قبل نحو سنة تقريبا وتحديدا عشية عيد الفصح السابق(نيسان 2019) نشرتُ مقالا بعنوان “سأعيد مع الروم”. لقد تضمـن هذا المقال، فيما تضمنه، الفقـرةَ التالية :
“نعم سأعيد هذه السنة عيد الفصح المجيد مع ابناء الكنيسة العربية الأرثوذكسية في حيفا لا لأنه تربطني روابط صداقة متينة اعتزُّ بها مع قطاعات واسعة من ابناء هذه الكنيسة ولا لأني اثمّنُ عاليا دورَهم في خدمة مجتمعنا العربي حيفاويا وقطريا ايضا، ولا لأني اتنكّر لكنيستي الرومية الكاثوليكية التي فيها ولِدتُ وتعمدت وتعلمت وتكللت ومن خلالها دعوتُ مرارا وتكرارا، شفويا وخطيا، وما زلت ادعو الى الغاء كل قرار من شانه ان يزيد تشرذمَنا كعربٍ مسيحيين، سيما في قضية ينبغي ان تكون في غاية البساطة ولا تمتُّ بصِلةٍ الى جوهر الايمان والعقيدة، كتوحيد موعد الاحتفال بالأعياد…إنما اعيّدُ احتراما وتقديرا للموقف المشرّف الراقي المحبّ المتسامح الملتزم الذي اتخذه ابناء الكنيسة الارثوذكسية في حيفا، من خلال رئاستيها المحليتين الدنيوية والدينية حيث كانوا قد اعلنوا انهم سيعيّدون عيدي الميلاد وراس السنة حسب التقويم الغربي سواءٌ عيّد الغربيون عيد الفصح حسب التوقيت الشرقي ام لم يعيّدوا”.
لقد التزم الاخوةُ الارثوذكس في حيفا بقرارهم هذا وما زالوا ملتزمين به حتى بعد ان تراجعت كنيسة الروم الكاثوليك عن اتفاق وحدة الاحتفال بعيدي الميلاد والفصح الموقَّع بتاريخ 2/12/2009 بينها وبين الرئاسة المحلية لكنيسة الروم الارثوذكس في حيفا، والقاضي بأن: “يعيّد ابناءُ الرعية الارثوذكسية في حيفا، عيدَ الميلاد في الخامس والعشرين من شهر كانون الاول وبالمقابل يعيّد ابناء الرعية الرومية الكاثوليكية عيد الفصح والاعياد التابعة له بحسب التقويم الشرقي… باعتبار ان مشروع الوحدة كان ولا يزال ضرورة ملحَّة تقوِّي دعائمَ الوجود العربي المسيحي في الاراضي المقدسة ولا يجعل الاخرين ينظرون وكأن المسيحية مجزأة ومنقسمة على ذاتها”.
هذا الموقف النبيل الملتزم الذي وقفتْه الكنيسةُ العربية الارثوذكسية في حيفا برئاستها الروحية وبمجلسها المليّ الوطني المنتخب ديموقراطيا وبأبناء الطائفة العربية الحيفاوية الارثوذكسية عموما، ازداد سموّا في نظري عندما رايتُهم سنة تلو الاخرى، يحترمون توقيعَهم على اتفاق توحيد الاحتفالات الدينية ويطبّقون عمليًّا كلَّ ما التزموا به ويقومون بمسؤوليتهم على اكمل وجه، اللهم إلا اذا اردنا رغم ذلك كله ان نحمّلَهم المسؤوليةَ عن انفلاتات و/او انزلاقات و/او إساءات تقترفها عناصر اجنبية او حتى عربية، في الكنيسة الارثوذكسية خارج حيفا قطريا و/او عالميا !!، وذلك تغطيةً وتبريرا لتراجع القيادات الكنسية الغربية عن اتفاقية توحيد الاحتفال بالأعياد في مدينة حيفا، وهذا مما يجعلني اتساءل:
– هل نحمّل اخوتنا ابناء الكنيسة العربية الارثوذكسية في حيفا المسؤوليةَ عن قرارات صدرت او تصدر عن بطريركية الروم الارثوذكس في القدس وقيادتها اليونانية، بشأن “عدم إعطاء القربان المقدس لغير الارثوذكس”؟ وعن “منع الكهنة الكاثوليك من حق المشاركة في الصلوات”؟ وهل حدث مثل هذا ولو مرة واحدة في كنيسة مار يوحنا المعمدان للروم الارثوذكس في حيفا؟ وهل هكذا تصرّفَ او يتصرف راعي هذه الكنيسة ؟ أم العكس هو الصحيح؟
– وهل نحمّل ابناءَ الكنيسة العربية الارثوذكسية في حيفا المسؤوليةَ ايضا عن تصرفٍ مشين اقترفه او يقترفه بوّابٌ أرعنُ لديرٍ ارثوذكسي بعيدٍ عن حيفا، علمانيا كان هذا البواب ام راهبا ام كاهنا ، يمنع الكاثوليكي او غير الارثوذكسي من زيارة الدير؟
– وهل صحيح ان الاشقّاء العرب المسيحيين الارثوذكس في حيفا وهم اهلنا وناسنا واحباؤنا وانسباؤنا وجيراننا، يتصرفون بفوقيّة ويعتبرون انفسهم “ابناء كنيسة العرق السامي الذين يعتبرون كل ابناء الكنائس الاخر (غوييم) ” ؟ اوليسوا هم (كما نعرفهم شخصيا) من اكثر الناس التحاما بشعبهم وعطاءً لأبنائه من خلال مؤسساتهم كالكلية العربية الارثوذكسية والنادي الثقافي وغيرهما وما تلعبه هذه المؤسسات العامرة النشطة من دور مميز حيفاويا وقطريا، على الصعيد التربوي التعليمي والثقافي والاجتماعي..؟
– وهل الاخوة الارثوذكس من ابناء حيفا مسؤولون ايضا عن وحدة الكنائس عالميا؟ ولنفرض جدلا ان الكنيسة الارثوذكسية عالميا “لا تؤمن بأسبوع الصلاة من اجل وحدة الكنائس” فهل بإمكانهم او حتى بإمكان غيرهم من المسيحيين العلمانيين محليا وعالميا، ان يفرضوا على القيادات الكنسية المختلفة حلولا لخلافاتٍ عقائدية لا يمكن ان تُعزى الى ارادة ربّانيّة، إنما هي استجابة لرغباتٍ بشرية دنيوية ابتدعتها عبر الزمن، قياداتٌ كنسية تنكّرت كما يبدو، لقول السيد المسيح له المجد: “من يجمع فهو معي ومن يفرّق فهو عليَّ”؟. هذه القيادات الكنسية المتعنتة، كاثوليكيةً كانت ام ارثوذكسيةً ام غيرها، والتي يتمسك كلٌّ منها بموقفه ويتمترس بموقعه، تمنّعتْ او في احسن الحالات عجزتْ، عبر مئات السنين، عن حلِّ تلك الخلافات العقائدية التي ما زالت عالقةً وستبقى كما يبدو عالقة لمئات إن لم يكن لآلاف السنين. وبالتالي فانَّ كلَّ من يحاول ان يربط ما بين قضية توحيد موعد الاحتفال بالأعياد وبين قضية حلّ الخلافات العقائدية تمهيدا لوحدة الكنائس، إنما هو يستهتر بعقولنا ويستخفُّ بفهمنا ويتعامل معنا بأسلوب “عيش يا كديش تيطلع الحشيش”.
هذه الحقيقة ادركتْها في السنوات الاخيرة قطاعاتٌ واسعة من العرب المسيحيين في حيفا وغيرها من المدن والقرى في منطقة الجليل، الذين كانوا يعانون سنويا إبّان عيدي الميلاد والفصح، من واقعٍ يجسّدُ فرقةً وانقساما وتشرذما حتى في داخل الاسرة الواحدة، ناهيك عن شعورهم إزاء جيرانهم واصدقائهم من غير المسيحيين، بانهم قد باتوا موضعا للتندر والاستهتار. فكان من الطبيعي والبديهي ايضا، ان ترتفع اصواتهم المطالِبة بوضع حدٍّ لهذه المهزلة التي تتكرر على الاقل مرتين في كل سنة.. فتحققت إثر ذلك وحدة الاحتفال في حيفا وغيرها من مدن الجليل وقراه. هذه الوحدة وإن بقيت ثابتةً خارج حيفا، إلا انها ما لبثت ان انهارت في حيفا إثر انسحاب الطرف الكاثوليكي من الاتفاق. هذا التراجع المؤسف الذي لا مبرر له، قابلتْه كنيسةُ مار يوحنا المعمدان للروم الأرثوذكس في حيفا، براعيها وبمجلسها الملي المنتخب، بتأكيد التزامها بالاتفاق وحرصها على متابعة احتفالها بعيد الميلاد حسب التوقيت الغربي اي في الخامس والعشرين من كانون الاول، تاركةً يدَها ممدودةً الى جميع أبناء حيفا من مختلف الكنائس.
ان هذه اليد التي ما زالت ممدودة منذ عدة سنوات، هي ليست يدا مستجدية، إنما هي من وجهة نظري، تجسيدٌ حيٌّ واصيل ومحسوس لما تنطوي عليه مقولة : “يد الله مع الجماعة”. وبالتالي فانا ارى بها يدا كريمة، شريفة، مُحبَّة، متسامحة وجديرة بالمصافحة والتعاضد. ومن هنا وكما قلتُ في العام الماضي، يشرفني شخصيا هذه السنة، كما في السنوات السابقة، ان اشدَّ على هذه اليد الكريمة وان اعلن اني سأعيد عيد الفصح مع الاخوة الارثوذكس في حيفا، منوّها من جديد، باني اتكلم باسمي شخصيا ولا ادّعي انني امثّلُ أحدًا، كما انني لا اريد ان ادعو احدا من المسيحيين في حيفا الذين يعيّدون حسب التقويم الغربي، ان ينضمَّ اليّ. فانا لا ابحث عن عزوة ولا اشكّلُ كتلةً ولا اسعى لأقناع احدٍ بموقفي ولا يُضيرني ابدا ان اكون لوحدي كما انني لا اسعى الى إقناع او الى اسداء النصائح لمن هو اوعى مِن انْ يكونَ بحاجةٍ لنصائحي، ولكنّي اقول للكثيرين الذين لديهم مثل قناعتي : لماذا لا نمارس حريتَنا في اتخاذ قرارٍ نحن نؤمنُ ايمانا صادقا بصحته؟ لماذا نستجدي حريتَنا ممن يحاول ان يصادرها منّا؟ ومن يستطيع اصلا مصادرة حريتنا في ان نعيّد هذه السنة عيد الفصح مع الروم الارثوذكس في حيفا؟ وهل كنيسة مار يوحنا المعمدان للروم الارثوذكس هي اقل قدسية من اي كنيسة اخرى؟ ولماذا لا نستطيع ان نكون خيرَ خلفٍ لخير سلف؟. ان اسلافنا قد استطاعوا بوعيهم وبإصرارهم وبعنادهم ان يهدموا على سبيل المثال، جدرانَ الفصل بين زواج ابناء وبنات الكنائس المسيحية المختلفة، وان يُلزموا تلك القيادات الكنسيّة العليا التي اقامت تلك الجدران البغيضة، ان تسلّم بالأمر الواقع وتتناغم مع ارادة العرسان وذويهم، فتركَ السلفُ لنا بذلك إرثا يُحترم ونموذجا يُقتدى به اليوم، لتقويض جدران الفصل المفتعَل بين مواعيد احتفالنا بالأعياد.
ومن له اذنان للسماع فليسمع وكل عام وانتم بألف Hلف خير
6/3/2020