(الحلقة السَّابعة عشرة)
لقد أوت مغارة الخضر، السَّيِّدة العذراء ليلةً واحدةً وعائلتها المقدَّسة، عندما عادوا من مصرَ إلى النَّاصرة، بعد أن هربوا إليها من بيت لحم، عندما أراد هيرودس بعد ولادة الطِّفل يسوع، في مغارته، بقتل جميع أطفال البلدة، لقد كانت حياة وليدها يسوع المسيح، الطِّفل الرَّضيع، في خطر، وكذلك فقد أوت منطقة الخضر جنود النَّاصر صلاح الدِّين الأيُّوبيِّ حين أتى وجنوده بلادنا لتحرير بيت المقدس من طغيان وظلم الفرنجة، ومغارة الخضر هي مأوى الملاك جبرائيل\جبريل، زد على ذلك أنَّ مار الياس كان يُعلِّم تلاميذه في تلك المغارة، “مدرسة النَّبي إيليَّا”، وحين جاء محمد بيك ابو الذَّهب في اواخر القرن الثَّامن عشر، حيفا، بدأ بهدم دير مار الياس فانتقم منه النَّبي ايليا (بحسب الرِّواية) ومات البيك أبو الذَّهب في نفس الليلة أو بعد يومين من الهدم..
يا الله!
لماذا لم تحمِ أهلنا يا مار الياس، لماذا تركتنا فريسة للعصابات، إلأنَّنا توكَّلنا عليك، لكنَّ أهلنا، نعم، توكَّلوا عليك وتوخُّوا منك دعمًا، حاولوا البقاء والدَّفاع والصُّمود..
لقد كانت والدتي، أم خالد، بعد كلِّ أمنيىةٍ تتمنَّاها تتضرَّع إلى المولى بقولها: “بجاه مار الياس والخضر أبو العبِّاس”..
ليتني أعود إلى جلباب أبي واختفي به، لكن..
هل هذا يَعفيني من رؤية مأساتي وإن اختفيتُ في عبِّه فهل هذا يمنع المأساة! أم انِّي أَدفن رأسي كما تُخفي النَّعامة رأسها في الأرض، كي لا ترى ما يدور حولها، لكنَّ حقيقة النَّعامة في دفن رأسها في التُّراب هي غير الذي نعرفه، فهل أردْتُ من الدُّخول إلى جلباب والدي لأجسَّ حقيقة المأساة التي حلَّت علينا وكيف السَّبيل إلى الخلاص، إن كان هناك خلاص!
فأسمع صوت والدي يقول: الخلاص هو بالإخلاص للوطن..
حين تدفن النَّعامة رأسها في الحفرة، تريد بذلك أن تفحص حال وسلامة بيضها بعد أن باضت والقت ببيضها في تلك الحُفرة، وكذلك تريد ان تتوخَّى الخطر قبل حدوثه، من خلال الإنصات لذبذبات تنتشر في الأرض من مسافات بعيدة لحيوانات مفترسة وخطيرة وحتَّى تتجنَّب الأخطار، نظرة لمستقبلٍ آنٍ، وبدفن رأسها تريد أيضًا ان تبحث عن الماء..
أنا ما هُنتُ في وطني”
ولا صغَّرتُ أكتافي
وقفتُ بوجهِ ظلامي
يتيمًا عاريًا حافي
أُناديكم”
لم يبقَ في مدينة حيفا من المواطنين العرب، سوى قلَّة قليلة، ما بين الف وخمسمائة إلى ثلاثة آلاف مواطن عربيٍّ، بعد النَّكبة، اذ اختلفت الإحصائيَّات حول العدد..
لم يبقَ في حيفا من العرب سوى اربعة بالمائة من السُّكَّان العرب، ممَّا يدلُّ على كبر المؤامرة، وشراسة المُحتلِّ في اتِّباع سياسة الإرهاب المنهجيِّ المدروس من التَّرهيب والتَّخويف والتَّنكيل..
أظنُّ أنَّ الحلَّ كان في حدس وعقيدة وجلباب والدي، آه لو قرأوا المنشور الذي قام والدي ورفاقه بتوزيعه في الأحياء وبين الأحياء وعلى الأحياء..
“يا مهباج وينك، وين هليك
صار لي زمان ما سمِعت صوت الدَّقِّ (الرَّدِن) بيك
ويش بيك
تَراح الفنجان يشتِكي للبريق
بكي الفنجان لتنُّوا انعمى..”
يكتب الرَّفيق بولس فرح عضو عصبة التَّحرُّر الوطنيِّ في فلسطين، في كتابه “من العُثمانيَّة إلى الدَّولة العبريّة” (ص 194) يصف حال نزوح العرب من حيفا وهو في مكتبته في شارع مار الياس رقم سبعة، ما يلي:
“كنتُ في حيفا عندما شدَّ النَّاس الرِّحال، وانطلقوا مولين الإدبار. كانت مكتبتي في منتصف المدينة، على مشارف ساحة الخمرة. وكان النَّازحون بالشَّاحنات المحمَّلة بأثاثهم يمرُّون قهرًا عبر ساحة الخمرة، لقد شاهدتُهم ينزحون بعشرات الشَّاحنات، بل بمئاتها..كان عدد سكَّان حيفا العرب ثمانين الفًا، فاصبح في صيف الف وتسعمائة وثمانية وأربعين لا يزيد عن الف وتسعمائة وخمسين ساكنًا موزَّعين على مختلف انحاء المدينة. كنَّا نرى يوميًّا أنَّ المدينة تخلو يومًا بعد يوم من السُّكَّان العرب والاشتباكات تزداد عنفًا، وتمَّت هزيمة المقاتلين العرب تحت ضربات العسكريَّة اليهوديَّة المنظَّمة. وعند رحيل الإنجليز عن البلاد بانتهاء حكمهم بموجب قرار الأمم المتَّحدة، استلمت الهجاناة كلَّ أحياء المدينة التي كانت تخضع لجند الإنجليز”.
ويُتابع:
“وبينما كنتُ منحنيًا لإحكام قفل الباب أخذ الإنجليز بإطلاق النَّار على المارَّة وفي الهواء وأرادوا مداعبتي وكانوا يُرابطون على سطح مطعم أبو يوسف (اليوم) الواقع في ساحة الخمرة فأطلقو النَّار عليَّ ورأيت الرَّصاصة تدخل الحائط بجانبي، فركبتُ الباص إلى النَّاصرة، إلى بيت الوالدة” (“من العُثمانيَّة إلى الدَّولة العبريّة” ص 195)
ويتابع:
“..وفي الأسبوع التَّالي لازمتُ فراشي مريضًا عندما زارني توفيق طوبي في النَّاصرة. ونبَّهني إلى أنَّ اليهود يفتحون المخازن وينهبونها في سوق المدينة القديمة، وأنَّهم في يومين أو ثلاثة سيأتون على مكتبتي ويفرِّغون محتوياتها” (“من العُثمانيَّة إلى الدَّولة العبريَّة” ص 196).
وحين عاد إلى حيفا وجد مكتبته منهوبة لقد أتوا على جميع ما تحتويه من كتب وجرائد ومجلات وقرطاسيَّة “وخاصَّة المخزن الأرضي فوجدتُه منهوبًا وقاعًا صفصفًا”.
سمعتهم، وأنا في جلبلاب والدي، عند بوَّابة الميناء، يتهامسون أن الجيوش العربيَّة زاحفة إلى فلسطين لطرد عصابات صهيون، وسيبلُون بمنظَّمات الإرهاب وزبانيَّتها بلاءً حسنًا، لتخليص الشَّعب منهم، كنتُ ورفاقي معي نحاول إقناعهم أنَّهم سيأتون إلى بلادنا، لتسليمها للعصابات بحسب طلب الإنجليز والفرنسيِّين وبتآمر “مدن الملح” وباقي أيتام الرَّجعيَّة العربيَّة، كما فعلوا بقرية البروة الجليليَّة، وقرأتُ لهم ما قاله وخطَّه السُّلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل السُّعود للمستعمرين، تعهُّدًا منه، لمنح فلسطين للغرباء، بناءً على طلب الإنجليز الذين لم يخرج عن طاعتهم البتَّة، وبايعهم إلى يوم القيامة، وهو تحت إمرتهم وفي خدمتهم، بعد أن بسمل، في فاتحة رسالته:
“باسم الله الرَّحمن الرَّحيم، أنا السُّلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن آل الفيصل آل سعود أقرُّ وأعترف ألف مرَّة للسِّير برسي كوكس، مندوب بريطانيا العُظمى، لا مانع عندي من اعطاء فلسطين للمساكين اليهود او لغيرهم، كما تراه بريطانيا، التي لا أخرج عن رأيها حتَّى تصبح السَّاعة”.
وحينها أعلن حاييم وايزمن، أولى الشَّخصيَّات الصَّهيونيَّة بعد هرتسل وأوَّل رئيس للدَّولة بعد النَّكبة، أنَّ إنشاء الكيان السُّعوديِّ هو هدف بريطانيا الأوَّل حيث سيُبنى الوطن لليهود بواسطته..!
لن نترك حيفا، اعلنتُها وأنا في عُبِّه وكذلك أشقَّائي ووالدتي، “حبُّ الوطن قتَّال”، لا بديل لنا عنه، الوطن هو الأم، لكنَّنا وجدنا أنفسنا، نزحف مع الباقي باتِّجاه التَّيَّار، بعد أن أقفلوا في وجوهنا باب العودة إلى بيوتنا، مع أنَّ مفاتيح الدَّار كانت في جيوبنا، “قالولنا جُمعة زمان ومنرجع يابا”، لتكون وجهتنا فقط إلى ترك البلد والنُّزوح شمالاً، إلى العبَّارات في الميناء، ومنها إلى عكَّا، لكنَّ شقيقي وأمِّي بقيا خارج الحاجز البريطانيِّ، لقد سهَّل الإنجليز علينا ترك المدينة في اتِّجاه واحدٍ، ومنعوا منَّا الرُّجوع إلى بيوتنا، كيف السَّبيل إليهما، لكنَّهما وصلا بعد أن فتَّشا عنِّي في جميع أحياء حيفا المهجورة، المهدومة “المفرومة والمطحونة” التقينا ومن بعدها نزحنا عبر عبَّارات البحر إلى جبال الجليل، وكانت بوصلتنا لبنان، شمالاً، لكنَّ حظَّنا في أعالي جبل الجرمق، وحظُّنا هو أنَّنا نزلنا قرية بيت جن، الجليل الأعلى، حيث حضن أهل القرية العائلات النَّازحة قائلين لهم “لن ترحلوا من قريتنا، والدَّم ما بيصير مي واللي بصير عليكو بصير علينا، وإحنا أهل وشعب واحد”، وبقينا في بيت جن، إلى أن هدأت الأمور وسقطت البلاد، وبدأ إحصاء النُّفوس وتسجيل من بقي في سجلاتهم، لذلك بقينا في وطننا..
ما زالت عائلتي تَكنُّ الوفاء والعهد للعائلات الثَّلاث، كذلك لأهل قرية بيت جن، كما ويذكرهم والدي، عائلة صلالحة (حسين، أبو مالك)، وعائلة أبو عبسي (عبد الله، أبو شفيق)، وعائلة أبو علي اليوسف (المختار) لقد جاء في الحديث الشّريف “من عامل النَّاس فلم يظلمْهم، وحدَّثهم فلم يكذِّبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو من كملَت مروءتُه وظهرَت عدالتُه ووجبَت أخوَّتُه”، فهؤلاء العرب المعرفيُّون الأوفياء إخواني، الذين لم تلدهم أمِّي، وما أكثر المعروفيِّين الذين ساعدوا أبناء شعبهم في البقاء في وطنهم، إذ حضنوا وأحسنوا وفادة جميع من التجأ اليهم..
ففي قصيدته “يا رافض التَّجنيد” يكتب الشَّاعر داود تركي:
“يتساءلون: من الدُّروز؟ أُجيبُهم بعروبتي الأقحاح والأخيارُ
جبلٌ وسُلطانٌ كبيرُ جبالِهِ والثَّورةُ الكُبرى له الإكبارُ
عربًا وُلِدنا كالمحيطِ أرومةً وقُبَيل كلِّ دينٍ تُختارُ
ها الطَّائفيَّةُ أشعلتها طُغمةٌ أعداؤنا لرؤوسِها أُمَّارُ
(نتواصل، إنتظروا وشكرًا)..