(الحلقة الثَّانية عشرة)
يكتب جميل البحري في كتابه “تاريخ حيفا” ص 17، عن التآخي العربيِّ ووحدة المصير، والتَّصدِّي لوعد بلفور الملعون: “وآخر مظاهرة كانت في اليوم الثَّامن والعشرين من شهر آذار عام الفٍ وتسعمائةٍ وواحد وعشرين، حاصرت فيها الحكومة المسلمين بواسطة رجال الدَّرك ضمن جامعهم الكبير وطاردت المسيحيِّين الذين كانوا خارجين من احتفال ثاني يوم عيد الفصح الكبير من كنيسة الرُّوم الكاثوليك لينضمُّوا إلى المسلمين، وقد أطلق رجال الدَّرك النَّار فأصاب فتىً مسيحيًّا في الرَّابعة عشرة من عمره (إدوار بن جريس منصور) أرداه قتيلاً، وكذلك رجلاً عجوزًا من المسلمين (مصطفى العجوز)..”.
ونظم الشَّاعر د. قيصر خوري في كتابه “الذِّكريات” ص 60، قصيدة بعنوان “إدوار منصور ومصطفى العجور” ويُضيف “وقد ذهبا ضحيَّة الوطن في المظاهرة التي جرت في حيفا على المقبرة الإسلاميَّة، هناك من علٍ في هذا الفضاء الواسع وفي عالم اللانهاية قد اتَّحدت روحا شهيدَي الوطنيَّة. وهنا من أسفل تحت هذه القُبَّة الزَّرقاء وفوق هذه العظام البالية قد اتَّحد المسلم والمسيحيُّ، فمشى الشَّيخ والقسِّيس، وتعانق الهلال والصَّليب وتعالت أصوات المؤذِّنين والمرتِّلين وقرعت أجراس المسيحيِّين، والشَّعب كلُّه
يهتف لغاية واحدة ووطنٍ واحدٍ”.
وجاء في القصيدة:
إذا لم تنل هذي البلاد حقوقَها فتحيا كما تحيا الشُّعوب وتسعدُ
فخيرٌ لها ألا تعيشُ ذليلةً لأنَّ حياة الذُّلِّ للموت موردُ
إذا أنصفونا اليوم عشنا أكارمًا وإن ظلمونا اليومَ يُنصفنا الغدُ
وإن كان لا يحيا المسيحُ وأحمدٌ فلا كان في الدُّنيا المسيح وأحمد
ومن الأشعار التي ما زال يذكرها والدي عن ظهر قلب، من أيَّام مدرسته، قصيدة الشَّاعر السُّوريِّ عمر أبو ريشة، في سبيل المجد:
في سبيل المجد والأوطان نحيا ونبيد
كلُّنا ذو همَّة شمَّاء جبَّار عنيد
ما تُطيقُ السَّادة الأحرار أطواق الحديد
إنَّ عيشَ الذِّلِّ والإرهاق أولى بالعبيد
لا نهاب الزَّمن إن سقانا المحن
في سبيل الوطن كم قتيل شهيد
وكان أخوه داود قد اهتمَّ أن يحفظَها والدي كما يجب وكان لهما ذلك إذ قال عمي مرَّةً، إنَّ الأستاذ شريف حبيشي كان قد كتبها على اللوح، ومحاها بعد فترة وجيزة، طالبًا من التَّلاميذ إلقاء القصيدة، فما كان من داود أن وقف لإلقاء القصيدة كما كتبها الأستاذ من فاتحتها إلى خاتمتها، بصوت جهورٍ وثقة كبيرة واعتزازٍ بالنَّفس وقام بإلقاءٍ جميل للقصيدة، يليق بمكانة هذه القصيدة الوطنيَّة الهادفة والمثقِّفة، حيث كان يُبرز انفعالاته، ويعلو بصوته ويُخفضه بإيقاع يليق بالمعنى ويشدِّد على الكلمة التي يجب عليه أن يُشدِّد عليها، مع شارات يديْه وطريقة وقوفه أمام الحشد والنَّظر إلى أعينهم، لتبقى القصيدة راسخة في عقول الحضور ونفوسهم، حيث حاز على احترام المعلِّم الذي طلب من جميع التَّلاميذ أن يُصفِّقوا لداود احترامًا وتقديرًا فقاموا جميعهم، بموجة تصفيق كبيرة، بما في ذلك المعلِّم، وقد حاز أيضًا على احترام الطُّلاب وجميع من سمع التَّصفيق من تلاميذ المدرسة واستاذة ومن الهيئة التَّدريسيَّة!
كانت في حيفا عدَّة مدارس تخدم سكَّانها، ولكلِّ طائفة كانت مدرسة تخدم ابناءها، مع أنَّه كان طلاب هذه المدارس، من نسيج حيفا الطَّائفيِّ على انواعه، من جميع الطَّوائف والملل، مدرسة تيراسانتا تابعة لرعيَّة اللاتين، مدرسة القدِّيس لوقا (سانت لوكس، مار لوقا) لرعيَّة البروتستانت، وكانت المدرسة الإبتدائيَّة في طريق الجبل، والمدرسة الثَّانويَّة قرب شاطئ العزيزيَّة (9)، مدرسة راهبات النَّاصرة للبنات وكانت تُسمَّى أيضًا مدرسة دير راهبات النَّاصرة في حيفا، ومدرسة أخرى للبنات كانت تديرها راهبات ألمانيَّات، ومدرسة للرَّاهبات الإيطاليَّات الكرمليت، قرب شاطئ البحر، وأخرى تديرها راهبات فرنسيَّات، مدرسة السيليزيان، حيث كان مديرها الأب نعمة الله فرحات الذي كان شاعرًا حماسيًّا، مدرسة راهبات المحبَّة، مدرسة الفرير، مدرسة المعارف التي كانت تقع على تقاطع شارعي الجبل والكرمة حيث كان مديرها الأستاذ أنيس الصِّيداوي، وهو من الخطباء والمفكِّرين ومدرسة اخرى للبروتستانت، الوحيدة المختلطة، للبنين والبنات، كانت تقع حيث يقع اليوم متحف حيفا، ولكن في مكان آخر كُتِب عنها انَّها المدرسة الإنجليزيَّة العالية للبنات، والمدرسة الأرثوذكسيَّة في طريق اللنبي، ومدرسة الموارنة التي كانت قرب كنيسة الموارنة، حيث قام ببنائهما (الكنيسة والمدرسة) السَّيِّد سليم بك نصر الله خوري حين قدِم إلى حيفا من بكاسين، لبنان، في العقد الثَّامن من القرن التَّاسع عشر، حيث “بنى لهم الكنيسة الحاليَّة وفتح المدرسة المارونيَّة وأوقف لهاتين المؤسَّستين وقفًا يُمكِّن دخله من إعاشة الكهنة والمدرِّسين وقد نال من قداسة الأب الأقدس لقبًا شرفيًّا ووسامًا بابويًّا تقديرًا لخدماته المسيحيَّة، وحاز أيضًا من لدن الباب العالي رتبة “عزِّتلو” مع وسامها، كما جاء في كتاب د. قيصر خوري “الذِّكريات ص 34″، ولقب عزتلو أفندي هو لقب بيك ومأخوذ من كلمة تركيَّة تعني صاحب العِزَّة والكرامة وكذلك مدرسة البرج (حيث كُتب على مدخلها: المدرسة الإسلاميَّة التَّابعة للجمعيَّة الإسلاميَّة قسم الذُّكور)، حيث أَنشأها تجَّار سوريُّون في عشرينات القرن المنصرم وكان من معلِّميها الشَّيخ عزُّ الدِّين القسَّام والمناضل معروف سعد، ومدرسة الوداد الإسلاميَّة، مدرسة البنات الإسلاميَّة ومدرسة جامع الحاج عبد الله الإبتدائيَّة، كذلك مدرسة ثابت حيث كان مديرها الاستاذ والمربِّي الشَّهير نبيه ثابت، ومدرسة الإستقلال ومديرها الأستاذ الوطنيُّ محمَّد علي الصَّالح، الذي كان محرِّرًا لصحيفة “الجزيرة” في عمَّان، مدرسة “الصَّنائع” الحكوميَّة (الصِّناعيَّة)، المدرسة “الأميريَّة” في الحيِّ الشَّرقيِّ لحيفا، “مدرسة النَّجاح الوطنيَّة للبنات” وكذلك كانت هناك مدرسة صناعيَّة تدريبيَّة تقيم دوراتها لتهيئة عمَّالاً لسكَّة الحديد وموظَّفين في مكاتب الشَّركة وكانت هذه المدرسة تابعة لسكَّة الحديد الحجازيَّة..
لقد حصلتُ على صورةٍ من البوم الرَّفيقة العزيزة نعمات خمرة، ابنة الرَّفيق المناضل علي
خمرة، الصُّورة لوالدها، حين كان طالبًا في مدرسة “الفرير”، الواقعة في أوَّل طريق “اللنبي”
مقابل طلعة ستانتون حيث قام واترابه “بشطحة” مدرسيَّة الى جبل الكرمل عام الفٍ وتسعمائة وإثنين وثلاثين، حيث كتب على ظهر الصُّورة اسماء المشاركين في الرِّحلة (لاحظوا خطَّه الجميل والواضح):
الجالسون في الصَّف الأوَّل على الأرض من اليمين علي الحاج خضر (علي خمرة)، منير الحاج ابراهيم، فخري الزِّيناتي ومحمود شرقاوي، وفي الصَّفِّ الثّاني صورة تلاميذٍ يجلسون على رُكبهم من اليمين سعيد الحاج خضر حيث أصبح لاحقًا، بعد النَّكبة رئيس اتِّحاد عمَّال فلسطين بدمشق، صلاح الدِّين تكريت، محمد يوسف القاسم، ابراهيم الحسن، محمد سعيد جرَّار، الواقفون من اليمين، الصَّف الثَّالث، حسين الحاج خضر، حسن ابو زيد، ناجي القزق، عثمان ابو طه، أحمد عمُّورة، ياسين الحلو، اديب الزَّعيم، عبد الرَّازق الخوري، عبد الله مقبول، حيدر شبيب، محمد أبو طه، حكمت نبهاني وحسين الحاج خضر.
لقد جاء في كتاب جميل البحري، تاريخ حيفا، أنَّه كان في حيفا ثلاثون مدرسة، ممَّا جعل التَّعليم والعلم قريبًا من كلِّ طالبٍ له، وقد توزَّعت بين جميع سكَّان المدينة، حيث كان للمسلمين أربع مدارس، ولليهود عشر مدارس، وللمسيحيِّين سبع عشرة مدرسة، ويتابع البحري في كتابه أنَّه كان همُّ كلِّ رهبانيَّة تأتي حيفا، فتح المدارس لأبنائها، ذكورًا وإناثًا، وتعليمهم مبادئ اللغتين، العربيَّة والفرنسيَّة، وأمور ديانتهم، وفي بعضها أيضًا الإيطاليَّة والألمانيَّة، ولذلك تعدَّدت المدارس بتعدُّد الرهبانيَّة والأديرة. أمَّا في المدارس اليهوديَّة، فكانوا يتعلَّمون إضافة للغة العربيَّة والانجليزيَّة اللغة العبريَّة، زد على ذلك أنه كان يأتي إلى مدارس حيفا، طلاب من قرى قضاء حيفا.
(نتواصل، إنتظروا وشكرًا)..