(الحلقة الخامسة)
راحت جدَّتي تبكي وتنوح على مصابها الأليم، وتذكُر محاسن فقيدها الكبير، عامود البيت يا سمعان، وفقيد عائلتها، وعزِّ ديارها، حيث كان يحتضن أبناءه ويحميهم برمش العين، يواصل الليل بالنَّهار من أجل تلبية ما يريدون، من حاجيَّات وما يعوزون من اشياء ليكونوا في بحبوحة ويُفرِّج كربهم، ولم يرِد لهم ان يعيشوا الشَّظف والضِّيق الذي عاشه، أيَّام السَّفر برلك والفراري، ويعيشه تحت نير الإحتلال البريطانيِّ البغيض، فكان يصبو لأن تكون لهم عيشةً حرَّةً رغيدةً أفضل ممَّا كانت له، وأن يصِلوا إلى ما يصبون إليه، إلى أعلى الرُّتب والمراتب وإلى ما لم يستطع إنجازه هو بنفسه لنفسه..
كانت لوعتها على الأطفال “زُغْبُ الحواصلِ لا ماءٌ ولا شَجَرُ”، فها هي جدَّتي صديقة، الحرَّة، أخت الرِّجال، التي تجوع ولا تأكل بثدييها، تُشمِّر عن ذراعيها إلى سوق العمل، خادمةً في بيوت أغنياء حيفا وفي دير المطران في المدينة، لتسدَّ رمق أطفالها ولتعطيهم كلَّ ما يحتاجونه من مأكلٍ ومشربٍ وملبسٍ ومن حاجيَّات المدرسة، حيث كانت تؤمن بالعلم والعمل والثَّقافة والمثابرة، طبعًا بعد إيمانها بربِّ السَّباؤوط، لقد كانت جدَّتي أم داود تحفظ فرائض الصَّلوات جميعها، والأشعار على أنواع بحورها، التي كانوا يدرِّسونها في مدرسة الدَّير، لكنَّهم، للأسف، لَم يعلِّموا البنات في تلك الحقبة الكتابة والقراءة “خوفًا وحرصًا” من المدرِّسين على ألا تتجاوَزْنَ “أصول الأدب والدِّين” ولكي لا يكون تعليمهنَّ وسيلة لكتابة رسائل غرام وحبٍّ لأصدقائهنَّ وقراءة رسائلهم وأجوبتهم، على حدِّ تعبير مدير المدرسة. وبهذا تكون جدَّتي، كما اترابها، قد حُرمنَ من نعمة القراءة والكتابة والتَّعلُّم والمعرفة..
كيف هذا!
ألم يأمر ربُّنا رسولَه العربيَّ محمَّدًا (ص) في القرآن الكريم، خلال اعتكافه في غار حرَّاء متعبِّدًا، بأن ﴿إِقْرَأ..﴾، فأَقرأَ الأمِّيَّ، وانتصرَ بعد أن عرف القراءة، ونشر القراءة والدِّين بين أبناء وبنات الشَّعب في أصقاع الكرة الأرضيَّة وبثَّ نوره في المشرقين، فأين نحن من هذه السُّورة الجميلة الكريمة واين نحن من هذه البيِّنة، تاركين الجهل والعتمة والظُّلمة والأمِّيَّة تأكل بعضنا وتنهش في أطرافنا نهشًا، وترمينا في نار الجهل والأمِّيًّة!
لقد نقلَت لنا الكاتبة الإيرانيَّة آزار نفيسي (2)، في روايتها المترجَمة للعبريَّة “أَشْيَاءٌ صَمَتُّ عَنْهَا”، كيف وصفوا النِّساء المتعلِّمات في بلاد الفرس على أنَّهنَّ “نِسَاءٌ بِدُونِ خَجَلٍ” (ص 363)، ويَتَّهمونهنَّ بالعلمانيَّة، التي تُشجعهنَّ على كتابة رسائل حبٍّ
للرِّجال ويُصبحنَ بدون خجل..
“لأنَّ النِّسَاءَ حِينَ يَبْدَأنَ فِي التَّفْكِيرِ يَفْقِدْنَ الخَجَلَ” (ص 364)
إنَّ التَّعليم والدِّراسة والعلم يشكِّلون خطرًا على القوى الرَّجعيَّة والقوى الظَّلاميَّة اينما حلَّت، خاصَّةً عند الذين يريدون طمسَ تطوُّر المرأة وهويَّتها، متجاهلين بذلك حقيقة بديهيَّة، أنَّ تثقيف المرأة وتطوير امكانيَّاتها ومقدَّراتها وقدراتها، هي الرَّافعة الأساسيَّة والهامَّة والدَّافعة إلى أمام، إلى تطوير المجتمع وتقدُّمه، حيث أنَّ المرأة أساس المجتمع وعماده وحبل وتينه، وهي صارية المجتمع التي يُشدُّ إليها الشِّراع، الذي يوجِّه اتِّجاه السَّفينة، وهي مرساة الأمان التي تمنع السَّفينة من التَّخبُّط فترسو ثابتة في وجه الأنواء، وهي امُّ المجتمع ومدرَسته ومُدرِّسته:
الأمُّ مدرسةٌ إذا أعددتَها أعددْتَ شعبًا طيِّب الأعراق
الأمُّ روضٌ إن تعهده الحيا بالرَّيِّ أورق أيَّما إيراق
والمرأة هي أكثر من نصف المجتمع إن اردنا إنصافها، ويجب إنصافها وأيُّ عمل أو نهج مغايرٍ لحقِّها فإنَّه يصبُّ في تجهيل المجتمع قاطبةً، وكبت أفراده وأسْرهم، حيث يقول الإمام الشَّافعيُّ: قد أُتيتَ علمًا، فلا تُطفئ نورَ علمكَ بظلمةِ الذُّنوب، فتبقى في الظُّلمةِ يوم يسعى أهلُ العلمِ بنوره..
ومن النِّساء نجد المرأة العاملة، الفَلاحة، الجريحة، الشَّهيدة، المُناضلة، البطلة، المُعتقلة، المُوَظَّفة، الكاتبة، الأديبة، الموآزِرة، الطَّبيبة، المُمَرِّضة، الزَّميلة، المُعَلِّمة، المُحامية، المُربِّية، الحاضِنة، الجدَّة، الخالة، العمَّة، الحماة، العين السَّاهرة، الإبنة، الأُخت، الزَّوجة، والمرأة هي العِرض والشَّرف ونور العيون، فلا تكتمل حريَّة الرَّجل بدون حرِّيَّة المرأة، فلولاها لم نكُن ولم نبقَ ولم ندُم، هي الأمُّ هي الرَّفيقة هي النَّصيرة هي الأمل وهي كلُّ شيءٍ لأنَّ “الجَنَّةَ تَحْتَ أَقْدَامِ الأُمَّهَات” لذا “فاستوصوا بالنساء خيرًا” فهي مدرسة ونور الحياة ومُهجة القلوب، هي حياتنا وحيويَّتنا، وحبُّنا وأَحَبُّ الناس لي أمِّي لأنَّها الماء والهواء والسَّماء والدَّواء. وهذه هي أسماء المرأة الحُسْنى.
إنَّ التَّعليم والدِّراسة تشكِّل خطرًا على القوى الرَّجعيَّة والظَّلاميَّة في مشرقنا، المعنيَّة في طمس تطوُّر المرأة وهويَّتها، وتعلم علم اليقين بالحقيقة، أنَّ المساهمة في تثقيف المرأة، وتطوير إمكانيَّاتها ومقدَّراتها وقدراتها، هي رافعة أساسيَّة وهامَّة جدَّا ودافعة مسرِّعة لتطوير المجتمع، حيث أن المرأة هي أساس المجتمع وأيُّ عمل بعكس هذا الاتِّجاه يصبُّ في إطار تجهيل المجتمع وكبتهِ وأسرهِ..
“وهل يطير البازيُّ دون جناح”..
“النِّساء شَقَائقُ الرِّجال”..
كانت جدَّتي، حتَّى تُعوِّض ما كان ينقصُها من تعليمٍ، تطلب من أبنائها عندما يُحضِّرون وظائفهم البيتيَّة، من قراءة وكتابة وحفظ الأشعار، بأن يتلونها عليها بصوت عالٍ حتَّى يتسنَّى لها سماع إلقائهم وحفظ ما يقولونه وتسميع ما كانوا يقرأونه لها..
لقد كانت تواصل شَفقَ نهارِها بغَسقِ ليلها، ملازمة لبيتها ساعة انتهائها من العمل ملتزمة بهموم ابنائها على مدار السَّاعة، وقد أخذت من تربية أبنائها تحدِّيًا مشروعًا، ومشروعَ تحدٍّ، يرفعهم إلى أعلى درجات العزِّ وأسمى خطوات الثَّبات، على أن يكونوا مستقلِّين دون الحاجة إلى الغير، وهي الصَّبيَّة الجميلة السَّمراء والفتاة الحسناء ذات ضفيرتين طويلتين سوداوَين تلامسان حقويها، وهي الأرملة في صباها، التي ضحَّت بكلِّ شيء من أجل بيتها وابنائها، لتعطيهم كلَّ ما يحتاجونه، ولكي لا يشعروا بآلام وتعاسة ونكد اليُتمِ ولا بنقص روح الوالد في البيت ونغص الحياة بدونه..
لقد كانوا يرون بوالدهم، جدِّي، قادرًا على كلِّ شيء، مثالهم الأعلى، يُحاكونه في كلِّ شيء، في عمله، في تصرُّفاته اليوميَّة وأعماله البيتيَّة، كما يقول الشَّاعر رؤبة بن عبد الله بن العجَّاج في مدح الصَّحابيِّ عُدي بن حاتم الطَّائيِّ:
بِأَبِيهِ اقْتَدَى عَدِيٌّ في الكَرَمِ ومن شابه أباه فما ظلم
ويقول شاعر آخر:
والابنُ ينشَأُ على ما كان والِدُهُ إِنَّ الجُذورَ علَيها ينبتُ الشَّجرُ
كان جدِّي عاملاً يحبُّ العمل، لاعتباره أنَّ العمل شرفٌ، ولا يردعه عن العمل والكدِّ والكدحِ سوى الموت، والإنسان الذي لا يعمل هو إنسان ميِّت، فالحياة عمل، والعمل هو شارة الحياة وإكسيرها، وكانت لهم في أبيهم قدوةٌ ومثالٌ و﴿..أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ..﴾، لقد كان جدِّي هادئ الحديث، يافع الهيبة شامخ الجبهة، عالي الجبين، طويل القامة، جميل تقاسيم الوجه، قمحيَّ البشرة، تَزيَّن رأسُه بحطَّة بيضاء ناصعة كفؤاده، وعقال اسود اللون، كسويداء القلب، وتحت الحطَّة كان يضع على رأسه طاقيَّة بيضاء من القطن حتَّى لا يبرز شعر الرَّأس من الحطَّة، شجاع مقدام “ومن استحيا حُرِم ومن هابَ خابَ” عقاله مائل على رأسه كعادة الشَّباب، مُعَنْقِر، إلى الجهة اليُمنى، وهذا يظهر جليًّا في صورته، التي كانت معلَّقة على حائط بيتنا في حيِّ وادي النِّسناس.
لقد رافقتني هذه الصُّورة طوال الوقت، غيابُه حاضرٌ معي، وحضورُه غائبٌ، وصورته تشخص أمام ناظري، في البيت والعمل وفي كلِّ مكان..
لم تحظَ عيناي برؤية جدِّي سمعان، ولم تحُز يداي على ملاطفة شاربَيه الطَّويليْن المفتوليْن لمداعبتهما، ولم أنعم بحضنه الدَّافئ ولا بضمَّةٍ لعوبةٍ بين ذراعيه فأقبِّل وجنتيه كلَّما يحلو لي، ﴿..بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾..
وحين يعتزُّ المرء بنفسه ويفتخر بمروءته وبأعماله وبتربيته وبقوَّته كان يُعنقر عقاله، لأنَّ ميلة العقال هي رمز الرُّجولة والشَّباب والفُتوَّة والمروءة والأصالة، وإذا اردتَ توجيه انتقاد لإنسان بعمله المُشين فتخجل من عمله، تقول له “وطِّيت عقالنا”، وإذا اردتَ أهانته كنتَ تفتح له العقال وتضعه حول عنقه، شارةً لإذلاله واحتقاره، وأحيانًا كان العقال أداةً للتَّعنيف والضَّرب والإنذار والعقاب، إذ كان يُستعمل كالسَّوط، وإذا دخلتَ مكانًا مقدَّسًا، عليك إنزال العِقال ووضعه على ساعدك احترامًا لقُدسيَّة المكان..
عندما كانت جدَّتي تدخلُ دارتها كانت تُلقي السَّلام علينا وتتابع بإلقاء التَّحيَّة أيضًا بقولها وعلى عباد الله الصَّالحين، طالبةً السَّلامة والعافية من ربِّ العالمين، إذ تدخلها برجلها اليُمنى وتخرج منها برجلها اليُسرى، وكانت تقول لنا إنَّ السَّيِّد المسيح (ع) حين صعَدَ إلى السَّماء جلس عن يمين الآب، لأنَّه سيأتي للعالم بمجدٍ عظيم، لخلاص العالم. ويقول الشَّيخ العلامة عبد الحميد ابن باديس مؤسِّس جمعيَّة العلماء المسلمين الجزائريِّين والذي يُعتبر موضوعيًّا وتاريخيًّا من أكثر زعماء القوميَّة العربيَّة في الجزائر، بعد الأمير عبد القادر الجزائريِّ، الذي كان عدوًّا للاستعمار برأس فرنسا، ومنفتِحًا على العصر، متنوِّرًا بفكره، يقول في أدعيته كما جاء في يوميَّات أحمد بن بِلا ص 102:
“اللهمَّ اجعلنا في الدُّنيا من أهل اليسار وفي الآخرة من أهل اليمين”، لأنَّ “الشّيوعيّة هي خميرة الأرض” ..
التجأت جدَّتي الى البحث عن الرِّزق والعمل، لإعالة العائلة، رغم أنَّها بعد وفاة جدِّي
تعرَّضت إلى حادث طرقٍ أليم، حيث دهستها سيارة مسرعة غابت السَّيَّارة عن الأنظار وابتلعتها شوارع المدينة هاربةً من عيون المارَّة، وهوت جدَّتي على أرض الشَّارع قرب محطَّة الكرمل، مما سبَّب لها كسرًا في ساقها الأيسر، ونُقِلت بعدها إلى المستشفى الحكوميِّ، قرب الشَّاطئ، حيث أجريت لها عمليَّة جراحيَّة صعبة، إذ قام الأطباء، بإعادة إعمار عظم السَّاق عن طريق إدخال مسمارٍ طويلٍ من معدن البلاتين إلى داخل عظم السَّاق لكي تعود إلى جهوزيَّتها وعملها وعافيتها كما كانت قبل الحادثة، لكن العمليَّة لم تعطِها النَّتائج المرجوَّة إذ بقيت ذات عاهة تعرجُ، لأنَّ “رجلها معلَّقة بسبعة شناكل” وتقول “سبع شناكل مش هوَيْني علَي يا ستِّي يا حبيبي” لكنَّ هذا لم يثنها عن مزاولة عملها وخدمتها لعائلتها وأولادها، وحتَّى لا تكون البطلةُ وأختُ الرِّجال عالةً على أحدٍ وحتَّى تقف صامدة أمام تحدِّيات القدر، شامخة أمام عاتيات الزَّمن وغدره، فعزَّة النَّفس والإباء والكبرياء والاعتماد على الذَّات تصنع القدَر والزَّمن الذي تريده، أنتَ، فلا مستحيل أمام إرادة الإنسان وبالتَّالي أمام إرادة الشَّعب، التي تُعطيك قَدَرًا..
يقول الكاتب السُّوريُّ حنَّا مينة في روايته “مأساة ديمتريو ص 28”:
_ لا أحد يترك مصيره للقدر، إلا إذا كان عاجزًا..
_ لكنَّه القدر..
_ تقابلُه الإرادة.. أعطِني إرادةً، أُعطِكَ قدرًا..
لكن، هل هذا هو قدرنا، هل كنَّا نستطيع تغيير هذا القدر! وهل تنقصنا الإرادة وما زلنا إلى يومنا هذا بدون إرادة، نُفتِّش عنها وهي أمام بصرِنا، هل أمرنا مسيَّرٌ أم هو مخيَّرٌ، فإذا كان مسيَّرًا لنجلس في بيتنا، خاملين، ننتظر قدرنا، إذ لا حول لنا ولا قوَّة في صناعة مستقبلنا، وإن كُنَّا مخيَّرين علينا أن نغامر في شرف مرومٍ لتكون اكتافنا فيه فوق الغمام عاليةً، فالسِّراج خُلِق ليُنير، لذلك يوضع في مكان عالٍ، وعلينا ألا نقنَع بما دون النُّجوم فبالعزيمة والإرادة والصَّبر والثَّبات نصنع ما لم يقوَ عليه أحدٌ وما لم تستطعه أوائل الأوائل ونكون قدوةً ورمزًا للنَّصر..
﴿..قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾..
علينا أن نعمل من أجل القدر المأمول والمرجو وأن تكون لنا إرادةٌ صلبةٌ، تُحقِّقُ المستحيلَ، فحين زار أعرابيٌّ رسول الله (ص)، تحيَّر بالمكان الذي يضع فيه ناقته سائلاً رسول الله، أين يضع ناقته: أعقِلُها وأتوكَّل أم أُطلقها وأتوكَّل، فقال له بل عليك أن تعقلَها وتتوكَّل، اربطها وتوكَّل، وأضيفُ: إعمل ما يجب عليك أن تعملَه بعد أن تفكِّر مليًّا بعملك وتحسبها وتحسب أبعاد ما تعمله، ومن بعدها توكَّل..
كانت وفاة جدِّي، في يوم اربعاء، بتاريخ الثَّامن والعشرين من شهر آذار، من العام الف وتسعمائة وخمسة واربعين، حيث وورِيَ ثرى حيفا يوم الخميس، خميس الأسرار قبل موعد قدَّاس العشاء السِّرِّي، في المقبرة الواقعة في شارع يافا، المتقاطع مع شارع عين دور، حيث دُفنَ في الجهة اليُسرى من مدخل المقبرة، دون شاهدٍ على قبره لضيق الحال والأحوال، لكنَّ عظامه ورُفاته الطَّاهرة ما زالت موجودة هناك في “فستقيَّة” المقبرة القديمة..
والفستقيَّة هي عبارة عن غرفة صغيرة داخل المقبرة، مدفن جماعيٍّ وفيه مدفون العديد من الأموات، يضعون عظام الميِّت القديم جانبًا لتحُلَّ محلَّه جثَّة الميِّت الجديد، ولا ادري لماذا اعطوا هذا المدفَن بهذا الإسم، ألأنَّه يشبه الفستقيَّة! حيث أن الفستقيَّة هي حلوى مصنوعة من الفستق، وتكون “حبَّة الفستق بجوار اختها”، ملتصقةً بالسُّكَّر المُركَّز..
في ذلك اليوم كان جميع افراد العائلة يتهيَّأون لعيد الفصح، كان أملهم كبيرًا في أن يخرج ربُّ البيتِ، بمشيئة ربِّ البيتِ، معافى من الاسبيطار الحكومي، الواقع بين شاطئ ابو نصُّور ومنطقة دير الرَّاهبات الكرمليَّات ودير راهبات القدِّيس يوسف، خاصَّة في الأسبوع الأخير من شهر الصَّوم، لقد جهَّزوا البيت بعد تنظيفه “تعزيلات العيد”، من جلي أواني الطَّهي وتنظيف أداوت الأكل من ملاعق وشوك وسكاكين وغسلها، وتهيئة البيت للعيد، ورشِّ العطور في جميع انحائه، وبكلِّ ما يحتاجه اهله من مأكلٍ ومشربٍ وملبسٍ وفراشٍ نظيفٍ أو جديدٍ مُنشَّىً..
لقد أحضروا البيض لسلقه مع أزهار برِّيَّة لتلوين البيض، من الصُّفِّير والبرقوق وقشور البصل،لتزيده جمالاً ولونًا وطعمًا ونكهةً، حيث كان الأطفال يتباهون بألوان بيضهم، الذي يرمز إلى الحياة الجديدة، إلى القيامة المجيدة، إلى ربيع الحياة، وكانوا أيضًا يلفُّون البيض بأقمشة ملوَّنةٍ علَّها تصبغ البيض المسلوق، كربطة العنق، بالماء السَّاخن، فيحلُّ لونها على البيض، أو يضعون البيض قبل سلقه مدَّة اسبوع في كيسٍ من الملح لتتقوَّى قشرتها، كما هي العادة في هذا العيد، لتهيئته لأوَّل عيد الفصح “للمفاقسة”، للمبارزة، التي ترمز إلى قيامة المسيح في اليوم الثَّالث من بين الأموات، بعد أن أزاح الصَّخرة عن القبر، فتكسير قشرة البيض تعبِّر عن إزاحة الصَّخرة، وكذلك كان الفتيان يقطفون الورود والأزهار والأغصان الخضراء النَّضرة من الحقول والمراعي والجبال لتهيئتها لقدَّاس الجمعة العظيمة لتُزيِّن سرير السَّيِّد المسيح حين يُنزلونه عن الصَّليب، بعد جنَّازه والصَّلاة عليه، حيث كان الكهنة والمصلُّون يأخذون هذه الورود من السَّرير ليتقدَّسوا بها علَّها تشفع لهم في محنهم وتحلُّ لهم مشاكلهم، وما أكثرها، أو تكون لهم فأل خيرٍ في بيتهم..
وكانت مبارزة تفقيس البيض بين الأتراب نشِطة في العيد الكبير، وتُثير ضجةً وجلبةً في الحيِّ وشجارًا بين المُتنافسين والمتفاقسين، حيث تكون الغلبة، لمن يكسر بيضة منافسه، ويجمعهم ويذهب بهم إلى بيته، وتكون للعائلة وجبة بيض مسلوق مفتخرة، وهناك من كان المباراة يرمي البيضة المكسورة على الأرض حتى لا يفوز بها منافسه، بعد أن يكون قد “لحسها الشَّيطان” او أنَّه يتشاجر مع منافسه مدَّعيًا الغشَّ “لأ انت غشِّيت، ما كانت فتحة ايدك مزبوطة أو ضربت البيضة “جنَّابي” أو تكون يده قد “شلَّقت” (حيث يُطوِّق المتفاقس رأس البيضة أو اسفلها بقوس يعقده بين عُقدة إبهامه الأولى ورأس سبَّابته وتكون المفاقسة الرَّأس بالرَّأس و”العيز بالعيز”)، وإذا كان رأس البيضة مكسورًا، يواجه المفاقس بعيز بيضته رأس بيضة المنافس! و”تعْلق الطُّوَش”..
ويجوز أن يكون أصل كلمة طُوَش، والتي مفردها طوشة، من عملية الخصي، أي جعله طَواشى، خصاه، وجبَّ ذكَرَه، أي أصبح مخصيًّا، بعد أن ضربه على “بيضه”، بعد أن يتعاركا ويتشاجرا ويكيلا لبعضهما الضَّرب المُبرِح خاصَّة على تلك المنطقة المؤلِمة والضَّعيفة في جسد الرَّجل، حينها يستسلم للألم..
(نتواصل، انتظروا وشكرًا)..