الملك صاحب البئر

قصّة

ظننت سوءًا بنفسي حين تخيّلتً إنّي سمعت صوتا هاتفا في السحَر ينادي، وإن لم أكن من الغُفاة سَحَراً الذين ناداهم عمرُ الخيّام، فقد وجدّتُني وقد ظلمتُ نفسي، أُصيخُ لهتاف الصوت سيّما وأن في الصوت كان سِحْرا يؤرّق غُفاةَ الأنام ويَقَظّتَهم حقيقة ومجازاً كما قصد الخيّام.

لم يكن من الصعب عليّ أن أقررَ وبعد أن نفضَتْ نفسي الظنّ عن نفسِها، أنّ صاحبَ الصوت لا يمكن أن يكون عمرُ الخيام فالصوت لم يكن صوتَ رجل، ولا أمَّ كلثومٍ فالصوت لم يكن لامرأة. كان صوتاً هكذا بين صوت الرجال وصوت النساء وأقربَ إلى صوت الفتيان وصوت العذارى، له وقعٌ تقشعرّ له الأبدان رهبةً من الشجو والبحّة التي فيه.

أخذ منّي جهداً كبيراً لأستوعبَ ما يقول، وإذ به يهتفُ ويكرّر: “يا غُفاةَ البشر، الملك صاحبُ البئر في جهنّم!”. لم تسعفْني قدراتي السمعيّة أن أميّز إن كان في هتافه فرح أو ألم، ابتهاج أم احتجاج، وممّا صعّب عليّ التمييزَ هو ما لُبّيت به وعليه وتصعبُ مفارقتُه، عن صاحب الجنّة وجهنّم، الذي لا فرحَ ولا ألمَ على حكمة جائز ولا ابتهاجَ ولا احتجاجَ على إرادته جائز.

صحيح إنّي كنت ما زلت أتلذّذ بدفء فراشي الصباحيّ ولكن أبداً ما كنت غافياً، ولكن خوفا منّي على نفسي ومن نفسي، نفضت رأسي بشدّة مرّة ومرّتين وداعبتُ عينيّ وشددت أذنيّ مرّة ومرّتين، لا بل أكثرَ من ذلك رحت أتفقّد كلَّ أجزائي مرّة ومرّتين. ما كدت أطمئن وقد أضعت في حمأة الالتجاء إلى الاطمئنان الصوتَ، حتّى عاودني الهتافُ بنفسِ الكلمات ونفس الشجو ونفس البحّة: “ياغُفاةَ البشر، الملكُ صاحبُ البئر في جهنّم!”

هباءً ضاعت كلُّ محاولاتي إيجادَ صاحبَه أو حتّى إيجادَ الوُجْهَةَ الآتي منها. كان في كلّ الأنحاء، يأتيني من أمامي وخلفي، تحتي وفوقي، داخلي وخارجي. ووجدتُني أسأل وبصوت مسموع: “أيّ ملك هذا وأيّ بئر تلك؟!”

حينها، حين قبض الملك تلابيبَ عقلي، وقبضت البئر تلابيب روحي، وجهنّم تلابيب قلبي، بدأ الصوت، يبعدُ ويتراخى، يتلاشى صوتا وكلماتٍ إلى أن لم يبقَ منه إلا تردّداتٌ تعلو وتهبط تخالها من وقعها وكأنّها اعتلت أجنحة هبّات نسيمٍ في تهاديه الربيعيّ الباكر، وما فتأت أن تلاشت، وبدا لي وكأنّ الصوتَ بفعله هذا قد أتمّ المهمّة المناطةَ به، وقد وصلت فرحل!

تملّكتني رهبةٌ بمجرّد أن تساءلت: “ما لي وللملوك وللآبار وجهنّم؟”. لم تعفُ الرهبةُ عنّي إلّا حين رحت إلى مكنوز رأسي عن سِيَر الملوك الكثيرة التي أعرف، جاهداً أن أسبرَ الغور العميق وراء هذا الهتاف. وجدت في مكنوز عقلي الكثير من الملوك ممّن لا شكّ جهّنمُ مأواهم؛ مُستعبدي بشر وناهبي شجر وهادمي حجر، سالبي حيوات وحارقي مكتبات. ووجدت الكثير من الملوك يمرحون وجواريَهم وكلابَ صيدهم ودنانَ خمرهم وقلوبَ ضحايا سهامهم على الآبار، وهؤلاء على غالبِ الظنّ جهنّمُ مأواهم أيضا. لكنّي عجزت أو كدّت أعجز عن إيجاد ملك وبئر وجهنّمَ، يستأهل إيقاظ البشر وبعد هذا الحين، إذ ما لملوك اليوم وصولاً إلى أجداد أجدادهم والآبارِ وهم الذين ينعمون بالماء المقطّر ومن صنابيرَ من الذهب؟!

حين نزل كلّ هؤلاء وأولئك من حساباتي أوغلتُ في غياهبِ خلايا دماغي العتيقة أعتصر كلّ خليّة، وإذ بي أمام حكاية ذلك الملكِ الذي أفاق يوماً، وعلى ذمّة الراوي، ليجد كلّ أهل مدينته وقد أصابهم مسٌّ غيّر سلوكَهم وصار فيه خطرٌ على مُلْكه أو هكذا اعتقد. أجهد نفسَه وبعد لأْيٍ عرف من رئيس حرّاسِ بئر المدينة إنّه رأى ساحرة حول البئر ما فتأت أن ولّت هاربةً حين رأتهم، وحماية لنفسه من عقاب على إهمال، حكى إنّ الساحرة رمتهم بمسحوق أفقدهم القدرةَ على الحركة، وحين أفاقوا كان أهل المدينة قد وردوا البئر كعادتهم في الأصباح.

الحكاية تقول إنّ هذا الملك كان عادلاً يحبّ رعيّته وهي تبادلُه الحبَّ حبّين. أوليس العدلُ من أسماء الله؟! والحبُّ هو مصدرُه؟! فهل هذا هو المَلِك موضوع الهتاف؟! وإن كان، فكيف صارت جهنّمُ مقرَّه؟! أويستحقّ مثله جهنّم مصيراً؟!

هذا السؤالُ ألحّ عليّ فشرّقت وغرّبت، شمّلت وقبّلت، صعدت ونزلت ولا فائدة. لكني لم أكعُ وتحدّيت نفسي أن أجد الإجابةَ ومهما كلّفني الأمر.

وعدتُ إلى الحكاية أفتّش في ثناياها لأتذكّر: إنّ هذا الملكَ لم يجد طريقا للخروج من مأزقه أسهل من أن يشارك أهل المملكة الشربَ من البئر جريا على المقولة: “إنْ جَنّ ربعك جِن”، وهكذا صار.

عند هذا الحدّ أدركت لما جهنّمُ كانت مصيرَ ملكنا، وأكثرَ أدركت لما جاء الهتاف للبشر بعد أوان وقبل أوان. كنت ما زلت أنعم بدفء فراشي فنفضته عنّي، وقمت جرياً نحو بئر بلدتنا فوجدتها تعجّ بملوك ينهلون ويعلّون، ورعايا تهلّل وتكبّر، فحشرت نفسي ناهلًا وعالًّا مهلّلاً ومكبّرا!

سعيد نفّاع

أوائل تشرين الأول 2019

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .