقدت ليوم واحد بأنّها مخطئة، فكَنّت خطواتها في السّير نحو الشّرور، ولكنّها سرعان ما عادت لِغَيّها القديم، فالطّبع دومًا ما يغلب التّطبّع.
وفي سياق حديثي عن الشّخصيّات فقد انكشفت الحقيقة وذاب ما تحت الجليد، وظهرت حقيقة طُهر عائشة من العار والفضيحة الّتي تعرّضت لهما، وفي ذلك عبرة كبيرة لتوضيح بأنّ الظّلم ومهما طالت مدّته وجورُه فلا بدّ من انجلائه، وكان أكبر انتقام لعائشة هو عدم إيجاد طليقها زوجة له، لتراعي حرمة الله فيه، فقد فرّت منه النّساء خوفا من الفضيحة، أو تَكرار نفس القصّة.
وشخصيّة أسامة الّذي يعيش في التّيه والضّياع، وانعدام معرفة ذاته، فيعتقد بأنّه على صواب رغم كلّ تشدّقه الّذي طالما كان يعاني منه، ذلك الرّجل الّذي يُمسك الدّين من طرفِه ويُحاول إقناع الجميع وذاتَه قبلهم بأنّه الحقيقة بعينِها، ها هو يُكابد نفسه، ويشعر بالقلق حيال رحيل جمانة عنه، والأمر المُستفزّ في الموضوع بأنّه لا يظنّ نفسه مخطئًا في كلّ خطوة، فحينما يُسائل نفسه عن سبب رحيل جمانة وتمرّدها ونشوزها منه بعد عودتها للبلاد، وبعدما كانت له الزّوجة المِطياع كان يتساءل على طرف لسانه “ما الّذي غيّرها”؟ وهل الخلل فيها أو فيمن حولها من أهلها وعائلتها؟
اندماج التّصوير المشهديّ مع تصوير الشّخصيّات وطريقة السّرد ما كان إلّا عمليّة ذكيّة، وفي ذلك استمرار لعملية طرح أفكار ورسالة الرّواية دون شعور القارئ بأيّ مشكلة أو أيّ عرقلة أثناء القراءة، وأكثر ما لفت انتباهي التّصوير الّذي دار حول طرق فكرة الشّعوذة، والذّهاب بنا إلى ما وراء الطّبيعة بين مُجانسة القول ومطابقته للواقع أو الخرافات، وفي ذلك ذكاء لعكس صورة الجهل الّذي يعيشه المجتمع بكلّ سلاسة ودون تكلّف، كانت هناك حركة بطيئة في السّرد حينما كان الحديث يدور بين أمّ أسامة وبين ذاتها ومع بنات أفكارها، وطرح الشّكوك أو الغرق في الجهل، والانجرار وراء فخّ الوصول إلى الرّغبات دون مَنطقيّة مُحتملة، وها قد وقعت أمّ أسامة الحماة الشّريرة في شرّ أعمالها، وانجرّت وراء الرّذيلة، ولم تعرف بأنّها فعلتها إلّا بعدما “وقع الفأس في الرّأس”، وتصوير لحظات النّدم وشعورها ربّما بتأنيب الضّمير جاء في حركة سرديّة سريعة، وفي ذلك مُحاكاة للواقع، وبأنّ الإنسان الّذي دومًا ما يُصرّ على رأيه وعلى صحّته لا يظنّ بأنّه مُخطئ، ولو أخطأ فشعوره بالنّدم بطيء المفعول، سريع القدوم والذّهاب، وبهذا نرى أيًا ومن جهة أخرى شعوذة الدّجّالين، الّذين لا يملكون من العلم شيئا أولئك الّذين يُتاجرون بالدّين شرّ تجارة، ولا يدرون بأنّ الله مُعذّبهم ومُمحقهم.
وإذا نظرنا في الجانب الفنّيّ للرّواية من جهة أخرى، فالعنوان يُشير بشكل أو بآخر إلى الإنحياز إلى طرف واحد في القصّة هو جمانة، والحديث الدّائر حول كونها تطلّقت، لكن وفي ذات الوقت فهو يُشير إلى حالة مجتمع بأكمله، وإلى نظرة الأهل والأقارب والنّاس للمرأة المُطلّقة على حدٍّ سواء، وأخذها على مآخذ الجريمة أو حتّى الشُّبهة، وفي ذلك تكثيف للفكرة واختصارها في كلمة واحدة “المُطلّقة”، بالإضافة إلى كون اسم المفعول هنا معرفة، ففي ذلك تأكيد وإشارة إلى أنّنا نستكمل حديثنا حول شخصيّة نعرف خباياها من قبل، والآن ننظر إلى اعتبار ما سيكون أو ما ستؤول إليه حالها وهو الطّلاق.
والأفكار في الرّواية مُتداخلة مع فكرة السّرد ووصف الشّخصيّات من خلال الحوار الدّاخليّ والخارجيّ، فالدّاخليّ مثل ذلك الّذي دار بين أمّ أسامة وأفكارها حول خطئها أو عدمه، وبين جمانة واتّخاذها لقراراتها بمداراة نفسها وعائلتها من الأخطار الخارجيّة، وذلك الخارجيّ الّذي دار بين شخصيّات الرّواية مثل أسامة وأمّه وأخيه، ومثل الشّيخ وعائلة جمانة أو عائلة أسامة.
بالإضافة إلى غنى النّص بالأمثال الشّعبيّة الّتي تُشعر القارئ بأنّ الكاتب قريبٌ من أفكاره، وبأنّ الكاتب أقرب للواقع، ويعرف ما سيدور في ذهن القارئ بعد كلّ واقعة يُضرب فيها المثل. وهذا الحديث الطّويل لا يُغنينا عن الحديث عن اللّغة الّتي هي أمّ التّواصل ولغة الاتّصال، فقد اعتدنا على لغة قريبة من كلّ قارئ، لغة تُكتب لعامّة الشّعب دون اقتصارها على فئة دون أخرى، فيستطيع أيّ أحد أن يقرأ الرّواية ويفهم فحواها، فقط لأنّ اللغة قريبة منه، بل لأنّها قصّة مُطوّلة تعكس حكايات مجتمعنا، ولن تكفيها اختزال السّطور أو طولها.
25-9-2020