لا يختلف اثنان من ذوي العقل أنّ الفكر العنصريّ الإستعماري الإرهابيّ هو نتاج العقليّة الغربيّة المتعالية على الأعراق الأخرى، وهي مستمرّة حتّى يومنا هذا، والرّئيس الأمريكيّ الحاليّ دونالد ترامب، ورئيس حكومة اسرائيل نتنياهو خير دليل على ذلك. وقد استغلّوا الدّين لتضليل شعوبهم وتضليل الشّعوب الأخرى لتمرير سياساتهم، ولو عدنا قليلا وسريعا إلى التّاريخ واتّعظنا منه، سنجد أنّ الأطماع الغربيّة في ثروات الشّرق في أواخر القرن الحادي عشر الميلاديّ، قد رفعت شعارات دينيّة وجنّدت فقراء الشّعب تحت شعار “تحرير القبر المقدّس” وسمّوا حروبهم الحروب الصّليبيّة. لكن العرب والمسلمين انتبهوا لذلك ولم ينجرّوا إليه، وسمّوها “حروب الفرنجة”، وهذا ما ورد في كتب التّاريخ العربي الإسلاميّ، ويجدر التّنويه هنا، أنّ من أوائل من تصدّوا لهجمات الفرنجة هم مسيحيو أنطاكية العرب، وقتل منهم الآلاف بسبب ذلك.
وقد انتبه لدور الدّين في تثوير الشّعوب صلاح الدّين الأيوبيّ، عندما جنّد العرب والمسلمين لتحرير القدس والمسجد الأقصى، ونجح في ذلك.
ولعلّ من نظّر وفلسف دور الدّين في تجنيد الشّعوب هو المفكّر الإسلامي ابن خلدون 1332-1406م في “المقدّمة”، ويمكن العودة إلى “مقدّمة ابن خلدون” مؤسس علم الاجتماع للاستزادة بهذا الخصوص”.
وفي حملات نابليون على مصر والشام “1708-1801م” ارتدى نابليون الجبّة والعمامة عندما قابل شيوخ الأزهر زاعما أنّه يدافع عن الإسلام.
وفي الصّراع بين الشّرق والغرب بعد الثّورة البلشفيّة في روسيا عام 1917، جنّد الغرب الإسلام السّياسيّ لمحاربة الإتّحاد السّوفييتي، وأطلقت الأدبيّات الغربيّة على المسلمين “السّور الواقي من خطر الشّيوعيّة”. مستغلّة العواطف الدّينيّة للمسلمين. علما أنّ الماركسيّة نظريّة اقتصاديّة لا علاقة لها بالدّين.
وعندما أسقط الشّعب الإيرانيّ حكم الشّاه في أواخر سبعينات القرن العشرين رفع آيات الله وفي مقدّمتهم الخميني شعار “الثّورة الإسلاميّة”، مع أنها كانت ولا تزال حركة قوميّة تسعى لاستعادة أمجاد امبراطوريّة فارس. فردّ عليه الرّئيس العراقي صدّام حسين بكتابة “الله أكبر” على العلم العراقيّ.
وعندما شرعت أمريكا بتطبيق مشروعها الاستعماري “الشّرق الأوسط الجديد” لإعادة تقسيم الشّرق الأوسط إلى دويلات طائفية متناحرة، وتصفية القضيّة الفلسطينيّة لصالح المشروع الصّهيونيّ التّوسعيّ، جنّدت الإسلام السّياسيّ للقيام بحروبها بالوكالة، وبتمويل عربيّ إسلاميّ نفطيّ جاءتنا بداعش وجبهة النّصرة وأخواتهما. لتشنّ حروبها على العرب والمسلمين في سوريا، العراق، ليبيا، لبنان، وحتّى مصر وغيرها. وجنّدت ما يسمّى بالتّحالف العربيّ لشنّ حرب على اليمن بحجّة محاربة جماعة أنصار الله “الحوثيّين”. وتواصل استغلال الدّين وتحريفه واختطافه، لتصل أنظمة عربيّة “إسلاميّة” لتحالفات أمنيّة وعسكريّة مع اسرائيل لمحاربة ايران التي تسعى أن تكون قوّة إقليميّة أولى، وحتّى قوّة عالمية، ووصل الأمر ببنيامين نتنياهو إلى القول بأنّه يدافع عن الإسلام السّنّي ضدّ الشّيعة!
السّلطان أردوغان
وجاء الرّئيس التّركيّ الطّيب أردوغان رافعا شعارات دينيّة، موحيّا بأنّه سيعيد مجد الدّولة الإسلاميّة الواحدة “الخلافة”. ووجد من يصفّق له ويدعو له من منابر المساجد، فهل هو كذلك حقّا؟
ولو عدنا قليلا إلى الوراء عندما هدم كمال أتاتورك الدّولة الإسلاميّة وحوّل تركيّا إلى دولة علمانيّة يحمي الجيش علمانيّتها! ولنعد قليلا إلى أربكان معلم أردوغان الذي وصل إلى رئاسة الحكومة التّركيّة في انتخابات ديموقراطيّة عام 1994، وكيف انقلب الجيش عليه تحت شعار “حماية الدّستور”، لأنّ الرّجل مسلم حقيقيّ وسعى إلى تغييرات تخدم الدّين، ولنتساءل: كيف سمح الجيش “حامي الدّستور العلماني للدّولة” بتغيير الدّستور والحدّ من صلاحيّات الجيش؟ وهل تخلّى أردوغان عن علمانيّة الدّولة التّركيّة؟ وهل يسعى لإقامة دولة إسلاميّة حقّا؟
وبعيدا عن العواطف الدّينيّة دعونا ننظر ما جرى ويجري في عهد أردوغان، كي نقف على حقيقة الموقف بشكل عقلانيّ وصحيح.
فمن أعمال أردوغان أنّه سمح برفع الأذان للصلوات في المساجد، وسمح للنّساء بارتداء الزّي الإسلاميّ من حجاب ونقاب. وهذا أمر جيّد يأتي في نطاق حرّيّة المعتقد والعبادة، وهذا موجود أيضا في الدّول الغربيّة مثل أوروبا وأمريكا. وهي دول علمانيّة متقدّمة في علمانيّتها على تركيّا. وقوانينها تسمح بإقامة دور عبادة لأتباع الدّيانات المختلفة بما فيها الدّيانات الوثنيّة. وأردوغان لم يغلق بيوت الدّعارة المرخّصة والمحميّة من الدّولة، في حين أنّ بعض الدّول الغربيّة لا ترخّص بيوت الدّعارة.
وتحمّس كثيرون لقرار أردوغان بإعادة كنيسة أيا صوفيا التّاريخيّة إلى مسجد، واعتبروه واحدا من الرّدود على تحويل المساجد في “الأندلس” اسبانيا إلى كنائس، وكذلك اسرائيل التي هدمت مئات المساجد وحوّلت بعضا منها إلى مواخير وحظائر للحيوانات، وها هي تحوّل الحرم الإبراهيمي إلى كنيس يهوديّ، وتسعى إلى هدم المسجد الأقصى أو الإستيلاء على أجزاء منه لبناء الهيكل المزعوم.
وأنا أتساءل هل موقف الإسلام من دور العبادة للدّيانتين السّماويّتين الأخريين”اليهوديّة والمسيحية” نابع من ردود فعل أم من مواقف شرعيّة؟
وهل أخطأ عمر بن الخطّاب عندما أمر بالحفاظ على الكنائس في مصر وفلسطين؟ وألا تشكّل العهدة العمريّة مرجعا دينيّا وتاريخيّا؟ وكيف سمحت الدّولة الإسلاميّة بوجود الكنائس المسيحيّة والكنس اليهوديّة على أراضيها؟
وإذا كان أردوغان لا يستطيع إغلاق القواعد الأمريكيّة وقواعد حلف الأطلسي على الأراضي التّركيّة، فهل يعلم المتحمّسون لأردوغان أن حكومته مرتبطة بتحالفات اقتصاديّة وعسكريّة استراتيجيّة مع اسرائيل؟ وأنّ سلاح الجوّ الإسرائيلي يقوم بتدريباته على الأراضي التّركيّة. وهل يعلمون أنّ داعش والنّصرة وأخواتهما تدرّبت وتسلّحت على الأراضي التّركيّة ودخلت إلى سوريا لتدميرها وقتل وتشريد شعبها؟ ولماذا قام أردوغان باحتلال الشّمال السّوريّ بالتّنسيق مع أمريكا بعد أن أوشكت الحرب على سوريا على الإنتهاء؟ ولماذا يرسل جيوشه وبقايا الدّواعش الإرهابيّة إلى ليبيا؟ ولماذا يحتل جيشه آلاف الكيلومترات شمال العراق؟
لماذا جاء أردوغان في هذه المرحلة؟
ولنتساءل هل جاء أردوغان في هذه المرحلة من وراء أمريكا، أم أنّهم جاؤوا به ضمن التّقسيم الطّائفيّ “سنّة وشيعة” لكسب الإسلام السّنّي، للوقوف أمام إيران التي يصعد نجمها، ولإطالة أمد الحروب الطّائفيّة حتى استكمال تطبيق المشروع الأمريكيّ “الشّرق الأوسط الجديد”. وفي مقدّمته تصفية القضيّة الفلسطينيّة، والحديث يطول.
25-7-2020