المؤتمر الثقافيّ الأول 11-12 تشرين الأول 2019 في عرّابة البطّوف، والذي عقده الاتّحاد العام للأدباء الفلسطينيّين- الكرمل 48، ترك انطباعًا إيجابيًّا حدّ النشوة لدى القيّمين عليه والمشاركين وبعض المراقبين، مضمونًا ومشاركة وإدارة، وهذا صحيح وقد فاق التوقّعات.
الأمر الطبيعي ان المؤتمر لاقى كذلك انتقادات، بعضها ذاتويّة تمحورت بالأساس حول: “لماذا هذا وليس ذاك؟!” أو “المؤتمرات ليس بكرنفاليّتها وإنّما برؤاها!” وما إلى ذلك، ومن نافل القول أنّ بعض الانتقادات كانت موضوعيّة، وهذه وتلك وبغض النظر دليل إضافيّ على النجاح. الأهم أنّ هذا النجاح لم يعمِ أنظار القيّمين عن نقاط ضعف رافقته، كان بعضها موضوع التلخيص في الأمانة العامّة للاتحاد ولجانه بعد المؤتمر بوقت قصير، تمّ طرحُها والتداول بها استخلاصًا للعِبر وانطلاقا من أنّ النيّة والقرار مُتجهان نحو تجذير هذا العمل ليصير تقليدًا لا غنىً عنه ويجب أن يكون حصينًا في وجه الزلّات قدر الإمكان.
ولعلّ إحدى النقاط البارزة في هذا السياق، سياق النقد والذاتي قبل الأخروي، كانت ضعف محور النقاش. لقد خُصّص وقت أكثر من كافٍ لنقاش كلّ محاضرٍ حول أطروحته لم يُستثمر إلّا جزئيّا، وبملاحظات أو مداخلات قصيرة على الغالب، وبعضها لم يرتقِ إلى مستوى الأطروحات والمتوخّى من منصّة النقاش.
في جلسة جمعتني في رام الله، وكثيرًا قبل المؤتمر، بكاتبين لهما بصمات زاهية وهامّة على حراكنا وحركتنا الثقافيّين شعرًا ونثرًا، جلسة كان لمسيرتنا الأدبيّة فيها حظٌ وافر، فاجأني في حمأة تبادل الحديث قول أحدهم وموافقة الآخر معه، إذ قال بما معناه: “لقد اختزلوا الثقافة الفلسطينيّة بمحمود درويش”، هكذا قيل وتمّت المصادقة دون التوقّف كثيرًا عند الموضوع، وأخذ الحديث مجراه في شؤون أخرى. الحقّ أنّي لم أتداخل في هذا الباب من النقاش بينهما ولكنّي أنصتّ إليه بتؤدة واهتمام، وللحقيقة لم يسألاني رأيي في هذا الادعاء، وهم لم يفصحا عمّن هم هؤلاء الذين “اختزلوا” وأنا لم أسأل، لكنّي أجافي الحقيقة إن قلت أنّ الأمر مرّ على عقلي مرّ الكرام حينها وبعدها واليوم.
ليس سرّا أبدا أنّ كلامًا مشابهًا في المبدأ بغضّ النظر عن دقّة الادعاء من عدمها وعن الاسم أو الأسماء “المُختزِلة” حسبه، يتمّ طرحه في الكثير من “القعدات”، وتقرأُه أحيانًا بين السطور هنا وهناك كلامًا مُشفّرًا. لم أقرأ حتّى الآن ولم أسمع من تجرّأ على طرح هكذا كلام على الملأ كتابة أو قولًا، فنحن قوم نحبّ ونقدّس الأيقونات ونرهب الاقتراب منها لا بل وندمغ كل من يحاول الاقتراب منها حتّى لو كان ممّن لا تشوب حبّهم لها شائبة.
فاجأني وربّما فاجأ آخرين، وعلى هامش الجلسة الختاميّة لمؤتمرنا طلب أحد أعضاء الاتّحاد البارزين (كاتب وشاعر)، حقّ الكلام وإن بخروج كلّي عن البرنامج التنظيميّ إذ إن طلبه جاء مقاطعًا التلخيص وقد “استفزّه” على ما بدا قولٌ في التلخيص. أُعطِي الحقّ رغم ذلك، وإذ به يطرح الأمر دون مواربة ومن خلال إشارة إلى الأطروحات التي قُدّمت وما قيل فيها في السياق من خلال التلخيص. هذا الطرح المفاجئ ولكن الصحيح أثار استغراب البعض لا بل والامتعاض عند بعض آخر، غير إنّه شجّع آخرين على ما يبدو، فتلاه عضو بارز آخر (شاعر) ليثني على كلامه، لا بل راح أبعد من ذلك.
كان ملخّص طرحهم في السؤال التساؤل: “هل ثقافتنا تقتصر على ومختزلة في (فلان وعلّان وعلتان)؟ فلم نسمع من المحاضرين إلّا أسماءهم وكأن لا وجود لغيرهم، ولا أدب بعد أدبهم، رغم إنّ الباحثين والنقّاد في الأجيال التي تلت كانوا سيجدون من لا يقلّ عنهم لا بل ويضاهيهم، لو كلّفوا أنفسهم قراءتهم!”
هذا الطّرح عمليّا هو الاختزال الذي تحدّث عنه ذانك الكاتبين في رام الله، وحريّ بنقاش مستفيض، وربّما نحن كاتّحاد بحاجة أن نطرحه في برنامج خاصّ، لأنه فعلًا يستأهل الغوص والعوم رغم الخطورة التي في السباحة وخصوصًا إذا كانت في بحر هائج. ولكن حتّى يتم لنا ذلك فلا ضير من وضع بعض شظايا أفكار على الطاولة، إجابة على السؤال: هل هذا ما هو حادثٌ؟ وإن كان، فلماذا يحدث؟!
الاختزال هو ليس فقط في الكلام كتابة ونطقًا، الاختزال هو تقليل تكافؤ ذرّات المادة بزيادة إلكترونات، وهذه العمليّة الكيميائيّة تؤكسد المادة وتقلّل من قيمتها كمًّا وكيفًا، تقلّل من تلك المأخوذ منها الإلكترونات وتلك المضافة إليها الإلكترونات، على ذمّة العلميّين. فهل هذا ما يحدث عند غالبيّة باحثينا ونقّادنا وهم انتقائيّون مختزِلون؟! لا قطعَ في هذا! ولكن، أليس في الإقلال من تكافؤ المادّة الثقافيّة، تقليلًا من مكانتها؟! قطعاً هو كذلك!
هنالك ادعاء عائمّ حول أزمة البحث والنّقد عندنا، ولكنّا نجافي الحقيقة إن قلنا أنّ باحثينا الذين ظهروا في المؤتمر والذين لم يظهروا، ونقّادنا الذين ظهروا والذين لم يظهروا، لا يبذلون جهدًا مباركًا بحثًا ونقدًا وفي حقل شائك. لا يستطيعنّ أحد أن يتّهمني إنّي أجامل في ذلك، فمن يتابع مقالاتي في هذا الشأن يرى إنّي لا أفعل. باحثونا ونقّادنا ليسوا كاملي الصّفات وغير معصومين وتماما كما منتجينا، ومن لم يكن ذا خطيئة فليرجمهم. الطامّة تكون إذا كانت انتقائيّتهم نابعة من عدم براء من الهوى، ولا أحسب أنّ غالبيتهم كذلك.
مع هذا نستطيع أن نضع قائمة من الادعاءات لأسباب الاختزال، ولكنها قائمة مفتوحة وتظلّ منقوصة ولا تتوخّى الكمال، ومنها:
- الباحث والناقد كما المنتج هو نتاج خلفيّة تعليميّة وثقافيّة سائدة راكمها وغالبا بحكم انتماء، والأمر الطبيعيّ أن يكون الروّاد جزءًا من هذه الخلفيّة. المعضلة هنا تكمن إن كان الباحث والناقد عبدًا لهذه الخلفيّة وأعجز من أن يتحرّر من قيودها باحثًا عمّن هم ليسوا من خلفيّته المتراكمة هذه.
- باحثونا و\أو نقّادنا من الجيل الجديد أكثر من طبيعيّ أن يكتبوا عن الروّاد، وليس في هذا منقصة، إلّا إذا كانوا انتقائيّين ولم يتوخّوا البراء من الهوى، وأيّا كان هذا الهوى جهويّا أو فئويّا أو شخصيّا، وزد ما شئت!
- الأمر الطبيعي أنّ ينتقل باحثونا و\أو نقادنا هؤلاء من بواكيرهم التي كُتبت بحكم التراكم إلى ما بعدها وإلّا سيجترون البواكير، ولا أعتقد إنّ هذا ديدنهم وهذا ما يصبون إليه، وإلّا فقد يخطئون وأولًا لأنفسهم قبل غيرهم، فلا يقلقّن أحد من الجيل الثاني والثالث من المبدعين من هذا الباب، وإضافة، فليطمئنوا فعندما سيأتي الجيل الأصغر فأكيد وبطبيعة الحال وحتميّة التطوّر سيتناولهم، وعندها سيوجد جيل من المبدعين يقول ما يقولون هم اليوم!
- البحث والنقد أصغر جيلًا من الإبداع بطبيعة الحال، والجيل هنا ليس بالضرورة العمريّ المحض، وإنمّا العمريّ الكتابيّ للناقد والباحث والمبدع. أسهل على الباحث والناقد أن يكتب عمّن هم أكبر منه جيلًا عمريًّا وأدبيًّا. أسهل ذاتويًّا وأسهل غيرويًّا، فأن يكتب عن مُجايليه وخصوصًا إذا كان انتاجهم يستحقّ الكتابة ولا أقلّ عن السابقين، فيها من حيث يدري أو لا يدري تفضيلًا على ذاته لمن هم في جيله، وهذا بطبيعة الحال مناقض لطبيعة الإنسان إن لم يكن من طينة فيها من الكِبر الكثير، وهذه فضيلة ليس التحلّي بها أمرًا مفروغًا منه.
- المنتج مفكّرًا كان أو باحثًا أو شاعرًا أو ناقدًا أو فنّانًا يريد أن يصل ويوصل. البعضُ يعتقد أنّ الوصول أسهل إن “ركب” على “الكبار”، أمّا “ركوب” “الصّغار” فغير مضمون. أمّا الإيصال فليس مضمونًا لا على أكتاف الكبار ولا على أكتاف الصغار، فهو منوط بأمور أخرى كثيرة، وحتّى إن ركب الكبار يمكن أن يسيء الركوب فأبدًا ليس هذا ضمان وصول ولا إيصال كذلك.
- المشكلة أعوص حين لا يتابع باحثونا ونقادّنا انتاج الأجيال التي تلت الروّاد، ومهما كانت الأسباب. فلا مبرّر يستطيع أن يبرئهم من الخطيئة التي يرتكبونها في حقّ الثقافة، ولا يقلّ عن ذلك خطيئة إن تابعوا ومالت موازين هواهم.
- دعونا نعترف وعلى الملأ أننا فئة نعاني كلّنا من نرجسيّة وما الفارق بيننا إلا في مدى استفحالها فينا ومدى قدرتنا على كبح جماحها. لا يضير أصحاب طرح “الاختزال” قليل من التواضع ولن يضرّهم عدم التخيّل احتراق البصلة. البعض يعتقد إنّ ما أنتج هو قمّة الإنتاج ولم يأت به الأوائل وهو طبعًا حرّ في ذلك، ولكن عليه أولًا أن يقنع الباحث والناقد، ومن وجهة نظري الخاصّة أن يقنع قبلًا القارئ بأنّ ما أنتج قمّة أو على الأقل في القمّة، وإن فعل هذه الأخيرة لن يضرّه تجاهل باحث ولا تخاذل ناقد.
- لا أحد ومهما تنزّه لا يحبّ الثناء، ولكن بين حبّ الثناء وبين الاندلاق على الثناء البون شاسع!
لا يستطيع أيّ كان أن يدّعي أنّ الادعاء حول الاختزال الآنف هو محض خيال، ولا يستطيع من الناحية الأخرى أحد من “ضحايا” الاختزال أن يدّعي “اطلاقيّة” ادعائه. وبين هذا وذاك يظلّ الاختزال الثقافي كالاختزال الكيميائي يقلّل من تكافؤ المادّة!
أوائل كانون الأول 2019
*الكاتب هو الأمين العام للاتّحاد العام للأدباء الفلسطينيّين-الكرمل 48