كان قد وصلني قبل فترة وجيزة من الصديق الكاتب والباحث والناقد والاكاديمي البروفيسور سليمان جبران، البقيعي الأصل، الحيفاوي الإقامة، كتابه الاخير الموسوم “كتاب الشذرات”، الصادر عن مكتبة كل شيء في حيفا، لصاحبها الناشر صالح عباسي.
ويشتمل الكتاب، الذي جاء في 136 صفحة من الحجم الكبير، وطباعة انيقة، على كتابات ومواد متناثرة لم تظهر في أي كتاب من كتبه السابقة، منها مقدمة ضافية للشعر الفلسطيني في هذه البلاد.
وجاء تجميع هذه الكتابات وإصدارها في كتاب- كما يقول جبران- بعد أن اكتشف أنه لم يعد قادرا على الجلوس إلى مكتبه ساعات طويلة وكتابة الأبحاث الكبيرة الجادة بكل ما تقتضيه من تنقيب ومراجع وشواهد، وأنه لا يمكن أن يكون ناشطا فاعلا، كما في الماضي، وأنه بعد هذا العمر الطويل والإصدارات الادبية والفكرية، يشعر أنه قام بكل ما يجب عليّه، نحو نفسه ونحو الآخرين. خاتمًا أقواله ” انتهى طور الخروج، دخلنا في طور الكمون؟ ما أوان يستحي من أوانه !”.
والكتاب جميل بمواضيعه وعناوينه، غني بأفكاره ورؤاه، ماتع بلغته وثراء أسلوبه، ومشوق في طروحاته ونوادره.
ومن اللافت في كتابه دراسته المبتورة- برأيه- حول الشعر الفلسطيني في اسرائيل ، التي تناول فيها مسيرة وتطور هذا الشعر منذ العام 1948 حتى عام النكسة 1967، ويجيب فيها عن السؤال الذي يطرح عادة إذا ما كان هذا الشعر والأدب عامة استمرارًا للأدب الفلسطيني قبل 48 أم هو بداية جديدة لا صلة لها بما سبقها..؟!، ونجده يتطرق للحياة الثقافية والأجواء السياسية التي سادت في تلك الفترة، ومعاناة المثقفين والمبدعين الفلسطينيين كل أنواع الاضطهاد والقمع، والمضايقات والملاحقات التعسفية السلطوية.
وفيها يتوقف جبران عند دور الحزب الشيوعي وصحفه في حياة جماهيرنا السياسية والثقافية والفكرية، حيث بسط نفوذه السياسي والفكري وشكلت صحافته المنبر الوحيد أمام الأدباء والمثقفين الأحرار، مشيرًا إلى أن الشيوعيين عن طريق صحافتهم وكتبهم ودعايتهم الحزبية قاموا بالعمل الدؤوب على احتضان الأقلام الأدبية الوطنية وتشجيعها على مقاومة السياسة العنصرية التي مارستها الحكومة الاسرائيلية ضد الاقلية الفلسطينية من جهة، وعلى توجيه هذه الأقلام بالنقد والنقاش إلى تناول الموضوعات الاجتماعية والطبقية، ثم يسهب في الحديث عن النشاط الثقافي للحزب الشيوعي ويتطرق لندوة الجديد، والمهرجانات الشعرية التي بدأت- كما يقول – قلقة متشابكة يعتريها التحويم في أجواء الخيال والغيبيات والمثاليات الملائكية ووصلت إلى مخاطبة مشاعرنا وامانينا، نحن أبناء الشعب المكافح من أجل حقه في الحرية والكرامة. وبعد ذلك يتطرق في دراسته إلى هجرة المثقفين اليهود من العراق ومساهمة اليساريين منهم في النتاج الأدبي في اسرائيل بشكل ملحوظ، ويشير إلى بعضهم، كشمؤيل موريه، وساسون سوميخ، ودافيد صيمح، متوقفًا مع المجموعة الشعرية ” حتى يجيء الربيع ” لدافيد صيمح، ويخلص إلى القول ” أن شعر صيمح جيد، بمعايير تلك الفترة، صياغاته متماسكة وإيقاعاته متدفقة أخَّاذة يغلب على شعره ” الكفاحي ” الأيقاع التقليدي، بل يلمس القارئ في كثير منه روح الجواهري أستاذه، ويعمد في غزلياته إلى الشكل المقطوعي ايضًا. باختصار، لولا الاسم العبري للشاعر لعدَّه نقًّاد كثيرون من ” شعراء المقاومة ” أيضًا”.
وفي مقالِ له بعنوان ” هذيك الأيام ” يحدثنا جبران عن مارون عبود، ويجيب عن سؤال صديقه : هل صحيح أن عبود اختار لابنه اسم ” محمد”، وهو المسيحي العروبي الذي نظم قصيدة يفسر فيها تسمية ابنه باسم النبي العربي الكريم محمد، ويوردها كاملة في مقالته.
كذلك يتناول جبران في موضع آخر من الكتاب قصيدة ” تنبهوا واستفيقوا أيها العرب “، وهل هي حقًا للشيخ ناصيف اليازجي؟!، موضحًا أن القصيدة هي لابنه ابراهيم اليازجي، وهي لا تختلف عن قصيدة سابقة لمارون عبود، وقد كتبت هذه القصيدة بعد ظهور الفكر العروبي، والشيخ ناصيف ابن القرن التاسع عشر، قبل أن يظهر الفكر القومي العربي، وكان حينها مشغولًا بإظهار “عبقريته ” اللغوية، في كتابه المشهور ” مجمع البحرين “.
ويرى سليمان جبران في مقال له عن النتاج الأدبي والموضوعية، أن النتاج الأدبي لا يمكن أن يكون موضوعيًا. بينما في مقال آخر له يرد على عتاب صديقه الذي سأله : لماذا أقلع عن كتابة النقد السياسي والاجتماعي، قائلًا : ” لم أغيِّر مواقفي السياسية والاجتماعية قيد شعرة، لكني وجدت بالممارسة أن الكتابة في هذه الأيام لا تجدي، ولا يغيّر، لا في المحيط القريب حولنا ولا في البعيد.
وفي مكان آخر من الكتاب يتناول مسألة تغيُّر الموقف، مؤكدًا على ان الموقف يتغيّر بتغيّر الموقع .
وفي الكتاب الكثير من الملح والنوادر والمقتطفات الأدبية الممتعة والمدهشة، فضلًا عن كتابات شعرية له من زمن بعيد، وشروح لمصطلحات لغوية.
أهنئ الصديق الأديب الأريب بروفيسور سليمان جبران، بصدور ” كتاب شذرات”، وأشكره على هديته، والحق يقال أنني استمتعت بقراءة ما جاء في الكتاب من مواضيع جادة وهادفة ومواد خفيفة، وأتمنى له الصحة والعافية ومديد العمر، وله الحياة.