(الحلقة الثَّامنة عشرة)

عُدنا إلى حيفا وما زلتُ في جبِّ والدي، يحميني من الخروج، إلى الشَّارع، لكنِّي ذهبتُ أفتِّش عن اصدقائي وأترابي وزملائي في المدرسة، فلم أجد منهم أحدًا لكنِّي وجدتُ بعضهم لاحقًا، أصابهم ما أصاب عائلتي، ومنهم من أضاع أبناء عائلته، وتقسَّمت العائلة كما تقسَّم الوطن، أشلاءً، وحين دخلتُ بيتي، وجدتُ فيه الأغراب قد سرقوا كلَّ شيئ، حتَّى قرطاسيَّتي لم أجدها، ولم أجد حاجيَّاتي الشَّخصيَّة، “يا الله روخ مِنون”، فتقول له جدَّتي، أمُّ الرجال وأُختهم، “انت روح من هون، هذا هاي البلاد بلادنا وهذا البيت بيتنا”، “ان شاء الله الرِّيح تُنُفخك وتقزعك وتقلعك من هون”، وبقيت أمنية جدَّتي في طريقها إلى الله، حيث لم تصله بعد أمنيتُها، إن شاء الله..

حينها فهمتُ أن بيتي قد ضاع، وأنَّ البكاء على الأطلال لن يُجدي نفعًا، وعندها فهمتُ في ساعة ميلادي الثَّانية، أنَّه علينا البدء في العمل الدَّؤوب في مقارعتهم، والثَّبات على عودة من راحوا وعودة الأرض إلى أصحابها، ومن أجل إعطاء “كلِّ ذي حقٍّ حقَّه”..

تمرُّ ذكرى احتلال حيفا على أهل حيفا، وتهجير من فيها من أهلها، من أرضهم وبيوتهم، كلَّ عامٍ، وفي قلبهم أمل العودة، رغم أنف عصابات صهيون التي لَم تُبقِ حجرًا على حجرٍ، ولا شجرة قرب شجرة، ولم تبقِ وردة في حديقة إلا وقلعتها ومنعت عنها المياه، “قطع المؤن والتَّجويع هو الكفيل برحيلهم” حتَّى لا تُعيد الجذور نموَّ أوراقها وزهورها وتستعيد عافيتها وعطرها وتعود كما كانت أو يزيد..

ها هي عصابات صهيون مستمرَّة في سياسة الهدم ودثر شواهد وجودنا فوق أرضنا، حتَّى قبور أهلنا استهدفوها وما زالوا يستهدفونها، فهذه العصابات ما زالت على نهجها..

آه لو قرأ الأهل منشورنا وسمعوا بندائنا، فأين هم من هذا، ﴿..أَفلا تَذْكُرُون﴾.

ليتهم قرأوا ما كتبناه، ليتهم سمعوا ما قرأناه عليهم..

خرجتُ من جلباب والدي، وأولادي خرجوا من جلبابي، والحقيقة أنِّي اسمع ما تقوله ابنتي، وهي بين النَّاس:

“حديثي حديثُ إبي وحديثُ إبي حديثُ جدِّي..”، وحديثُ جدِّي حديثُ سالفيه، ورأيي رأيُ أبي ورأيُ أبي رأيُ جدِّي ورأيُ جدِّي رأيُ سالفيه، وكذلك مبدؤه وعمله وحياته وسبيله..

ونقرأ ما كتبه شاعرنا توفيق زيَّاد:

ونصنعُ الأطفالَ

جيلاً ثائرًا

وراءَ جيل

كأننا عشرون مستحيل

في اللدِّ والرَّملة والجليل

إنَّا هنا باقون

فلتشْربوا البحرَ..

ونقرأ ما كتبه الشَّاعر سميح القاسم:

يَدُك المرفوعةُ في وجه الظَّالم

رايةُ جيل يمضي

وهو يهزُّ الجيل القادم

قاومتُ..فقاوم!

كانت حيفا متنفَّس بلاد الشَّام إلى البحر، بأقاليمها العراق وشرق الأردن وكانت حيفا حلقة وصل مع القارَّة الأوروبيَّة، حتَّى أصبحت، إن لم تكن فيما أقوله مبالغة، مزاحمة لبيروت..

لقد كتبت صحيفة “مرآة الشَّرق” الصَّادرة في القدس، في الأوَّل من آب عام الفٍ وتسعمائة واربعة وثلاثين، لصاحبها ومحرِّرها المسؤول بولس شحادة، ما يلي: “حيفا بعد عشرين عامًا، حيفا مدينة العالم”، وفي مكان آخر وفي عددٍ آخر من نفس الصَّحيفة كتبت: “أنَّ حيفا مدينة الشَّرق في المستقبل”..

فحلَّت النَّكبة على شعبنا، وحطَّمت مستقبل أهل حيفا..

تلك حيفا التي عاشها والدي قبل النَّكبة ويعيشها، بعدها، إلى يومنا هذا ونعيشها معه، إلى ما شاء الواحد له أن يعيش ونعيش معه، حاضرةً بأهلها، عامرةً بناسها بعمَّالها وفلاحيها، ثائرةً برفاقها ورفيقاتها، بمثقَّفيها الثَّوريِّين، حيَّةً بتلاميذها واساتذتها، بمدراسها وجوامعها وكنائسها وأديرتها، بمينائها وسهلها وموارسها وجبالها وأنهارها ووديانها، ببرِّها وبحرها، بسمائها وهوائها وأرضها بتاريخها الحيِّ، حاضرةً بأمل العودة للأهل والخلان والسَّلام لمن أراد السَّلام..

“فإن بناها بخـيرٍ طاب مسكنُهُ وإِن بناها بشرٍّ خاب بانيها”

ها هي حيفا تُكذِّبُ، مُجدَّدًا، ما قالوه، أرضٌ بلا شعبٍ لشعبٍ بلا أرضٍ، فنحن هنا منذ فجر التَّاريخ، منذ ألأزَل ولم نزَل ولا نزال فيها، وسنبقى هنا “إلى أن ينام القمر”، وإلى أن ينام موج البحر على الشَّاطئ الشَّاميِّ، وإلى أن يخفُتَ ضوء الشَّمس، سنبقى

هنا إلى أن يأتي ﴿..يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ..﴾..

“ألا هل بلَّغتُ، أللهمَّ فاشْهد..”

 

المصادر:

 

  1. كتاب “تاريخ حيفا”، لمؤلِّفه جميل البحري، والصَّادر عام الف وتسعمائة وإثنين وعشرين، عن المكتبة الوطنيَّة في مدينة حيفا، لصاحبها جميل البحري، بطبعته الأولى، وطُبع ثانيةً في “دار الجليل”، بدمشق، بعد أن أصدره عام الفٍ وتسعمائة وإثنين وثمانين، الإتِّحاد العام للكتَّاب والصَّحفيِّين الفلسطينيِّين الأمانة العامَّة، سلسلة إحياء التُّراث الفلسطينيِّ، وقد أرسله لي مباشرة، مشكورًا على لُطفه وتواضعه، معالي الوزير السَّابق والكاتب الفلسطينيُّ ابن سمخ قضاء طبريَّة يحيى يخلف، أمَّا جميل البحري فقد أصدر في عشرينات القرن الماضي مجلَّة “الزَّهرة” (كان اسمها في إصداراتها الأوَّل زهرة الجميل) وصحيفة الزُّهور وكتب وترجم عدَّة مسرحيَّات، وأنشأ في حيفا المكتبة الوطنيَّة في تلك الفترة، ومؤسِّس “الرَّابطة الأدبيَّة” وصاحب مكتبة ومطبعة في حارة الكنائس، حين قُتل غيلةً، في ثلاثينات القرن الماضي في محطَّة الكرمل قرب شاطئ حيفا.
  2. تعود جذور الكاتبة آزار العائليَّة إلى الطَّبيب والفيلسوف العربيِّ الدِّمشقيِّ ابن النَّفيس، أبو الحسن علاء الدين ابن أبي الحزم المعروف بابن النَّفيس القرشيِّ، (ص 607-687) الذي اكتشف الدَّورة الدَّمويَّة حيث فسَّر أنَّ عمليَّة تنقية الدَّم تجري في الرئتين بعد أن يجري في القلب ويخرج إلى الهواء الطَّلق ويُخالطه ليُصبح جزءًا منه..
  3. د. نايف أمين حمزة، هو طبيب لبناني ولِد في قرية عبية اللبنانية، في الخامس والعشرين من شهر آب عام الفٍ وثمانيمائة وخمسة وتسعين، أنهى كليَّة الطِّبِّ في الجامعة الأمريكيَّة ببيروت، هو شخصيَّة وطنيَّة مثقَّفة، عمل طبيبًا جرَّاحًا في عدة مدنٍ في بلادنا، في يافا ونابلس (حيث ساهم في بناء وافتتاح قسم للجراحة في المستشفى الوطني ومعهد لتصوير الرِّنتجن) وعمل أيضًا في رام الله والقدس (كتبت صحيفة الدِّفاع عنه في حفل تكريمه غداة انتقاله إلى مدينة حيفا، في نيسان من عام ألفٍ وتسعمائة وخمسة وثلاثين، انّه من الأطبَّاء الجرَّاحين البارعين الذين يتحلُّون بأجمل الصِّفات، حيث أجرى أكثر من خمسين عمليَّة جراحيَّة ناجحة، خلال سنة واحدة من خدمته في المستشفى، وقد أُقيمت له عدَّة حفلات تكريميَّة لوداع هذا “الطَّبيب النَّابغة” الذي “إذا خسرته القدس فقد ربحته حيفا”، إلى حطَّ به التِّرحال في مدينة حيفا، عام الفٍ تسعمائة وخمسة وثلاثين، وسكن فيها، في منطقة شارع العجم، حيث ترك حيفا إلى لبنان ما بعد النَّكبة.

لقد ترأس إدارة المستشفى الحكوميِّ بحيفا، حتَّى أصبح المستشفى يُعرَّف

باسمه، مستشفى حمزة، ورحل إلى لبنان بعد النَّكبة وتوفاه الله هناك عام الفٍ

وتسعمائة وسبعة وسبعين، ويقول الشَّاعر داود تركي:

ما ماتَ من خلِدَت مآثرُهُ بل ماتَ من سفِلت به الشِّيم

  1. نواطير الكروم، دير سيِّدة جبل الكرمل، للرَّاهبات الكرمليَّات الحفاة، نعمة وحضور، مطبعة البطريركيَّة اللاتينيَّة-القدس، بيت جالا سنة 2017، ص 21.
  2. قصيدة موطني هي من كلمات الشَّاعر الفلسطينيِّ إبراهيم طوقان، والتي كتبها خلال دراسته العلوم في الجامعة الأمريكيَّة، بيروت، عام ألفٍ وتسعمائة وثلاثة وعشرين، والذي أصبح لاحقًا النَّشيد الوطنيَّ، لسائر أبناء وطننا العربيِّ.
  3. د. قيصر خوري، طبيب مختصُّ بالأمراض الدَّاخليَّة والتَّناسلية، من مواليد بكاسين، لبنان، سكن مدينة حيفا، مع بداية الاستعمار الإنجليزي لفلسطين في سنوات العشرين من القرن الماضي، في شارع الرَّاهبات “نومرو” خمسة عشر، سكن مع أخته رجون خوري، وقد بقي اعزبَ طول حياته، وكانت له عيادتان في شارع الرَّاهبات وفي شارع الجرينة، وقد عمل طبيبًا، أيضًا، في مرفأ حيفا.
  4. من مقال أوري ميلشتاين في جريدة حدشوت، الصَّادرة في الأوَّل من كانون الأوَّل عام الفٍ وتسعمائة وثمانية وثمانين، جذور من الشَّجرة دائمة الخُضرة، د. أحمد سعد، ص 17.

(نتواصل، إنتظروا وشكرًا)

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .