حيفا في ذاكرة برهوم، كي لا تُنسى.. د. خالد تركي ـ حيفا

(الحلقة التَّاسعة)

 

كبُرت حيفا واتَّسعت باتِّجاه الجهات الأربع، كبُرت ببناء محطَّة الحديد الحجازيَّة، فوادي الصَّليب، منطقة جامع الاستقلال، والجامع الصَّغير أو جامع الظَّاهر عمر، وجامع الجرينة بمئذنته وبرج السَّاعة لاحقًا، وجامع الحاج عبد الله ابو يونس (الحلِّيصة)، وحارة الكنائس حيث شملت كنيسة السَّيِّدة، كنيسة الرُّوم الأرثوذكس (كنيسة مار الياس) وكنيسة مريم العذراء للاتين، للآباء الكرمليِّين، وكنيسة مار لويس المارونيَّة، وكنيسة الأرمن وكُنس يهوديَّة في أماكن سُكناهم في منطقة الهدار ووادي رشميا، وكبُرت حيفا بأحيائها وأهلها وناسها في مناطقها التي توسَّعت شرقًا وغربًا شمالاً وجنوبًا وكبُرت بضواحيها العديدة، وادي الجمال، ووادي النِّسناس، والحلِّيصة، وأرض البلان ومنطقة عبَّاس وحارة الزَّيتون، والموارس..

حيث كانت منطقة الموارس، منطقة ملاعب كرة القدم التَّابعة لفريق نادي شباب التَّرَسانة العربيِّ وفريق نادي الشَّباب العرب (بطل فلسطين، حيث كان سكرتير النَّادي السَّيِّد اسكندر غمَّاشي) ويذكر والدي حارس مرماه اسادور الأرمني وكلاً من المدافعين فيه نديم شربين وجبرا الزَّرقا وسعيد شحادة ويُردِّد والدي من ذاكرته صيحات المشجِّعين “يا الله يا نادي بِدنا غول رُدِّ الضَّربة على الغول” أو يا الله نادي فيها ردِّي عن الغول”، والظَّاهر أنَّ عائلة الزَّرقا كانت لها الحصَّة الكبيرة في هذا الفريق فمنهم حبيب وشاهين وجبرا، زد على ذلك باقي اسماء أعضاء الفريق بين إدارة ولاعبين وهم سعيد حويلة، حنَّا بطرس، فوزي منصور وعبد خضراوي، طوني قسِّيس، ثيودور برامكي، ميشيل مجدلاني، ميشيل الطَّويل، بشَّار دردس، سليم جدع، فضيل دردس، صبحي الزَّهر وسهيل بيراخ (كما جاء في مقابلة الأستاذ الصَّحفي رزق ساحوري، مع اللاعب سعيد شحادة، في حيفا، في صحيفة أخبار المدينة، العدد الواحد والأربعون، السَّنة الأولى، في التَّاسع من أيلول من العام ألفين وخمسة)، وكذلك كان في منطقة الموارس ملاعب لفريق النَّادي الرِّياضي الإسلاميِّ ومن لاعبيه كان جورج مارديني ونسيم أسعد وحسن تفَّاحة ( وأذكر أنَّه في دراستي الابتدائية كانت تُعلِّمني الأستاذة أنيسة تُفَّاحة، معلَّمة اللغة العربيَّة، فهل تقربه؟ ليتني سألتها، لكنَّني حينها لم أعرفه ولم يُحكَ لي عن اللاعب حسن تُفَّاحة) وملعب فريق نادي الأرمن “الهومينتمن”، ونادي الرِّياضي الأهلي، المنتسب إلى اتحاد نقابات وجمعيَّات العمَّال العرب في حيفا وكان لاعبو هذه الفرق من جميع أطياف سكَّان البلد فمنهم المسلمون والمسيحيُّون من العرب والأرمن والسِّريان والآشوريِّين والكلدان وغيرهم من الذين سكن المدينة، ويذكر والدي من حكَّام المباريات سبيرو اقديس (مندوب النَّادي الأرثوذكسيِّ في حيفا) وجوزيف سلامة وخليل سعادة ..

أمَّا منطقة شرق حيفا فكانت تعجُّ بالأسواق، سوق الشوام حيث كان موقعه في منطقة حمَّام الباشا، (كان تجَّاره من الشَّام) حيث كانت تُباع فيه افخر الأقمشة والأثاث والحاجيَّات البيتيَّة الشَّاميَّة على مختلف أصنافها وأنواعها، وكلُّ ما تحتاجه العائلات لتجهيز العرائس، وسوق الجرينة في ساحة الجرينة مقابل جامع النَّصر أو الكبير (جامع الجرينة) حيث كانت تُباع جميع أنواع الحبوب والقمح والبقوليَّات المختلفة، وبجانبه كان سوق لبيع السَّمك والحسبة، والسُّوق الأبيض، قرب ساحة الخمرة، حيث كنت تجد هناك الحلويَّات على أنواعها والمصنوعات الجلديَّة، والتُّحف، وقد اشتهرت فيه دكان نعيم العسل، وقصَّ لنا الرَّفيق وديع توفيق الخوري، أبو عايد، من قرية إعبلِّين، الواقعة في منطقة الجليل الغربيِّ، قبل وفاته أنَّه سكن مدينة حيفا: “..حتّى لا أُسافر يوميًّا لقريتي إعبلِّين، سكنتُ مدينة حيفا بعد أن استأجرتُ غرفة في شارع ستانتون وسكنتُ مع أربعة عمَّال، حيث كنتُ أشتري زجاجة الكاز من دكان نعيم العسل، الواقعة في منطقة السُّوق الأبيض، لإضاءة الغرفة حتَّى يتسنَّى لي قراءة كتبي المدرسيَّة وكتابة وتحضير الوظائف البيتيَّة”.

تقع منطقة وادي الصليب، حيفا، ما بين أرض البلان (منطقة جامع الاستقلال) من الشَّرق، ومنطقة البرج من الغرب، محطَّة سكَّة الحديد الحجازيَّة من الشَّمال، ومن الجنوب تقع منطقة الهدار والكرمل. حيث بدأت حركة البناء في هذه المنطقة عام الفٍ وتسعمائة وثلاثة، عندما بدأ العثمانيُّون ببناء سكَّة الحديد الحجازيَّة (سكَّة حديد دمشق-درعا-حيفا)، لتسهيل سفر الحجَّاج إلى مكَّة المكرَّمة والمدينة المنوَّرة لأداء فريضة الحجِّ والعمرة وزيارة الدِّيار المقدَّسة في بلاد الحجاز، من أقاليم الشَّاطئ الشَّاميِّ وتركيا، حيث بدأت هجرة العمَّال من كلِّ حدب وصوب من جميع مناطق فلسطين وسوريا ولبنان إلى حيفا، في بداية القرن العشرين، زد على ذلك حاجة بناء الميناء للأيدي العاملة وحاجة مصانع تكرير النَّفط “الرِّيفاينري” للعمَّال، فكما هو معروف أنَّ الميناء قريب من منطقة وادي الصَّليب، وحاجة المنطقة للعمَّال لنقل بضائع الاستيراد والتَّصدير، من المرفأ للسَّفينة ومن السَّفينة للمرفأ، حيث ارادت بريطانيا لهذه المدينة ان تكون حلقة الوصل بينها وبين شرق آسيا مرورًا بالمشَّرق العربيِّ، وكانت حيفا مركز المسار المستقيم الذي يصل بريطانيا بالشَّرق الأوسط والشَّرق الأقصى إلى ما بعد الهند، وأصبحت حيفا كذلك متنفَّس بلاد الشَّام إلى البحر، بأقاليمها العراق وشرق الأردن وحلقة وصله مع القارَّة الأوروبيَّة، كذلك بناء مطار في حيفا زاد من الهجرة العمَّاليَّة إليها، حيث بوشر بالتَّفكير في بناء المطار في الثَّلاثين من القرن المنصرم، إذ أنَّ الحكومة البريطانيَّة، التي أرادت لمطار حيفا أن يكون نقطة مركزيَّة بين مواصلاتها مع الشَّرق الأوسط والأقصى، والحركة الصَّهيونيَّة التي جفَّفت من الأراضي التي كانت تحت سيطرتها لصالح المطار، لذلك فقد سيطرتا على هذا المشروع سيطرةً تامَّةً..

لقد زاحمت حيفا بيروت في تلك الفترة، كما جاء في صحف تلك الفترة..

لقد ترك جدِّي سمعان، الذي كان “فراري” ايَّام السَّفَر برلك، البلدة، بعد سقوط دولة بني عُثمان واستلام بريطانيا أمور البلاد، وزوجته صديقة وابنه البكر داود الى المدينة في السَّنة الثَّانية من العِقد الثَّالث من القرن المنصرف، طلبًا للعمل، لقد هاجر اليها قسرًا وهروبًا من شظف العيش والعوز والفقر والفاقة، بعد سنوات عجاف عديدة ومتتالية، بحثًا عن مصدر رزقٍ يعيل به عائلته ويسدُّ حاجتهم اليوميَّة، حيث وجد نفسه يعمل في الصِّيانة في ميناء المدينة تارةً وعاملاً في البلدية تارة أخرى، أو في أيِّ عمل آخر يُطلب منه أو يحتاجون خدماته في المرفأ، مثل نقل البضائع من العربات الشَّاحنة والمَركبات إلى السَّفينة أو من السَّفينة إلى المَركبات، أو يعمل في بناء بعض أرصفة المرفأ أو في ترميمها أو في طلاء القار الحار على جدران السُّفن الخارجيَّة، لتحميها من ملوحة مياه البحر وتتقيها من الصَّدأ..

لقد كانت حياة المدينة اسهل من حياة القرية، ففيها مركز حاكم اللواء، ودائرة الاشغال العامَّة، ومراكز للمواصلات والتِّجارة للتَّصدير والاستيراد والسَّفر والنَّقل، برِّيَّة وبحريَّة، ميناء بحري ومركز السِّكك الحديديَّة، واذا اردت مثلاً السَّفر من حيفا الى يافا فذلك يكون إمَّا عن طريق سكَّة الحديد أو عن طريق البحر او عن طريق اليابسة، جنين فطولكرم فقلقيلية فيافا، زد على ذلك انَّ المدينة ازدهرت بوجود مصانع تكرير النَّفط، ومصنع السَّجائر والتَّنك وشركة النُّور للكبريت والمطحنة وازدهرت كذلك بأعمال البحر (صيد السَّمك وشواطئ استجمام وسياحة).

لقد اختلط جدِّي سمعان مع غالبيَّة عمَّال الميناء، على اختلاف انتماءاتهم الإثنيَّة والقوميَّة والدِّينيَّة والمذهبيَّة، وعلى اختلاف العادات والتَّقاليد والمستوى الحضاريِّ، لكنَّ الغالبية السَّاحقة  كانت من العرب واليهود، ويتحدَّثون فيما بينهم بالعربيَّة، وبدأ يسمع منهم، ما يشعره  وما تحسُّ به نفسه، وما يشعره على جلدِهِ، عن ظلم وقهر أصحاب رؤوس الأموال من مسؤولي الشَّركات  والمقاولين من يهود وعرب، وعن مستوردي البضائع ومصدِّريها، حيث كان همُّهم ذاتَهم وربحَهم ومصلحتَهم ومن بعدهم الطُّوفان، لتَفنى الدُّنيا، وما جال في بال عمَّال الميناء كيف عليهم، أن يبيعوا، يوميًّا، قوَّة زنودهم وعرق جسمهم وطاقتهم وعضلاتهم وتعبهم ودمهم مقابل حفنة من المال لا تكاد تكفي كفاف يومهم، فهل يستطيع أن يُعيل عائلته التي تنتظره، على أحرِّ من الجمر، ليُحضِر لها لُقمة العيش..

“كل من ع دينو الله يعينو”، “كل من ع قوميتو الله يكون بِمعِيْتو”، وقد جاء في   الحديث الشَّريف “النَّاس سواسية كأسنان المشط وإنَّما يتفاضلون بالعافية..”، وجدهم “اخوة له في الإنسانيَّة”، وانَّ سيف الظَّالم فوق نحورهم جميعًا، لذلك فوحدتهم كقوَّة عاملة مهمَّة جدًّا وناجعة ولها ثِقلها النِّقابي والتَّنظيمي، ومهمَّتها العمل المشترك والتَّنسيق المشترك، ما دام هناك مجالس عمَّال وفلاحين تُدير شؤون العمل في الدَّولة..

لقد كان العمل صعبًا ومرهِقًا ومضنيًا، إذ كان يعمل خمسة وعشرين يومًا في الشَّهر، اثنتا عشرة الى اربع عشرة ساعةً يوميًّا، مقابل اربعة قروش في اليوم، بدون تأمين صحِّيٍّ أو تعويض عند اصابة عمل او طرد من العمل، فإن مات العامل ماتت عائلته معه جوعًا، وبقيت دون مُعيل، وما ان ينتهي يوم العمل حتَّى تكون روح العامل قد انتهت تعبًا وارهاقًا، يخلد من بعدها إلى الرَّاحة والنَّوم على أن يتهيَّأ إلى يوم عملٍ جديدٍ، مُتعبٍ ومُضنٍ، في الغد!

وأيقنوا حينها أنَّ خلاصهم هو بتنظيم عمَّاليٍّ قويٍّ يواجهون من خلاله ظلم المُتعهِّد، المقاول، الذي يُحاول تفريق قوَّة العمَّال والقوى العاملة بحسب انتماءاتهم الدِّينيَّة والمذهبيَّة، وتوجيه الصِّراع على أنَّه على اساسٍ قوميٍّ، يقول والدي:

كانت “الهستدروت” منذُ إقامتها، في العام عشرين من القرن العشرين، منظَّمة للعمَّال العبريِّين، تنظيمًا مُعاديًا للعمَّال العرب في فلسطين، أصحاب الأرض الحقيقيِّين، ونجحت في نصب الشَّرك والشَّرخ بين العُمَّال العرب واليهود، الذين كانت لهم قضايا وهموم مشتركة ونضال مُشترك كقضيَّة سكك الحديد والميناء والبناء، كذلك كانت قضاياهم مشتركة في باقي المصانع. وعلى ضوء المُمارسات الصُّهيونيَّة ضدَّ العمَّال العرب، من قِبَل “الهستدروت”،  أُقيمت “جمعيَّة العمَّال العرب” رسميًّا في فلسطين في العام ثلاثة وعشرين من القرن الغابر، وكان للشُّيوعيِّين دورٌ مركزيٌّ هامٌّ وكبيرٌ في النِّضال من أجل حقوق العمَّال والفلاحين على اختلاف انتماءاتهم القوميَّة، وكذلك كان همُّهم التَّصدِّي لعملية التَّشريد والقتل والتَّجويع والتَّخويف واحتلال الأرض، والصُّمود فوق تراب الوطن، الذي ليس لنا وطنٌ سواه.

مثالاً على ذلك، لا حصرًا بين قوسين: في العاشر من شهر كانون أوَّل من العام الفٍ  وتسعمائة وسبعة وأربعين نقلَ مساعدو بن غوريون المتخصِّصين في الشُّؤون العربيَّة عزرا دانين ويشوع بلمون تقريرهم حول الوضع في حيفا وأكَّدوا له أنَّ عمليات عسكريَّة من قِبل الهاجَنا في مراكز احتشاد السُّكَّان العرب سيؤدِّي إلى هروب جماعيٍّ للمواطنين العرب. فنقلوا له أنَّه بعد عمليَّات الهاجَنا في وادي روشميا في حيفا، هرب السُّكَّان إلى جنين وإلى نابلس وقد أُفرِغ حيُّ وادي روشميا من سُكَّانه. ودعا دانين إلى ضرب العرب بقوَّة وإلى إيقاع ضحايا كثيرة بينهم وأمَّا بلمون فقال إنَّ العرب سيتركون حيفا ويافا لافتقارهم إلى مؤونة. وهكذا أُقِرَّ نهج القصف لإحداث الأضرار والجوع كوسيلة للتَّخلُّص من العرب (7).

(نتواصل، انتظروا وشكرًا)

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .