حيفا في ذاكرة برهوم، كي لا تُنسى.. د. خالد تركي ـ حيفا

في الصورة: كنائس في حيفا العتيقة

(الحلقة الحادية عشرة)

تُرى هل ستعود عائدتُنا إلى شارع ياقوت الحمويِّ؟ أم ستعود إلى شارع مار يوحنَّا؟ أم إلى درج دور؟ في حيِّ وادي النِّسناس، لتلتقي بعائلتها وبأترابها، بعد أن غادرت الوطن من أجل الوطن، وهل ستستطيع، يومًا، أن تزورَ قبرَ والديْها لتضعَ على ضريحيْهما باقة من القرنفل الأحمر أو الورد الجوري القاني؟ ولتغسل أضرحة والديْها بالماء المعطَّر، وهل سيعودُ أهل حيفا لترميمها كما كانت وأفضل، أم أنَّ عساكر “كرميلي” سترمِّمها كما “رمَّمَت” بيوتًا أخرى في المدينة، كما في غيرها، حين “حَلَقَتها عَ الصِّفر”!

يقول المناضل داود تركي:

سنعودُ يا حيفا وإن وقَفَت في وجهِنا الأشرار والسَّفَلُ

سنعودُ يا حيفا وينظُرُنا جبلٌ وأحرارٌ به أصُلوا

صمدوا على الشِّدَّات تصقُلُهم شعبًا تطيبُ لطيبِهم المُقَلُ

تنظر في عيوننا عيونُ زبدِ بحر كرمل حيفا صارخةً بأعلى صوت هدير أمواجه الآتي من قعر البحر، بعد أن أتت عيون البحر مع أمواجه، ومع كلِّ موجة تأتي من البعيد، صرخة واستغاثة، ليتعانق القعر مع القمَّة، ولتعانق رمل شاطئنا الشَّاميِّ، وتسألهم لماذا تركتم الشَّاطئ وحيدًا تدوسه بساطير الغرباء، هذا البحر الذي أعطاكم كلَّ ما يملُك، منذ البدء، من كنوز، وثروة بحريَّة ودفئ وغنى وهناء وهواء وماء، تركتم البحر لقاتل البحرِ..

وقد حذت حذو بحرنا بحارُ ومحيطاتُ المسكونة، وأطلقت عيونَ زبد أمواجها لتنظر إلى عيون الغُيَّاب الغيارى المقهورين تناديهم وتناجيهم في “نشيد الموتى” للشَّاعر محمود درويش:

عودوا أنَّى كُنتم

غرباء كما أنتم

فقراء كما أنتم

يا أحبابي الموتى عودوا

حتَّى لو كنتم قد مُتُّم

كانت كنيسة كاتدرائية السَّيِّدة تأوي معلِّمي حيفا الذين كانوا يأتونها للتَّدريس في مدارس الرَّعيَّة، من جميع مناطق الوطن والإقليم، وكذلك كانت بيتًا لرجال الدِّين الذين كانوا ينتشرون نهارًا في كنائس الكاثوليك في المدينة والقضاء لإقامة الصَّلوات اليوميَّة فيها، وزيارة أهل المدينة والوقوف عند حاجتهم إن شاء الأمر.

وقد انتقلت المدرسة بعد ذلك إلى منطقة وادي النِّسناس، شارع القدِّيس مار يوحنَّا المعمدان رقم ثلاثة عشرة، (حوش الكاثوليك المُطلُّ على شارعي مار يوحنَّا من جهة وعلى طريق اللنبي من الجهة الأخرى) وذلك في العام ألف وتسعمائة وثمانية وثلاثين، لتكون بعيدةً عن مركز الأحداث، وقريبة من أماكن سكن تلاميذها، واصبح اسمها المدرسة الأسقفيَّة للرُّوم الملكيِّين الكاثوليك..

ويقول والدي أنَّه كانت هناك مدرسة ابتدائية أخرى تابعة لرعيَّة الرُّوم الكاثوليك، كانت تديرها الرَّاهبات وكان يتعلَّم فيها طلاب من ابناء العائلات الثَّريَّة والأجانب من السِّلك الدِّبلوماسيِّ في حيفا، لكنَّها كانت صغيرة في منطقة المحطَّة (محطَّة الكرمل) على شاطئ البحر، حيفا العتيقة أو كما كانوا يسمُّون تلك المنطقة بحيِّ القشلة (مركز لرجال الشُّرطة العثمانيَّة) وكانت تُعرف أيضًا بمنطقة الزَّوراء (والزَّوراء هي مدينة بغداد، مدينة الرَّشيد، الخليفة العبَّاسيِّ، كما أنَّ حلب هي الشَّهباء ودمشق هي الفيْحاء) وتحمل الكنيسة هناك اسم كنيسة الزَّوراء أو كنيسة الملاك جبرائيل على اسم بانيها المطران حجَّار أو كنيسة المحطَّة..

