الكلُّ في واحدٍ والواحدُ في الكلِّ

 

تفتحُ القريةُ بابَها على أُذينِها الأيمنِ، وبُطينِها الأيسرِ، تقفُ على قدمَيْها إجلالًا للوافدينَ، وتُعطي لهم مكانَها، فتُمسي ضيفةً ويَبيِتُ الضّيفُ مُعَزِّبًا. تفتحُ القريةُ قلبَها، فتَحتضِنُ أحزانَ الثّاكلينَ، وتواسيهم، تَمسحُ دموعَهم برموشِها، وتُعزِّيهُم بالصّبرِ الجميلِ.

تَفتحُ القريةُ ليلَها على نهارِها، فيتدفّقُ شعاعُ الشّمسِ على شُحوبةِ القمرِ، ويَسري دِفؤها في برودةِ كَبِدِها أَيمنَ. تَفتحُ القريةُ جدرانَ بيتِها، فيتّصلُ الشّمالُ بالجنوبِ، ويتداخلُ الشّرقُ بالغربِ، فتفقِدُ الجهاتُ بوصلتَها، وتُضحِي البلادُ وطنًا واحدًا، اسمُه كفرياسيفُ، ويَصيرُ أهلُها إنسانًا واحدًا ينبِضُ قلبُهُ بحبِّ أَيمنَ.

يسيلُ الدّمعُ هادرًا من شارعِ يركا نحوَ البيادرِ، ويُهرولُ من الشّختبةِ نحوَ وعرةِ الخطيبِ، ويعدو من صنيبعةَ والميدانِ إلى شارعِ العينِ، ويقفزُ من دارِ الغربيّةِ إلى الخلّات، ويصبُّ في ساحةِ أوّلِ أيّارَ، تغدو السّاحةُ بحيرةَ أحزانِ الأكبادِ، وسطَ البلادِ والعبادِ، أيُّ شتاءٍ هذا، في آخرِ أيّارَ؟!

يا أمينةً على وصيّةِ الآباءِ والأجدادِ، يا مجيبةً لنداءِ خالدِ الذّكرِ، ينّي ينّي، في الحفاظِ على وحدةِ الصَّفِّ، يا مُؤَذّنةً من بُرجِ الكنيسةِ، ومُطلقةً أجراسَكِ من مِئذَنةِ الجامعِ، يا بيادرَ المحبّةِ يتعانقُ فيكِ “الخَضْرُ” و”النّصرُ” يُضمّدانِ جراحَ الفادي النّازفةَ على الصّليب. ترقبُكِ العيونُ بانبهارٍ وأنتِ تحفظينَ هذا العهدَ، وتُحقّقينَ هذا الوَعدَ.

أَكبُرُ فيكِ وأنتِ تختصرينَ نفسَكِ بوالدَيْنِ صبورَيْنِ عزيزَيْنِ كريمَيْنِ: هاشمِ وبْدور، ويملأُني الفخرُ وأنا أراكِ تَلدينَ ابنَينِ أبيَّينِ جميلَيْنِ حليمَيْنِ كأدهمَ واشتياقَ. وأصغرُ أمامَ شبابِكِ يتسابقونَ إلى بيتِ العزاءِ يمسحونَ دموعَ الأهلِ بوجناتِهِم، ويُعلنونَ على الملإِ: كلُّنا أيمنُ.

مُعلّمتي في مدرسةِ الحياةِ، شكرًا لكِ، لأنّكِ علّمتِني كيفَ أواجِهُ الموتَ، حينَ يغافلُنا باختطافِ أغلى الأحبّة، ولأنّكِ تفيضينَ بهذا الوعيِ الذي يعلو على الخُطوبِ، ويُوحّدُ الدّروبِ ويؤالفُ القلوب. شكرًا لحِلمِكِ وسعةِ صدرِكِ وصبرِكِ ودعمِكِ ومواساتِكِ ولحبِّكِ الذي يملأُ قلوبَ أبنائِكِ ويسيلُ منَ الجانبَيْنِ.

اليومَ نُغلقُ دائرةَ الحزنِ التي لا تَنتهي، مستعدّينَ للجولةِ القادمةِ، فكلُّ نائبةٍ بعدَ هذا المَصابِ تهونُ على قلوبِنا المفجوعةِ، ونفوسِنا المكلومةِ، وأنفاسِنا المقطوعةِ. نتقدّمُ مُحتضنينَ بعضَنا البعضَ، ونحنُ أقوى من كلِّ يأسٍ وضعفٍ واكتئابٍ.

اليومَ يغرسُ أيمنُ روحَهُ بينَنا شجرةَ محبّةٍ وطموحٍ وأملٍ وإبداعٍ وحُلمٍ ونورٍ وابتسامةٍ هادئةٍ واثقةٍ ووارفةٍ. سنتفيّأُ ظلَّها، ونقطفُ ثمرَها، ونُعمِّمُ عِبَرَها على الحاضرينَ واللّاحقينَ، القريبينَ والبعيدينَ.

لقد أظهرتْ بلدُنا في هذهِ المحنةِ بعضًا من جمالِ روحِها، لكنّها تدّخرُ في باطنِها الكثيرَ الكثيرَ الذي ستفاجئُنا به في قادمِ الأيّامِ، وكلّما استفحلتِ النّوائبُ واشتدّتْ حُلكةُ اللّيالي علا نجمُ أيمنَ مُعينًا لنا ومُضيئًا فينا.

هنيئًا لكفرياسيفَ بأبنائِها الصّابرينَ: هاشمٍ وبدورَ، أدهمَ واشتياقَ، وهنيئًا لهذه العائلةِ الكريمةِ بكفرياسيفَ الواعيةِ التّقدّميّةِ الوطنيّةِ الإنسانيّةِ المُحبّة. هنيئًا لبلادِنا بكفرياسيفَ أجملَ صورةٍ لهذا الوطنِ الجميلِ الذي سيبقى في سمائِهِ نجمُك يا أيمنُ عاليًا منيرًا!

 

إياد الحاج

30/5/2020

– ألقيت هذه الكلمة عصر اليوم السبت 30/5/2020، في ختمة المرحوم أيمن صفيّة

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .