جيش الإنقاذ وظلم ذوي القربى! تقديم: أ.د. إبراهيم طه* سعيد نفاع آخر الباحثين عن الوعي الضائع

 

قرأت الكتاب مرّة ونصف. كانت المرّة الأولى بطيئة متهادية ومركّبة، قراءة جاهل يسعى إلى المعرفة، وقراءة عارف يريد أن يعلم أي يتحقّق من المعرفة بالعلم. وكانت نصف المرّة قراءة من أراد لقلبه أن يطمئنّ فانتقى من الكتاب بعضه.

هي مرافعة من مبدئها حتى منتهاها. مرافعة طويلة ومتأنّية، ماضية وحادّة، صدامية دموية. تشنّ حربًا على وهم النقل “المحايد”. وهمٌ يتبخّر في عنوان الكتاب مباشرة بقوّة الشكوى التي بثّها طرفة بن العبد قبل قرون. فحين يخاطبنا العنوان بلغة مسحوبة من قاموس الظلم، ظلم ذوي القربى على وجه الخصوص، يدرك القارئ أنّ النقاش في سياق الكتاب لن يكون عذريًا رخوًا. رغم ذلك، لم يُكتب للمناكدة، النكد والنكد المضادّ، لأنه قبلا وبعدًا يمقت التمسّح بالنظريات الفوقية. فالكتاب مكتوب بحسّ الباحث الفطري عن الحقيقة. لا تشغله المناكفات ولا يبتغي منه أجرًا ولا شهرة ولا يسعى إلى درجة أكاديمية أو مرتبة مجتمعية. وإذا كان منزّهًا عن الأجر متحللا من أسباب المنفعة الذاتية أكان يفزع من “الباحثين الكبار” ويخشى نِقمتهم؟!

 

المؤرّخ المدبلم والمقتحم: “بات على غيظ ولا تبات على ندامة”

يقول نفّاع: “دور المؤرّخ “المُدبلم” ليس فقط التوثيق والنقل وإنّما محاولة الوصول إلى ما لا يروقه وبالذات عند الطرف الذي ينتمي إليه. ودور المؤرّخ “المُقتحم” المعنّي مثلي يحدوه إلى ولوج هذا المجال نقصٌ عند مؤرّخينا المؤرّخين، فيرمي بصنّارته علّها تمسك ببعض سمك حتّى لو كان من “البيرانا”، فأفضل ألف مرّة أن نضع على موائدنا بيرانا من أن نضع السلمون العائد المُنهك إلى أعالي الأنهار، وليُحَكّم لاحقًا كلّ ذائقته لا ذوقه!”

سعيد نفاع محتقن بالرغبة المحمومة في البحث عن الحقيقة البكر. يحبّ المبيت على غيظ ويكره المبيت على ندامة. وأنا مثله. سعيد نفاع يعرف الأرقام والبعضيّات، وهو يقدّمها من مصادرها الأولى والأخيرة، لكنه يريد أن يعلم الكليّات لعله يصل منها إلى الحقائق ومنها إلى الحقّ. غير أنّ مهمّتي أسهل بكثير. هو يحقّها إحقاقًا وأنا أوصّفها توصيفًا. قرأت الكتاب، أول ما قرأته، بشيء من التوجّس وبعض التردّد. فأنا غير معتاد على تظهير كتب التاريخ ولا السياسة ولا الثقافة السياسية. يكفيني الكار الذي أنا فيه. غير أن هواجسي اضمحلّت بعد أن وجدته سردًا، والسرديّات صنعتي. لست مؤرخًا لا بالفعل ولا بالامتهان، لكني أحبّ التاريخ لأنه سرد، ولأنه سرد فهو فعل ديمومة. وأنا آكل خبزي وأطعم أسرتي من السرديّات أصلا وقبلا. سعيد نفاع مؤرّخ وسياسي وأديب. وهو يكتب التاريخ كسرد ويكتب السرد كذاكرة دلالية (سيميائية). هكذا هو في تأريخه وفي أدبه عميل مزدوج… وسأعود إلى هذه العِمالة لاحقًا.

أسّس سعيد نفاع كتابه جيّدًا، كمؤرّخ مدبلم ومقتحم، وسوّى له خريطة هيكلية عامة من أربعة خطوط عرض وطول مأنوسة غير غريبة على الأدبيات الأكاديمية: (1) التقديم، (2) العموميات – القضايا العامة، (3) الخصوصيات – القضايا العينية الخاصة، (4) الاستنتاجات والإقفال النهائي… وهذه الخطوط الأربعة تتوازى وتتقاطع مع خمس أدوات بحثية تشكّل في مجمل نشاطها الخريطةَ التفصيلية الإجرائية للكتاب: (1) النقل الدقيق والاستعانة بالمصادر المتاحة والاقتباس المباشر منها، (2) التنويع في هذه المصادر على مستوى اللغات، الزمن، الانتماء القومي والمذهبي والحزبي، (3) المقارنات بين المصادر المختلفة وبين المواقع المختلفة في المصدر الواحد نفسه، وبين المراجع المختلفة للكاتب عينه، (4) المساءلات والمحاسبات على مستوى المعطيات والحقائق التاريخية نفسها، وعلى مستوى تحليلها وتقييمها، (5) المقارعات على مستوى أدوات الخطاب المباشر لإرباك الخصم والإخلال بتوازناته.

كلّ الكتاب، بخريطتيه الهيكلية والتفصيلية، مشغول بالتأريخ لا بالتاريخ نفسه لأنّ الثورة فيه جاءت لأجل التثوير. ما يعني أنه لا ينتصر للحقيقة التاريخية إلا من أجل الحقّ العام. وأول مادّة الحقّ العام هو الوعي العام. وحتى ينتصر للحقّ العام كان عليه أن يلغي التعاقد المألوف مع الرواية الجاهزة و”الحقيقة” المستكتبة. ولن يتحصّل له ذلك حتى يمحو من قاموسه البحثي مفهومين اثنين مزدوجين بالترادف: (1) التتبيع والتطبيع، (2) التأتأة والطأطأة. لم يُتبّع سعيد نفاع وراء “المؤرّخين” على اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم ولم يطبّع معهم في روايتهم حول جيش الإنقاذ. سعيد نفاع ينقل القارئ من حالة التتبيع والتطبيع، وهي حالة عقم في منحاها العام، إلى حالة التوقيع على الحقّ وهي حالة تناسل. وهذا كله لأنه لا يؤثر الندامة على الغيظ. ولأنه لا يتأتئ ولا يطأطئ ولا يكظم غيظه فقد أغاظ كثيرين. وويلٌ لباحثٍ لا يتقن فنّ الإغاظة!

 

المواجهة على جبهتين: “سِير الْتفْ ع مداس”

يلحّ سعيد نفاع علينا في قول الحقّ كشرط قبلي للانتقال من خطاب النكبة إلى خطاب النصرة. فكان لا بدّ أن يحاور ويقارع ويسائل ويحاجج. يؤمن سعيد نفاع أنّ نصف العدالة أسوأ من الظلم ونصف الحقيقة أسوأ من الباطل، فحاور بعلميةٍ مبيّنة الأكاديميَ التقدّمي إيلان بابه. وهاجم بعنف ظاهر العميل محمد الهواري. وواجه بصدق صريح الشيوعيين إميل توما (من عصبة التحرر الوطني-الشيوعيين العرب والحزب الشيوعي لاحقًا) وكمال غطاس ونمر مرقس وعادل أبو الهيجاء، ومن القوميين العرب تميم منصور.. نعم، “دود الجبن مِنّو وفيه”، لكنّ سعيد نفاع رفضي مشاكس في هذا الكتاب الجريء، لا يستحي من أحد حين يتّصل الأمر بالحقيقة والحقّ حتى وإن كان الدود من ذات الجبن. بعض هؤلاء الذين يواجههم سعيد نفاع يجهل الحقيقة فينقلها كالببغاء، وبعضهم يشوّهها بالقصد الخبيث. لكنّ النتائج تلتقي في المحصّلة الأخيرة.

علّمونا أنّ “سيف الأهل من خشب” لا يقطع ولا يُدمي لأنّ الأهل والقربى لا يجرّدون سيفًا على بعضهم بعضًا.  لكنّ سيفهم هذه المرّة كان من الفولاذ القاطع. الحقيقة المرّة أنّ الذين ساهموا في تعزيز الرواية المثبّطة والمعوّقة عن جيش الإنقاذ لم يخرجوا من داخل الأمة نفسها فحسب، بل هم تقاطروا شعثًا غبرًا من كلّ فجّ. وحين تكون المواجهة على جبهتين من الداخل والخارج ويلتفّ “السير على المداس” تكون المواجهة دموية.

يهاجم سعيد نفاع الكتابة الهلامية اللزجة الناتجة بالأساس عن فقدان المناعة الأخلاقية والعلمية. فهمت من هجومه أنّ بعض “الباحثين”، من العرب عامة والفلسطينيين خاصة، الذين عاينوا هذه المسألة كانوا من الناقلين الببغاوات، الذين يثرثرون ويهذرون بغير رصيد حميد نرجوه. ولا بدّ من التأكيد أنّ معيار الحساب وضابطه، عند سعيد نفاع في هذا الكتاب، هو النتائج لا النوايا. ومن منّا لا يعلم أنّ جهنم مليئة بالنوايا الحسنة؟! اتقوا الله، يقول سعيد نفاع بلغته الشنفرية الصارمة، واتقوا تاريخكم وحاضركم ومستقبلكم فيما تنقلون وتقولون وأنتم لا تعلمون.

ولما كانت الأنظمة العربية “واطية بتشرب ميّتها وميّة غيرها” وتستكتب الخطاب الذي ترتئيه، فكيف لا يكون الخطاب المتراكم نكبويًا بعد كلّ ذلك؟

الطامة الكبرى أنّ الثقافة النكبوية هي من أشكال احتراف التوجّع لا الوجع. والفرق بينهما معلوم. لم يأت الكتاب ليصحّح انزلاقات نصّية تاريخية هنا وهناك، بل جاء ليؤسّس لخطاب بديل يتحلّل فيه من ثوب الضحية وما يوفّره من حماية مَرَضية وهمية. الجَلد الدموي للذات هو أول شروط هذا الخطاب. ولا بأس “فآخر الدوا الكي”، وكلّ مرض خبيث يحتاج إلى دواء مرّ. الخطاب التاريخي الحاضر هو ترانيم جنائزية نكبوية فيها كثير من ملامح الولولة واللطم. وبعض الروايات التي ينقلها نفاع في هذا الخطاب لا تخلو من خسّة ووضاعة. بعضها لا كلّها. على العموم، يشير سعيد نفاع إلى نسق نقلي تنبني عليه ثقافتنا المعاصرة بصفة عامة. وحين يحلّ النقل محلّ العقل في أيّ خطاب فلا عجب أن تصير الثقافة العامة نكبوية نحرّر بها أنفسنا من فعل المحاسبة. فالمنكوب يحتمي بالنكبة لتجعله ضحية معقّمة محصّنة ضدّ الحساب ومحرّمة على العقاب. فيأتي سعيد نفاع ليجتاح تخوم الخطاب المتراكم برؤية نافذة ثاقبة وكتابة نقدية مقامها وقوامها العقل. وحين يصير النقد عقليًا والعقل نقديًا عندها فقط يمكننا الخروج من دائرة الخطاب النكبوي.

 

المعركة والحرب: الجغرافيا والوعي

ويقول: “المعارك تغيّر جغرافيا أحيانًا ولكنها لا تغيّر وعيًا، والحروب قد تغيّر جغرافيا وقد تغيّر وعيّا، فإن غيّرت جغرافيا دون أن تغيّر وعيًا فهي معركة أخرى وإن كانت أكبر حجما ومكانا من المعارك العاديّة، وأبعد ما تكون عن الانتصار. الانتصار في الحرب هو ذاك الذي يغيّر وعيا ساد حتّى لو لم يغيّر في الجغرافيا، الحرب العالميّة الثانيّة في العصر الحديث مثلا.

أدّعي وأنا “المؤرّخ المُقتحم”، إنّ حرب ال-48 أو النكبة في المصطلح الفلسطينيّ أو حتّى الاستقلال في المصطلح الصهيونيّ، يجب أن تًقرأ بالمنظور أعلاه ومن خلاله تُقيّم”.

مات الكثيرون في المعارك باسمنا وعنّا وعندنا من جيش الإنقاذ، وما كنا على إنقاذهم قادرين ولا حتى من ألسنتنا السليطة.  و”موت الخيل الأصيلة فرج للكلاب”. خسرنا المعركة لأنها غيّرت الجغرافيا في غير صالحنا وخسرنا الحرب لأنها كرّست وعي الهزيمة والانتكاب. على العموم، كلّ شكل وكلّ نصّ هو نظام تشفير بالضرورة مثلما يقول شولز. وهنا سيميائيته. وإن كان سيميائيًا فلا بدّ من الحديث عن طرفين لمعادلة أو دالّة واحدة: ظاهر وباطن، بلغة البنيويين، فوقي وتحتي. النصّ الظاهر الفوقي هو التاريخ والنصّ الباطن التحتي هو الوعي العام. الأول مشوّه والثاني غائب، غائب على مستوى الحقيقة وظاهر على مستوى النصّ.

ومن قلب هذه الحالة الغرائبية العجائبية يجتهد سعيد نفاع في النهوض من قلب الرماد. ويؤمن أنّ الثقافة هي مدوّنة ماضوية في الأصل. ما يعني أنها فعل تراكمي لا ينشغل بلحظة ظهوره بل يدوّن كلّ ما يفرزه الماضي ويركمه فوق بعضه. غير أنها بهذا التعريف الماضوي تسعى إلى تنظيم العالم حول الإنسانية بنيويًا وسيميائيًا على حدّ سواء. وبهذا الادّعاء صدق لوتمان وأوسبنسكي. فالضوابط البنيوية للثقافة تصير بالممارسة فعلا دلاليًا (سيميائيًا) يضبط حركة الناس في لحظة مستقبلية.

من هنا بالضبط ينظر سعيد نفاع إلى ثقافتنا التاريخية على العموم، وفي مسألة جيش الإنقاذ على الخصوص، على أنها حزمة من الأنساق التي تتحكّم في أخلاقياتنا الحاضرة وسلوكيّاتنا المستقبلية. وهكذا لا يسعى الكتاب المطروح، في المحصلة الأخيرة، إلى إنصاف التاريخ كفعل ماضٍ، وإنما يهدف إلى تغيير صيغته كفعل تسويفي مستقبلي. وقصّة جيش الإنقاذ مثال موفّق على ذلك. ليس هذا البحث المتعوب عليه كتابًا في فنّ المديح. فالكتاب لا يسعى إلى منح وسام البطولة لجيش الإنقاذ بقدر ما يسعى إلى تغيير وعينا وتشكيله من جديد. الكتاب منظومة سيميائية متكاملة يعيد فيه صاحبه صياغة التاريخ لأجل صياغة الوعي من جديد. وكعميل مزدوج يعمل سعيد نفاع لصالح النصّ ولصالح القارئ بالتتابع، مثلما يعمل لصالح الواقع وصالح الوعي بالتتابع أيضًا. وإذا كان الكتاب، على نحو ما قدّمنا، منظومة تشفيرية سيميائية فهو ليس في المعلومة أو المعرفة نفسها بل في سبل التعرّف إليها (Not Knowledge but Knowing). وإذا كان كذلك فهو ليس في التاريخ إذًا بقدر ما هو في التأريخ كفعل سياسي.

قرأت الكتاب مرّة ونصف لأنّ سعيد نفاع كتبه مرّة ونصف. في المرّة الأولى أثرانا بالمعرفة، معرفة الأرقام والحدود والإحداثيّات والمعطيات من مصادرها المختلفة، ثمّ ثبّت المعرفة بروح العلم وما يتطلّبه من مساءلات عميقة ومقارنات دقيقة ومراجعات كلية. ما أوصلنا في المحصّلة النهائية إلى الحقيقة التاريخية الصحيحة. وفي نصف المرّة أجمل الكاتب بحثه بالدروس والعبر السريعة اللاهثة، أرادها كلمة حقّ تلحق بالحقيقة بالتصريح لا بالتلويح. وهي لذلك تليق بكتابة مرتاب. إنّ الاستنتاجات المبثوثة في ملحقات الفصول كانت تثبّت العلمية في الكتاب بعناوين يصادفها القارئ في متن الكتاب نفسه ببعضيّتها لا بكلّيتها. وهكذا كان القارئ الفطن في غنى عن هذه الإجمالات البرقية. وقد جاءت، على نحو ما أفهمه، جوابًا لمنكر لا لمشكّك.

أسوق هذا الكلام وأنا أتذكّر قصة المبرّد مع الكندي الفيلسوف.. قال الكندي لأبي العبّاس المبرّد: إني لأجد في كلام العرب حشوًا. فقال المبرّد: في أيّ موضع وجدته ذلك؟ فقال الكندي: أجد العرب يقولون: “عبد الله قائم”، ثمّ يقولون: “إنّ عبد الله قائم”، ثمّ يقولون: “إنّ عبد الله لقائم”، فالألفاظ متكرّرة والمعنى واحد. فقال أبو العبّاس: بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ. فقولهم: “عبد الله قائم” إخبار عن قيامه، وقولهم: “إنّ عبد الله قائم” جواب عن سؤال سائل، وقولهم: “إنّ عبد الله لقائم” جواب عن إنكار منكر قيامه. فقد تكرّرت الألفاظ لتكرّر المعاني. فما أحار الفيلسوف جوابًا.

يبدو لي أنّ إنكار الحقيقة، خصوصًا من ذوي القربى، هو ما دفعه إلى هذا الإلحاح في التوكيد المضاعف اللفظي والمعنوي. فالكتاب مكتوب بمنطق الإفحام أصلا. وهذا توجّه يدعّم المضمون بالأسلوب والقول بالفعل.  ولعلّ هذا أول الفروق الدقيقة بين النصّ الثوري والنصّ التثويري.

*** أ. د. إبراهيم طه\بروفيسور؛ ناقد ومحاضر كبير، جامعة حيفا قسم اللغة العربيّة وآدابها، والكليّة العربيّة للتربية – س. ن.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .