حيفا في ذاكرة برهوم، كي لا تُنسى.. د. خالد تركي حيفا

(الحلقة العاشرة)

كانت “جمعيَّة العمَّال العرب” أمميَّة بتركيبتها، حيث كانت تضمُّ عمَّالاً من جميع أنحاء المشرق، فقد ضمَّت عمَّالاً قبارصة، يونانيِّين، أتراك وأكراد، فضلاً عن عمَّال من أقطار الوطن العربيِّ المختلفة، الذين جاؤوا بلادنا طلبًا للعمل والرِّزق. ونتيجة لسوء أداء “الجمعيَّة”، عُقِدَ في العام خمسة وأربعين في يافا مؤتمرٌ للعمَّال العرب، بدعْوَةٍ من الشُّيوعيِّين وحضره ثمانون بالمائة من أعضاء “جمعيَّة العمَّال العرب”، وبهذا بدأ “مؤتمر العمَّال العرب” بقيادة الشُّيوعيِّين يقود النِّضال العمَّاليِّ في فلسطين، وبشرعيَّة تامَّة. حيث قدَّم لأعضائه التَّأمين الصِّحيِّ وقام بتأسيس تعاونيَّات تمنح الأعضاء احتياجاتهم بأسعار مُخَفّضة ك “قوت الكادحين” في شارع الخوري بحيفا، لكنَّ هذا لم يلقَ إعجاب واستحسان “الهستدروت”، التي بادرت لاحِقًا بالعمل على تأسيس “إتِّحاد عمَّال فلسطين ” كجسم نقابيٍّ بديل، لِضرْب ومحاربة نشاطات وفعاليَّات “مؤتمر العمَّال العرب” بقيادة الشُّيوعيِّين.

استمرَّ نشاط “مؤتمر العمَّال العرب” أيضًا بعد الإحتلال بقيادة المسيرة العمَّاليَّة حيث عقَد مؤتمرَهُ الرَّابع في النَّاصرة في ظلِّ الحكم العسكريِّ، وقد كانت غالبية قيادة المؤتمر رهن الاعتقال، وقد انتُخِب طيب الذِّكر سليم القاسم (8) سكريتيرًا تنظيميًّا لمؤتمر العمَّال العرب في فلسطين، وهو في السِّجن..

أمَّا مكاتب ومقرُّ مؤتمر العمَّال العرب، فقد كان في حيفا، في حيِّ وادي النِّسناس، وما زال حتَّى يومنا هذا، يُعرف بنادي المؤتمر، وقد استُعمِل هذا النَّادي مركزًا لحضانة النِّساء الدِّيمقراطيَّات، ومكاتب تحرير لأدبيَّات الحزب الشُّيوعيِّ، صحيفة “الإتِّحاد” الصَّحيفة النَّاطقة باسم الحزب، ومجلَّة الشَّبيبة “الغد” ومجلَّة الحزب الأدبيَّة “الجديد” وكذلك كان مقرًّا لإجتماعات الحزب، وما زال النَّادي يخدم منطقة حيفا للحزب والشَّبيبة وأبناء الكادحين، في جميع فعَّاليَّاتها ونشاطاتها.

لقد تعاطف جدِّي مع اليهود ومع غيرهم من الذين اتوا بلادنا من اوروبا، من وراء البحار، هاربين من ظلم هتلر وناره وغازه وافرانه، وساعدهم بقدر استطاعته على العيش والتَّأقلم والبقاء كغيره من ابناء شعبه، صاحب النَّخوة الأصيلة وعزَّة النَّفس الكريمة لنصرة المظلومين، ولم يرَ فيهم عدوًّا لدودًا، بل رأى في اليهود شعوبًا مختلفة تعتنق اليهوديَّة، كما ديانته، فهي أيضًا ديانة ابراهيميَّة، أو حتَّى لو كانوا ملحدين، أو لو كانوا ما شاءوا، اتوا وغيرهم بلاده اطنابًا، يجب عليه إحسان وفادتهم ومساعدتهم بقدر استطاعته، هذه هي اخلاقه..

والطَّنيب في قاموس العرب، هو الذي يحتمي بك من شرٍّ يُداهمه، فتحميه، ومن ظُلمٍ يكتنفه ويحيط به، فتنصرُهُ، ثلاثة أيَّام، “ماكل، شارب، نايم بأمان”، ثم توصله المكان الذي يريده هذا الطَّنيب..

لكنَّ حدس جدِّي سمعان لم يسعفه ليعرفَ لاحقًا، أنَّ هذا الطَّنيب هو دخيل من ايتام واحفاد امِّ عامر!

وسيأتي حديثي عن قصَّة أمِّ عامر والإعرابيِّ لاحقًا..

وتصبو حيفا لعُشَّاقها الذين ما برحوا يتوقون للعودة ويعملون على تنفيذ حقِّ العودة، التي طال بُعدُها وطال فُراق الغُيَّاب والأحباب والأتراب، الذين ما انفكُّوا يحلمون برجوعهم لَّلهوِ في موارِسها واللعبِ في ملاعبِها وقطفِ زهورِ وورودِ مروجِها وساحاتِها ولقاءِ الاحبَّة في باحاتِها والاستجمامِ والاستحمامِ في شواطئها ويعلمون أنَّ “بَعْضِ العِشْقِ ذبَّاحُ”، ولا يسألون عن ثمنٍ، فكلُّ الأثمان زهيدةٌ ورخيصةٌ..

“بِعنا لـهُ يـومَ المِحَـنْ أرواحَـنـا بِـلا ثـمـنْ”

فما أجمل هذا العِشق، فلا غالٍ يقف أمام هذا الغالي..

“ولَو شرَّحْتُم جَسَدِي لَسَالَ مِنْهُ عَنَاقِيدٌ وَتُفَّاحُ”

“وَلِو فَتَحْتُم شَرَايِيني بِمِدْيَتِكُم سَمِعْتُم في دَمِي أَصْوَاتَ مَنْ رَاحُوا”

هل يسمعُ الذين راحوا ورُحِّلوا وطُرِدوا من الوطن أصواتنا، كما نسمع نحن، أصوات من راحوا.

تُرى هل سيعودُ عمَّال القطارات لترميم سكَّة درعا وسكَّة الحجاز أو خطِّ حيفا بيروت وهل سيعود إميل البوتاجي وشقيقاه ثيوفيل ووليم  إلى تلِّ السَّمك، أو إلى شاطئ البوتاجي، ليجلسوا في عليَّته فوق البحر، بعد أن أقاموا غرفتين على أربعة أعمدة من الحديد والخشب غُرِزت داخل البحر، ليخدمَ الزَّائرين، لتبديل الملابس بأخرى للسِّباحة، ومن تلك الغرف كانوا يقفزون مباشرة الى اليمِّ للسِّباحة، فيجلس أحد الإخوة يراقب البحرَ والصَّيَّادين العائدين بصيدهم الوافر والمستجمِّين العائدين مع أمواج البحر، وآخر يراقب سلامة روَّاد البحر، منقذ، فقد نال اميل رتبة البكويَّة عام الفٍ وتسعمائة وسبعة وعشرين من الأمير عبد الله في شرقيِّ نهر الأردن، حيث قال فيه د. قيصر خوري بعد أن نال لقب البيك:

حصَّلتَه عفوًا بغير دعايةٍ إنَّ الكفاءة شُهرةٌ ودليلُ

فاليومُ بيكٌ يا إميل وفي غدٍ باشا وربُّك بالنَّجاح كفيلُ

ويحدِّثني والدي عن غزارة الصَّيدِ هناك وعن الثَّروة السَّمكيَّة الوفيرة لهذا الشَّاطئ، حيث أنَّه سُمِّيَ بتلِّ السَّمك لوفرة الأسماك فيه، إسمهُ معُهُ، من سمك الحدَّاد والمسقار وسلطان ابراهيم والجَّربيدن واللقوس والبوري، “وما شاء الله ع السَّمك عفي ومبارك بِشبع”، ولخيرها الدَّافق والدَّافئ على الصَّيَّادين، واذا كان أوَّل الصَّيد سمكة عرَيْسي (وهي سمكة جميلة بألوانها البهيَّة الجميلة، ولكنَّها لا تؤكل)، “ضُب عدَّة الصَّيد يا ولد فش صيد سمك اليوم”..

لكن ما أكثر هبات ربِّ العباد على العباد في هذا الشَّاطئ وما أكثر “سلاطعينه وأخطبوطاته وأصدافه” وما أكبرها وما اشهاها، زد على ذلك كثرة وفرة الأصداف البحريَّة التي كانت تؤكل نيئةً بدون طهيٍ كالتُّوتياء والبطليمس والصَّدف البحريِّ وحلزون البحر، وأذكر كيف كان والدي يغطس تحت الماء بحماسٍ ويُفتِّشُ لنا عن الأصداف ويُطعِمنا أيَّاها، طازجةً، من البحرِ، من اليمِّ إلى الفمِ، كما كان يعمل والده معه..

لا ننسى ولن ننسى..

هل سيجد أبو نصُّور مكانًا لجلوسِهِ ليُدخِّن نرجيلتَه على شاطئهِ الشَّعبيِّ مع كأس شايٍ أو كأس من حليب السِّباع، قربَ مستشفى حمزة الحكوميِّ ينظُرُ إلى الأفق البعيد الذي يخبِّئ له عجائبَ العجائبِ وينتظرُ عودةَ المراكبِ والفُلُكِ، ويعودُ نعيمُ العسل إلى تجارته في حانوته في منطقة السُّوق الأبيض مقابل الجامع الكبير، ساحة الجرينة، حيث كنتَ تجد عنده ما شئت من المشروبات الرُّوحيَّة، من العرَق إلى الورَق ومن العَلَقة إلى المرقة ومن الحامض إلى الحلو، ومن الإبرة حتَّى الوِزرة، ومن العجينة إلى الماكينة “بس أطلب وتمنَّى”، ولديه أعشاب طبيَّة، دواء لكلِّ داء ووباء، لديه كلُّ شيئ، “فش إشي اسمو عندو فش عندي”، كل إشي عندو!

وهل سيعود أبو معروف! إلى حانوته في شوق الشوام، “العشرة بقرش”، الواقعة في حارة الكنائس، بعد أن يستحمَّ في حمام الباشا، حيث كنتَ تشتري عشرة أغراضٍ بقرشٍ واحدٍ، “يا الله العشرة بقرش، قرِّب قرِّب قرِّب”..

وهل سيعود أبو غالامبو، السُّودانيُّ الأصل، بينما يذكره البعض بأبي جميلة، أو انَّهما شخصان كلُّ واحد باسمه، ابو غالامبو وأبو جميلة، ليرقُصَ بلباسه “ودناديشه” التي كانت من “كراعين” الماعز وأجراسِ المواشي، في ساحة الحناطير، وينادي بأعلى صوته يا الله دندر البوظة (الدندرمة) يا سعيدة، التي كان يبيعُها أبو محمود في شارع يافا مقابل سينما الأمين الصَّيفيَّة، بجانب مقبرة الرُّوم الكاثوليك، حيث كان يُعَلِّقُ كتلة البوظة المليئة بالمُستكة والفستق الحلبيِّ واللوز، على “الكُلاّبة”، “شنكل البوظة يا ابو محمود”، إرفعها وعلِّقها، ويقتطع منها أجزاءً لبيعها في كأسٍ أو في قطعة من البسكويت وهو يُنادي “حليب وإيما يا بوظة ثلاثة أشكال الفوركيتا”، (يقول والدي أنَّ الفوركيتا، فرقاطة، هي العربة التي كان يستعملها في بيع بوظته في الحارات وكانت على شكل فُلُك ملوَّن بألوان زهيَّة وزاهية ومزركش بدُمى وألعاب)، ويُنادي “قرِّب يا الله بورد بورد بورد”..

وهل سيعودُ الغجرُ لبرامجهم التَّرفيهيَّة أيَّامَ الأعيادِ والمناسبات الجميلة، حيث كانوا ينصبون خيمهم وأراجيحهم ويعرضون حيواناتهم، من كلاب وسعادين وقطط وغيرها، التي كانت تُشاركهم العابهم البهلوانيَّة، وهل سيعود ذلك الأرمنيُّ إلى ساحة الخمرة ليبيع وابنته أقراص الكبَّة المقليَّة والكعك المقرمش بالسِّمسم مع حفنة من الزَّعتر للعمَّال والبائعين المتجوِّلين والحمَّالين..

(نتواصل إنتظروا وشكرًا)..

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .