ما بين برهوم والبلاشفة (1)….زاهد عزَّت حَرَش

كتاب وافٍ، هو عبارة عن تجربة حياة. إن يكُن بذلك له علاقة بالواقع، أو إن يكُ من خلال تجربة كتابة إبداعيّة يتماها فيها الواقع بالخيال. فكلّ كتاب يحمل في خبايا عبرة ما. وهنا، ليس من المفروض أن نُحَمِّل الكاتب والكتاب هواجسنا ليتحدّث عنها، بل علينا أن ندخل إلى رحابه برحابة صدر وشغف طاهر، كي نستطيع أن نستشفّ منه ما يريد. “فكلّ على قدر الزّيت فيه يضاءُ” مظفّر النّواب.

            وأستطيع أن أقول عن نفسي إنّي قارئ جيّد، وفي كثير من المرّات الّتي حَملني فيها كتاب ما، إلى رغبة بالكتابة عنه، كنت أتراجع في اللّحظة الحاسمة، كي لا أقع في خطأ بشأن الكتاب أو الكاتب، إن كان صديقًا شخصيًّا أو أيّ كاتب وكتاب أحببت أن أقرأه وأتماهى معه، فيلهب عقلي ويزوّدني بوجبة رائعة من الأفكار والأمل، فلم أكتب سوى القليل من انطباعاتي حول أيّ منها؛ كي لا أقع في المحظور.

الاعتراف سيّد الأدلّة. وأنا أعترف أنّي لا أجيد اللّغة العربيّة، نحوها وصرفها، ولهذا أجد أنّي ضعيف، وكذا لي أخطاء في تشكيل الكلمات. حتّى جاء طيّب الذّكر الرّفيق أحمد سعد يومًا وقال لي: “ألا تعرف إنّ وأخواتها؟”، فضحكت، وقلت له: “ولا عمّاتها ولا خالاتها”، فأحجمت لفترة متوسّطة عن الكتابة، حتّى علمتُ أنّ الكثير من الكتّاب المرموقين يعرضون كتاباتهم على مدقّق لغويّ لمراجعتها. وهكذا عدت إلى الكتابة برغبة محدودة، انطلاقًا من أنّ المضمون أهمّ من الشّكل. وقد زاد إيماني بذلك بعد أن طالعت  كتاب “الغربال” للأديب الكبير ميخائل نعيمة، وهي الطّبعة السّادسة عشرة الصّادرة عام 1998عن مؤسّسة نوفل في بيروت. في حين صدرت الطّبعة الأولى منه عام 1923. وما زال الكتاب حيًّا، وتتناقله الأيدي ليومنا هذا، فأيقنت أنّ الغاية من الكتابة هي الفكر والتّجديد، حيث جاء قولهُ: “لا قيمة للرّمز في ذاته، بل قيمته مكتسبة ممّا يرمز له، لذاك، فلا قيمة للّغة في نفسها، بل قيمتها فيما ترمز إليه من فكر ومن عاطفة.”. (الغربال، 112)

            وهنا لي وقفة مع ثلاثة كتب حطّت على راحتيّ، كرسالة جاء بها الحمام الزّاجل من حارات حيفا، وعبق تاريخها الأصيل، محاكاة وذكريات مغزولة بنضال رفاق عاهدوا مبادئهم بثبات وصمود كالأزل، وما زالوا.

الكتاب الأوّل

يوميّات بَرهوم البلشُوفيّ، للكاتب د. خالد تركي، الطّبعة الأولى 2008

هو كتاب ذكريات خطّته يراعة ابن بارّ التصق بأبيه حتّى هُيّئ لهُ أنّه هو، فاجتهد في نقل ذكريات أبيه بكلّ أريحيّة ومحبّة ودفء صادق. كيف لا وهو “الابن” الّذي حمل الرّاية وتابع المسيرة؛ ليعلنها صارخة! فيذكّرني بما لا يغيب عن خاطري، بما قاله شاعر المقاومة طيّب الذّكر سميح القاسم: “يَدُكَ المرفوعة في وجه الظالم/ راية جيل يمضي/ وهو يهزّ الجيل القادم: قاومتُ.. فقاوم!”- من قصيدة بعنوان “شعبي حيّ”.

            في هذا الكتاب الّذي لم يبهرني كثيرًا، لا لأنّه يفتقد لوميض الانبهار، إنّما لأنّ الكثير من حكاياته عشت مثيلًا لها من خلال عضويّتي في صفوف الشّبيبة والحزب الشّيوعيّ، كما التقيت بكثير من أسماء الرّفاق الواردة فيه، وعرفت معظم ما ورد فيه من أسماء رفاق ومناضلين. لكن، ورغم كلّ ما أعرفه، فالكاتب ينسج الذّكريات الخاصّة في أحداثها بنغم ينسجم والأحداث العامّة في كينونتها، فتاريخ حزبنا – تاريخنا- له ضوء في سماء وجودنا، ومن لم يره فهو إمّا كفيف البصيرة، أو أنّه مغبون مغلوب على أمره.

فهذه اليوميّات الّتي تحتوي على سبعة عشر فصلًا، فيها ما يقارب تسعون حكاية من الذّكريات، يرويها “برهوم” وآخرون من الرّفاق الّذين عاصروا تلك الأيّام، وينقلها الكاتب بأقرب ما تكون إلى الحقيقة، بل هي الحقيقة بعينها، فهو لم ينسج خيوط وتيراتها من بنات أفكاره، إنّما هي حكايات والده الّذي تيتّم عن أبيه وهو بعد في سنوات طفولته المبكّرة. “كان برهوم يتيم الأب، وقد توفّى العادل القادر على كلّ شيء والده، ليلة العشاء السّريّ قبلّ النّكبة بثلاث سنوات”. (ص17) فلم تحمل تلك الذكريّات في طيّاتها أي مبالغة أو تعظيم. إلّا أنّ الكاتب يُقدّر قيمتها ويقيّمها بما تملكه من مصداقيّة وتحدٍ، في زمن كلّف هذا التّحدي الكثيرين من الرّفاق تهديدًا بلقمة عيشهم وعيش عائلاتهم، وبعضهم -إن لم يكن أكثرهم- قد تعرّضوا للسّجن والعقوبات على شتّى أنواعها، كما طال العديد منهم ملاحقات واعتداءات من قبل عملاء السّلطة، ومواجهات متعدّدة ومتكرّرة بينهم وبين جماعات صهيونيّة عنصريّة قذرة.

تبدأ الحكاية بأحداث ما قبل النّكبة، وتستمرّ إلى آخر النّشاطات الّتي شارك فيها الكاتب، ضمن بوتقة العمل الحزبيّ والجبهويّ، من مؤتمرات واحتفالات ومعارك سياسيّة. فقصة التّشرد والتّهجير واللّجوء، قصّة لجوء “برهوم” وعائلته إلى قرية بيت جن والعودة “إلى حيفا الضّائعة، من أضيق أبوابها”، إلى أيّام الولدنة في المدرسة “ومشاغباته الشّقية”، إلى مواجهاته مع الشّرطة “واعتراضه على استفزازهم”، إلى قصّة اللّصّان والحمار الّذي أصبح قبره مزار الشّيخ “زنكي”. (ص23) والدّخول إلى زمن الحرب الباردة بين المعسكر الاشتراكيّ والمعسكر الإمبرياليّ، وعمل الأخيرة على “إسقاط الأنظمة العربيّة التّقدّميّة والوطنيّة في مصر وسوريّة”. (ص 25)، وزيارة وزير الخارجيّة الأمريكيّة فوستر دالاس للمنطقة، فقام يربط الأحداث المناطقيّة والدّوليّة بالأحداث المحلّيّة العاملة والمناضلة ضدّها، إلى شارة الحزب الشّيوعيّ وحرف “القاف” في الانتخابات البرلمانيّة ما قبل سنة 1965 وقبل الانقسام، إلى ساحات الأوّل من أيّار والدّفاع عن حقوق العمّال والفلّاحين. ومؤامرة نقل السّجناء من السّجن المصريّ إلى السّجن الإسرائيليّ بعد زوال الاحتلال البريطانيّ. مروراً بتأسيس فريق كرة القدم للشّبيبة الشّيوعيّة في حيفا، الّذي أطلقوا عليه اسم “فريق المستقبل”، والمباريات التي شارك فيها في النّاصرة وعكّا وشفاعمرو وأم الفحم وغيرها من البلدات العربيّة. كما يذكُر الأماكن والأشغال الّتي عمل بها برهوم، والمضايقات والمواجهات الّتي كان يتعرّض لها العمّال العرب، وخاصّة من نقابة العمّال “الهستدروت”. ولا ينسى أن يذكّرنا بفضيحة عاموس بن غوريون، “ابن رئيس الحكومة دافيد بن غوريون، آنذاك، الّذي كان يشغل منصب نائب القائد العامّ للشّرطة.”. (ص63) .

ويعود في الفصل الثّاني عشر ليحدّثنا عن سقوط حيفا، ويظهر عندها “صقر فلسطين” الشّاعر المناضل الرّفيق داود تركي، “أخ برهوم الأكبر، الّذي حمل همّ العائلة جمعاء على كتفَيهِ إلى جانب هموم شعبه ووطنه”. (ص80) وعن جرائم الإنجليز والعصابات الصّهيونيّة في حيفا والقرى المحيطة فيها، لترهيب النّاس وترويعهم، وحثّهم على الهروب وترك ديارهم ووطنهم. وفي الفصل الّذي يليه يروي لنا الكاتب قصّة جواز برهوم واعتراض الكاهن على انتسابه للحزب الشّيوعيّ، وما آلت إليه الأحداث فيما بعد. حتّى يصل إلى ما يحدث في سوريّة وموقف الرّئيس الأسد عند زيارته لبلدة دير الزّور، كمثال عن القيادة الّتي تكون “ثابتة على مواقفها وثوابتها”. كما يمضي إلى دور الفنّ في المعركة السّياسيّة والوطنيّة، “فالفنّ هو خندق الشّعوب الأخير. خندق الدّفاع عن مُثل الحرّيّة والسّلام والدّيمقراطيّة والتّعدّديّة، فلندافع عن هذا الخندق.” (ص108) فيتحدّث عن دور الشّاعر الأديب حنّا أبو حنّا في تأليف الأناشيد أو ترجمتها إلى العربيّة من لُغات أخرى، ودور الموسيقار ميشيل درملكنيان في تدريب الفرقة ومواكبة نشاطها، وهما أهمّ الداعمين لـ “جوقة الطليعة”، الّتي شاركت في العديد من المهرجانات المحليّة، ومشاركات أخرى في بعض عواصم دول الكتلة الشّرقيّة. وإلى الكثير الكثير من الأحداث الّتي يحتاج المرء إلى قراءة الكتاب، بتمعّن واستذكار ذهنيّ لأحداثه مع الأخرين؛ حتّى تتكوّن ببهاء الصّورة الشّموليّة لمسيرة شعب يرفض أن يندثر أو يموت. أما قصّة إصدارات الحزب الأدبيّة والسّياسيّة، فحدّث ولا تختصر، وخاصّة حكاية صحيفة الحزب المركزيّة “الاتّحاد”، منذ صدورها عام 1944 وحتّى آخر الاحتفالات بتأسيسها، غداة إصدار الكتاب، ومسيرة برهوم معها المرتبطة بمسيرة الكاتب أيضًا.

            في البعض من فقرات الكتاب تلتقي بوصف مميّز تعبيريًّا، كقوله “الشّيخان الجليليّان الجليلان” (ص17)، “الوعد والعهد والموعد” (ص23)، “فشبِعوا وأوجِعوا” (ص32). إضافة إلى مقولات عامّيّة اعتدنا قولها وسماعها على مدى الأيام ومنها ما صاغها بلغة فصيحة مع الإبقاء على نكهتها الأصيلة، فكتب: “فإن أطعمتَ فأشبِع، وإن ضربتَ فأوجعْ،” (ص32)، و”أنساه الحليب الّذي رضعهُ” (ص33)، و”لأيش تغلبو حالكوا خبزة وزيتون خلّيها عالماشي” (ص 49)، و”أن يُخيط بغير هذه المِسَلّة” (ص99)، و”أطال الله بعمره” (ص129). وكلّها بصيغة عامّيّة أو مأخوذة من العامّيّة. وقد جمعت فيما جمعت من مقولات كثيرة خلال مراجعة مئة كتاب في عدّة مواضيع، أحتفظ منها بقول لكارل ساندبرغ جاء فيه “العامّيّة لغة تشمّر عن ساعديها وتبصق في يديها ثم تبدأ العمل.” وقول آخر لميخائيل نعيمة حين التقى بامرأة عجوز من قريته بسكتنا، إثر عودته إليها، فسَلّمَ عليها مصافحًا، فقالت له: “يا خجلتي منك يا أستاذ نعيمة، ايديّ خشنة” فردّ عليها قائلًا: “يا خجلت الايد الناعمة من الايد الخشنة.. الايد الخشنة بتساعد الله على صنع الطبيعة” بالعامّيّة أيضًا.

            لفت انتباهي بشكل ملحوظ غياب ذِكر الرّفاق من القيادات العليا في الحزب الشّيوعيّ، خاصّة وأنّ معظمهم كانوا يعيشون في حيفا، وحيفا كانت عروس الوطن وعروس الحزب، فمنها كانت تصدر معظم القرارات السّياسيّة والتّوجيهات الحزبيّة للفروع في كلّ البلاد. في حين أنّ الكتاب يزخر بأسماء الرّفاق المنخرطين في العمل اليوميّ بين النّاس، فيذكر الكاتب على لسانه وعلى لسان برهوم في يوميّاته، أسماء عدد كبير منهم، أولئك الرّفاق من أصحاب السّواعد السّمراء والجباه المضيئة بوجه الشّمس، تحدّيًا وعملًا ونضالًا على مدى العمر، فهم من حيفا والنّاصرة وشفاعمرو وعكّا وكفر ياسيف وعيلبون وعبلين وغيرها من قرانا وبلداتنا الباقية ما بقي الزّعتر والزّيتون. ربّما فعل ذلك تحاشيًا في الدّخول إلى حقل ألغام العمل القياديّ في الهيئات العليا للحزب، وخاصّة بعد انهيار المنظومة الاشتراكيّة؛ كي لا يضيع في متاهات الطّرق الوعرة الّتي مرّوا بها، وخاصّة على صعيد الخلافات التي نشأت فيما بينهم، والصّراعات الفكريّة والتّنظيريّة الّتي واجهت الحزب، واضطراره لشقّ واستمرار طريقه النّضاليّة في ظروف أصعب من ظروف البدايات، حيث كانت في البدايات صورة العدوّ واضحة المعالم، فانبثق النّضال ضدّ الاستغلال والاحتلال والرّجعيّة والتّبعيّة بقوّة وتعاضد وثيق، في حين أنّ الظّروف بعد سقوط المنظومة الاشتراكيّة، اتّسمت بسقوط العديد من الأخلاقيّات والمفاهيم السّامية التي آمن بها معظم النّاس، وحتّى البسطاء منهم، على أنّ هناك قوّة عظمى يعبق فضاء الكون بوجودها كأمل لخلاص البشريّة وانتصار السّلام بين الشّعوب.

            استوقفتني بعض العبارات الدّينيّة المتناثرة في بعض فقرات الكتاب، وذلك الارتباط الروحانيّ ما بين الكاتب والأدبيّات الدّينيّة، واقتباس بعض منها للدّلالة على موقف ما. في حين غياب الأدبيّات الماركسيّة والمقولات الفلسفيّة البروليتاريّة، الّتي كان بإمكانها أن تعطي البعد الثوريّ لحكاية نضاليّة، مرتبطة بشكل وثيق بالعمل الشّيوعيّ، الّذي أساسه واعتماده الأوّل على الماركسيّة اللّينينيّة، وأدبيّات الفلسفة الاشتراكيّة عربيًّا وعالميًّا. وأعتقد أنّ هذه النّقطة قد تقلّل من قيمة هذه المسيرة النّضاليّة الواقعيّة الرّائعة. وأنا على ثقة تامّة بأنّ الكاتب الصّديق الرّفيق د. خالد تركي، يعي قيمة الفكر الماركسيّ وأيديولوجيّة الصّراع الطّبقيّ، بل ويحفظ ويحتفظ بكثير من مقولاتها وعباراتها الفلسفيّة. لكنّه، ربّما اعتمد البعد عنها بقصد إتاحة فرصة الاستمتاع بهذه المسيرة لقرّائها من غير الشّيوعيّين، علّهم يتقبّلونها برحابة صدر؛ فيساهم في نشر مذكّرات ويوميّات مناضل وحزب، عملا طيلة مسيرتهما على خدمة قضايا الانسان والوطن الفلسطينيّ، وساهما في مسيرة التّحرير وأخوّة وسلام الشّعوب.

            في النّهاية، لا يسعني إلّا القول بأنّ هذا الكتاب ضروريّ في كلّ بيت، فهو صورة موثّقة عن نضال وحياة فرد ومجتمع، ومسيرة أحداث على مدى سنوات، منذ ما قبل النّكبة إلى ما قبل يومنا هذا بقليل، وهو أشبه بالمادّة المضادّة لأيّ حالة من حالات اليأس والخنوع تحت وطأة السّياسة العنصريّة، إنّ هذا الكتاب يحمل في طيّاته وجدان شعب قرّر التّحدي والبقاء في أرض وطنه الّذي ليس له من وطن سواه، ولا يرضى عنه أيّ وطن بديلًا.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .