كان الأديب الحيفاوي الأستاذ فتحي فوراني زار تونس الخضراء، وفيها التقى الكاتب القصصي والروائي توفيق فياض، ابن قرية مقيبلة في مرج ابن عامر، الذي كان قد غادر البلاد في العام 1974 بموجب اتفاقية تبادل الأسرى مع مصر، بعد ادانته بتهمة أمنية، حيث عمل في البداية بمركز الدراسات الفلسطينية في بيروت، لكنه تركها بعد خروج المقاتلين الفلسطينيين منها، وانتقل لتونس، ومنذ ذلك الحين وهو يقيم فيها. وكان قد زار البلاد قبل سنوات، والتقى بأهله وأبناء قريته وأصدقائه والعديد من أهل القلم والأدب والثقافة.
وكان صدر لتوفيق فياض وهو في البلاد ” المشوهون ” و ” بيت الجنون ” والشارع الأصفر “، ونشر نتاجه القصصي في اليوم ومجلتي الفجر والجديد ثم في صحف الوطن العربي.
وفي اللقاء الحميمي الذي جمع فتحي فوراني بصديقه توفيق فياض في منفاه القسري، فتحا ملف الحنين وذكريات الزمن الجميل في مدينة البشارة الناصرة، وأيام الدراسة في ثانويتها، وكانت لهما وقفات مع الحراك الثقافي في حينه، وتوقفا عند العواصف الأدبية التي اجتاحت المشهد الثقافي، وكان ” المشوّهون ” المشاغبون على ظهر خيلهم، يحتلون مركز الاحداث الأدبية.
وقبل أن يودع فياض صديقه فوراني الذي يشم من خلاله رائحة تراب الوطن، عائدًا إلى الديار بعد رحلة ماتعة في أرجاء تونس الجميلة، وإذا به يسلمه أمانه وضعها بين يديه، وهي فصول من سيرة ذاتية يعكف على كتابتها، وقال له : لك مطلق الحرية في اطلاق سراحها من أسرها ونشرها في أحدى صحف الوطن.
وما كان من فتحي الوفي بعد عودته من تونس إلى أن شرع – كما يقول- في عملية المطالعة والمراجعة والتصحيح والتنقيح وتسجيل المخالفات الطباعية وفحص المستندات الثبوتية للنقاط والفواصل وعلامات السؤال، وعلامات الدهشة والانفعال، ثم عملية الفرز والتبويب وتقسيم المساحات النصية الواسع والحفاظ على سلامتها.
واطلق فتحي سراح ” نواعير الذاكرة ” من الأسر، وسلمها لمحرر الملحق الثقافي لصحيفة ” الاتحاد ” العريقة في مقرها بحيفا، الصادر كل يوم الجمعة، وتم نشر بعض الفصول منها.
وفي هذه الفصول يحكي توفيق فياض عن بلده وبيئته وطفولته ودراسته في الناصرة واقامته فيها، وعن معلميه سمير ورور وعبد اللـه أبو النجم وحبيب حزان، وتجاربه الكتابية بمجال القصة، ولقاءاته وصداقاته وعلاقاته مع الشاعر راشد حسين، وأخيه القاص أحمد حسين، الذي كان يشد على يديه وقال له : ” يا توفيق أنك مسودّة لكاتب عظيم في المستقبل “.
ويحدثنا توفيق فياض في نواعيره عن صديقه القاص ابن مصمص المرحوم أحمد حسين، الذي يصفه بالحصان الذي أفلت من عقاله، قائلًا : ” كان أحمد حسين عكس أخيه راشد، متوسط القامة، داكن السمرة طويل الشعر وأشعثه، قوي البنية، متوترًا، حاد المزاج شرسًا، لاذع السخرية، عدوانيّ الطبع، منفرًا، سريع الخطو والحركة، شبق التدخين، تخاله وهو يمشي أنه حصان أفلت من عقاله طورًا وفهدًا قلقًا دائم التحفز أو في معترك دام، وقد انعكس كل ذلك على مواقفه من الآخرين وخاصة من الناحية السياسية، فكان قوميًا متطرفًا يشن حربًا لا هوادة فيها ولا مواربة أو مسايرة على من يختلف معه في الرأي أو العقيدة، فانفضّ التلاميذ من حوله وظلت علاقته مع اربعتنا بين مد وجزر دائمين. وحين كان بي ما به من حدة المزاج في ذلك الوقت، وقد كنت في حينها قد بدأت أكتب بغزارة وخاصة حين لا يكون هو في الغرفة وكنت أخفي عنه ذلك، لأنني لم أشأ أن أطلعه على أية قصة أكتبها، إذ كان قد خلق عندي بعد فوزه بجائزة القصة، نوعًا من عدم الثقة بالنفس، والخوف والتهيب من نشر أي قصة في ذلك الوقت، أسوة بالكتاب الذين بدأوا يبرزون وهم لا يزالون بعد على مقاعد الدراسة، عاقدًا العزم على أن لا أنشر أية قصة إلا بعد أن أتأكد من أنني سأبزّه بكل ما كتب. ولهذا كنت أخفي الدفتر الذي أجمع فيه قصصي بعد أن أمزق المسودّات”.
ويحكي لنا توفيق فياض عن قصته ” القيثار المهشوم ” التي كان قد نشرها في مجلة ” الفجر ” التي كان يعمل فيها الشاعر راشد حسين، وأثارت حفيظة أستاذنا الناقد المرحوم اميل توما، الذي كان يوقع كتاباته باسم ” ابن خلدون “، حيث حمل عليه – على حد قوله – أي حملة، رغم انها كانت تعالج قضية الجوع والتمزق النفسي في هذا العالم الصاخب، وقد تضايق من هذه القسوة التي تناول فيها توما قصته، لكنه شعر بارتياح شديد واعتزاز في النفس أن يتصدى لما يكتبه شخصية مثل “اميل توما “.
لقد استمتعت أيما استمتاع بالفصول من نواعير الذاكرة، التي نشرت حتى الأن، لما في فيها من ذكريات وشوق وحنين للماضي بأسلوب قصصي مشوق ولغة بسيطة سلسة وجميلة يطغى عليها عنصري الدهشة والتشويق، وانتظر بفارغ الصبر الفصول القادمة على صفحات ملحق ” الاتحاد ” الثقافي لتكتمل السيرة.
فكل التحية لصاحب نواعير الذاكرة الكاتب توفيق فياض، وللصديق الأديب فتحي فوراني الذي حفظ الأمانة وقام بالنشر الجميل لفصولها.
…
[الرسالة مقتطعة] عرض الرسالة بالكامل