كانت عِظات مدير المدرسة دروسًا في الوطنيَّة والآداب والأخلاق الحسنة والتَّسامح، وحبِّ الوطن والإخلاص له والذَّود عنه، وكان يُلقي عليهم قصيدة الشَّيخ الأزهريِّ سليمان التَّاجي الفاروقي، ابن مدينة الرَّملة، محرِّر صحيفة “الجامعة الإسلاميَّة” التي اعتُبرت حينها من امَّهات الصُّحف الفلسطينيَّة، ومؤسِّس الحزب الوطنيِّ الفلسطينيِّ ورئيسه لاحقًا، ونزولاً عند اقتراحه في شهر كانون الثَّاني من العام الف وتسعمائة وعشرين، بعد وعد بلفور المشؤوم، عُقد مؤتمر، والمعروف باسم المؤتمر الفلسطينيِّ الثَّالث العام، وقد اشترك في المؤتمر من سكَّان مدينة حيفا، بحسب ما جاء في كتاب جميل البحري “تاريخ حيفا” ص (24):

فضيلة المفتي محمَّد مراد، والسَّادة عبد الله مخلص، أبو الخير الموقع، أمين نور الدِّين، معين الماضي، أحمد الإمام، رشيد الحاج ابراهيم ورفيق بك التَّميمي من المسلمين، وابراهيم صهيون، اسكندر منسَّى، ورجا بك الرئيس، نجيب نصَّار، وديع البستاني، توافيل بوتاجي، توفيق الجدع وجميل البحري، وكان الأخير كذلك رئيس مؤتمر العلماء في فلسطين، عام ألفٍ وتسعمائة وأربعة وأربعين ولأنَّه كان ضريرًا، نابغًا وفيلسوفًا واديبًا وشاعرًا، لُقِّب بمعرِّي فلسطين، وكذلك لُقِّب ببدويِّ فلسطين:

يا فلسطينُ تباركتِ حمىً كلُّ من يبغيكِ بالكَيْد يخيب

لستِ أرضًا أنتِ بل أنتِ سما مهد عيسى فيك والأقصى المُهيب

يأزر النَّصران فيكِ المُسلِما ويفدِّيك هلال وصليب

وله ابيات أخرى من الشِّعر يحفظها عن ظهر قلب الكاتب الفلسطينيُّ سميح مسعود، ابن حيفا (حيفا.. بُرقة، البحث عن الجذور، سيرة ذاتيَّة، إصدار دار الفارابي، بيروت صفحة 228)، في وحدة أبناء الوطن الواحد ووحدتهم:

لا تهُن يا وطن سوف يصفو الزَّمن ضامنُ النَّصرِ لنا هممٌ لا تهُن

وشبابٌ حين تحمرُّ المآقي خشنُ وسيوف قُضَّبٌ ورماحٌ لدُنُ

ونفوس عن فلسطين لا تمتهنُ يا فلسطين لك الأرواحُ قلَّ الثَّمنُ

نحن، مهما اختلف الدِّين بنا والسُّننُ، أخوةٌ يجمعنا بالله هذا الوطنُ

ما أشبه اليوم بالأمس، فهذه الأيَّام تدعونا، كما دعانا في الماضي الشَّيخُ الأزهريُّ سليمان التَّاجي الفاروقي، الى الوحدة والتَّفاهم لإنقاذ انفسنا من براثن الطائفيَّة والانعزالية والتَّقوقع. فالإنقاذ يأتي عن طريق الوحدة الوطنيَّة والتَّفاهم، بعيداً عن الفئويَّات والعصبيَّات والبغضاء.

فالعنف لا يعالج بالعنف والطائفيَّة لا تحل بالطائفيَّة والكره لا يحلُّ بالكره والإكراه لا يُواجه بالإكراه، علينا ان ندفع بالتي هي احسن وانجع لما فيه خير لمجتمعنا ولشعبنا،

حيث ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ..﴾.

قال السَّيد المسيح عليه السَّلام: من لا يستطيع ان يحبَّ اخاه او جاره الذي يراه، كيف يستطيع ان يحبَّ الله الذي لا يراه.

سلطات الاحتلال على اختلاف حضورها الزَّمانيِّ والمكانيِّ، الآني منه والدَّاني، في شرقنا العربيِّ، تريدنا لقمة سائغة في فمها، مشرذمين بين مسيحيٍّ ومسلمٍ ومعروفيٍّ ويهوديٍّ، بحيث يكون انتماؤنا طائفيًّا ومذهبيًّا، وأن لا يكون انتماؤنا للوطن الذي حضنَنا ورعانا، من المهدِ الى اللحدِ، جيلا ً وراء جيل على مرِّ العصور والدهور. لذلك علينا أن نكون معتصمين بحبل الله والوطن وألا نتفرَّق. فالله يوحِّدنا والوطن يوحِّدنا والدِّين لله وحده، والوطن لنا جميعاً، وغير هذا الطَّريق والموقف، تكون طريقنا الى التَّهلكة التَّفرقة، وسيادتهم علينا تكون بتفريقنا وانقسامنا، فمن غيرهم، هم هم خبراء سياسة فرِّق تسُد”، زد على ذلك نتوحَّد تحت شعار “يا عمَّال العالم اتَّحدوا ويا ايَّتها الشُّعوب المضطَّهدة اتَّحدي”.

﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا..﴾

لقد أعطاهم الرَّسام الفلسطينيُّ ناجي العلي، الحيُّ فينا حتَّى في غيابه، الجواب الشَّافي والخبر اليقين، حين سُئل حنظلة عن دينه وانتمائه الطَّائفيِّ: انت مسيحيٌّ أو مسلمٌ، سُنِّيٌّ أو شيعيٌّ، درزيٌّ أو علويٌّ، قبطيٌّ أو مارونيٌّ، روم كاثوليك أو روم ارث..، أجابهم حنظلة: انا عربيٌّ يا جحش..

(نتواصل انتظروا وشكرًا)

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .