الشاعر د. منير توما
أصدر الأستاذ الشاعر عمر رزوق الشامي مؤخرًا مجموعة شعرية جديدة تحت عنوان «دموع على الورق» حيث أهداني منها عددًا من النسخ متمنيًا عليّ أن أبدي رأيًا واكتب تعقيبًا على قصائد هذه المجموعة ، فتلبيةً لطلبهِ ارتأيت أن أعبِّر عن انطباعاتي حول الشعر الوارد في هذه المجموعة من خلال السطور اللاحقة .
إنّ أول ما يستوقفنا عند قراءة قصائد المجموعة تلك النغمة المشوبة . بروح الألم والمعاناة عند الشاعر بفعل الغرام وعلاقته بالحبيبة وما اعترى ذلك من هجر أو بُعاد يجعل الشاعر يعاني من خيبات الأمل المتعدّدة رغم وفائه وهيامه بها . وبذلك فإنّ هذا الألم يشتد باشتداد البُعد عمن افتقد فَهُجِرَ أو هجَر . وفي القصيدة الأولى التي يفتتح الشاعر مجموعته بها والتي تحمل عنوان «نزف العيون» (ص 23) ، تصبح المناجاة الشعرية ، انسكابًا نفسيًا فيه احتراق وفيه لوعة ، وفيه بوحٌ بالمكنونات المأساوية ، والعوالج ولكنه يبقى متيّمًا بالحب ، عاشقًا صامدًا في دنيا الغرام وإن كان فيه بعض ايحاءات وتداعيات القنوط والانحطام .
وفي الأبيات التالية من هذه القصيدة نلمح بوضوح هذه المعاني :
دمعُ الحبيبِ من الجراحِ تكلّما
حينَ الفؤادُ من الفراقِ تضرّما
ما قد جرى بعد الرحيلِ كأنّما
كمدُ الحبيبِ أهاجَ فيَّ جهنّما
هذي العيونُ من السواترِ تشتكي
والهجرُ زادَ القلبَ مُرًّا علقما .
كلّ هذه المعاني وما يتلوها من العديد من قصائد المجموعة دليل المشاعر المترنحة على مزاجية الألم ، فتصبح روحانيةً فتهتز باهتزاز العاطفة فوق سفود الجمر الوهّاج. إنها الرومانسية الغائرة في أعماق الشاعر المتغلغلة بين طيّات قصائده الحافلة بتلاويح من انبلاجات الرومانسية الوجدانية وما شابهها والتي يغلب عليها العنصر الشخصي الذاتي بكون الشاعر يعبِّر فيها عن عواطفه الشخصية ، عن كيانه الحميم بصراحة مباشرة ، وحرارة مؤثرة كما نرى في قصيدة «مكر وهجر» (ص 50) وفيها يقول شاعرنا :
زيدي بهجركِ إنّ قلبي قد سكَنْ
ودعي انتظاري واحتضاري والشَجَنْ
وخذي فتاتَ الذكرياتِ فإنّها
تُنْبيكِ مَنْ نكتَ الوعودِ بلا ثمنْ
كم خطرةٍ ظلمَ المتيّمُ دمعَهُ
والامنياتِ على جسورٍ مِن وَهَنْ
نهرٌ من الأوهامِ جُستُ خلالهُ
قد ساقني حتفي الى قبرٍ مَجَنْ
إنّ هذه الأبيات تفيض لوعةً وحسرةً وألمًا ، فقد كان هذا هو حب شاعرنا حب دائم في خيالهِ وأحاسيسه وحدها .. وما دامت هناك امرأة يحبها فإنّه يعيش قصة هواها ، فهو يمضي في الأبيات آنفة الذكر في حديثٍ لاسترجاع ذكريات الماضي الحزين علّها تخفّف عنه شجونه بعد أن عزّ الأسى وذلك برومانسية مرهفة ، ومشاعر مشبوبة تشكّل طريقًا لانطلاق أفكاره وأخيلته ، وفرصة للتأمّل والتأسي . ورغم أساه وحزنه ، وقسوة صدماته مع المحبوبة إلاّ أنّه يظل يرى فيها أزره وأمله وسعادته ونور حياته كما يتضح في ختام قصيدة «لها» (ص 77) حيث يقول :
عمري الفداءُ لقلبٍ أنتِ بهجتُهُ
على بِلادهُ سما من فوق أقماري
فإنْ تكنْ قاسيًا فالعشقُ مغفرةٌ
وإن تكن عاطفًا أوصلتُ إكباري
حبيبتي ، دُجنتي الظلماءُ إنْ حَلَكتْ
تفيضُ من وجهكِ الخلّابُ أنواري
ومما يسترعي الانتباه أسلوب شاعرنا في كتابة قصائدهِ ، فالأسلوب هو الطريقة الخاصة التي يستعملها الشاعر في إظهار أفكاره الى الناس ، عن طريق صياغته للكلمات اتصل الى كل سامع وقارئ ، فبقدر ما تحدثه مِن أثر وتثيره من مشاعر في نفوس هؤلاء ، يكون الشاعر قد استطاع ان ينقل اليهم ما يجول في نفسه من مشاعر وأحاسيس ، وأن ينقل بالتالي تجربة فريدة عاناها في داخل نفسهِ ، وجعلها تؤثر في الغير عند ابرازها الى الوجود بصورة مؤثرة وجميلة كما فعل شاعرنا في قصيدة
«كهوف الامنيات» (ص 159) حيث ورد هناك قوله :
في كهوفي تحتويني ذكرياتْ
ذاتُ تيهٍ بعثرتني في الشتاتْ
عندها قد ضجَّ صوتٌ من شظايا مرعباتْ
يومَها ما انفكَّ خوفي يستقي منها سرابًا
وكهوفًا بالحنايا راسياتْ
فادفعي الدمعَ شليلاً والحروفْ
اغرقيني في بحورٍ هائجاتْ
واكشفي باليأسِ زيفَ الأمنياتْ .
ومن الملاحظ أنّ معظم أشعار عمر رزوق الشامي في هذه المجموعة تؤكِّد لنا أنّه شاعر الحب والألم المتمثلّة في روحه الطيّبة في عباب الآمها ، وسلسلة انفعالاتهِ في مدِّها وجزرها ، فهو الشاعر ذو القلب المضطرم يطلب قلبًا مُحِبًّا وفيًّا ، فيلجأ الى فتاة الأحلام يسكب في قلبها عصارة الآمه وآمالهِ ، ويجد في ناظريها نور الفصول ، ويجد في حميم عاطفتها ذهول وعيه ويقظة إحساسهِ ، فهو يعي الصراع القائم في عالم نفسِهِ ، ولا يقوى على تهدئتهِ ، ويعي الحالة التي تنتاب وجدانه ولا يجد الى شفائهِ سبيلا ، فيكتفي بعذاب النفس ، وهذا من جملة الأساليب التعذيبية للنفس في غمرة الكآبة البائسة التي ينتهي بها الشاعر الى قمة المأساة الوجودية ، وفي هذا الصدد يقول عبر قصيدة «دمعة مناجاة وتمنّي» (ص 171)
تغادِرُني فيقتُلني الرّحيلُ
فادفعُ ديَّةً وأنا القتيلُ
غرامي أنتِ كيفَ أَغضُّ طرفي
وهل عيني لغيركِ قد تميلُ !
لقلبيَ كلُّ يومٍ فيكِ أمرٌ
بدونكِ كلُّ أشيائي شكولُ
نذرتُ لقلبكِ الوضاءُ قلبي
فتغمُرني البشائرُ ، لي تؤولُ
بهاؤكِ دام ما اختلفتْ طقوسٌ
كأنَّ لكِ قد ارتبعتْ فصولُ
وعامُ من رضاكِ بألفِ عامٍ
وطيفكِ من عيوني لا يزولُ .
وينهي قصيدته هذه بمخاطبة المحبوبة قائلاً :
فأنتِ الروحُ والقلبُ القبيلُ
ونبراسٌ تشلشل منه دمعي
كما زيتٍ لمشكاةٍ سيولُ
وإذ وقتُ اجتمعنا لا زمانٌ
وإذ بالأرضِ لا عرضٌ وطولُ .
وهنا لا بُدَّ لنا أن نشير الى أنَّ شاعرنا في معظم قصائد هذه المجموعة التي تتناول موضوع الحب والغرام ، يستبد به الشعور بظلم الحياة ، ويصبغ كل شيء بصبغة الكآبة ، واذا هو في تكرار دائم لموجعات النفس والقلب ، وفي انسكابٍ دائم مع هذا التكرار ، فيتحول الحب الذي ارتمى فيه الى حافز تكرار ، وتتحول النغمة الشعرية الى انطلاقٍ ذهولي تترنّح فيه مزافر الحسرات ، وتتصابى فيهِ أوتار الوجدان في تفجُّر ذاتي شديد اللفحات .
وهكذا وبعد اطلاعنا على العديد من أشعار الأستاذ عمر رزوق الشامي فيما سبق ، نجد أنّه في هذه المجموعة الشعرية التي نحن بصددها قد تطوّر في شعره تطوّرًا ملموسًا ، وكان في اتجاهه الشعري هذا واضح الشخصية من حيث تعبيره عن مجالي روحهِ في أعماق هذا الوجود المتأرجح بأجوائه المنعكسة على حياة الواقع الانساني بمناحيهِ العاطفية والوجدانية والفلسفية .
ولا يفوتنا في ختام هذه المداخلة أن نقدِّم التحية الخالصة الى الكاتب الأستاذ محمد علي سعيد على كتابتهِ لمقدمة المجموعة الشعرية «دموع على الورق» والتي وضعها تحت عنوان (اضاءة على ديوان «دموع على الورق») متمنين له موفور الصحة والعمر المديد ، وللأستاذ عمر رزوق الشامي أجمل التحيات وأطيب التمنيات بالصحة والتوفيق ودوام العطاء والابداع .