أصالة الكلمة والإبداع في “غبار الثّلج” لمحمّد نفّاع

 

د. رباب سرحان

 

“غبار الثّلج” هو عنوان المجموعة القصصيّة الجديدة للأديب محمّد نفّاع. تضمّ المجموعة عشر قصص، يُواصل عبرها أديبنا مشروعه الأدبيّ الملتزم بقضايا النّاس العاديّين والتّعبير عن همومهم الحياتيّة، الاجتماعيّة، السّياسيّة والفكريّة. وكما في مجموعاته السّابقة، كذلك الأمر في “غبار الثّلج”، يبقى تشبّث الإنسان العربيّ الفلسطينيّ بأرضه وحقّه في العيش بكرامة، هو المطلب الأساس الذي لا يُساوِم عليه ولا يتنازل عنه. ويظلّ مكانه المفضّل والأثير هو الطّريق الوعريّ المتغلغل في بطون الجبال. فمحمّد نفاع “شلوشه في الأرض وفي الهواء كالشّجر. ليس عنده فخامات وجلالات وسموّات وعروش. عرشه هذه الجبال والمروج والوعر”. فالأرض بالنّسبة له هي الأمّ التي تداعب أبناءها وتهدهدهم، وهي الهويّة والجذور والوطن، وهي الحافظة للأسرار والرّسائل والأخبار والأفراح والأحزان ولغط الأيّام والدّهور.

هذا هو جوّ قصص محمّد نفّاع. الجوّ القرويّ بأشجاره ونباتاته وطيوره، بعاداته وتقاليده، بناسِهِ وأحاديثهم وأفراحهم وأتراحهم وسهراتهم على البيادر والسّطوح. شخصيّاته كلّها قرويّة، بسيطة ومرتبطة بالأرض.

حين قرأت المجموعة للمرّة الأولى، استوقفني هذا الأسلوب اللّاهث السّريع عبر الجمل المتتابعة المتلاحقة المندفعة باستمرار إلى الأمام، حتى نظنّ أنّ الأفكار قد هاجمت كاتبنا دفعة واحدة وخشي أن يغفل عن واحدة منها أو أن يفلت بعضها من الذّاكرة. ولأنّه مُصرّ، كما يبدو، على قول كلّ ما يريد، فقد حطّم في طريقه كلّ مبنى القصّة القصيرة التّقليديّة بركائزها الثّلاث الأساسيّة، وحرّر نفسه من قيودها المكبّلة وقوانينها الصّارمة، ومدّ مساحة نصّه على نحو يُتيح له ويُمكّنه من القول والاسترسال والاستعراض والاستطراد والتّنقّل بين الموضوعات بحرّيّة تامّة، حتى وصلت قصّة “غبار الثّلج” إلى إحدى وعشرين صفحة وقصّة “مدار السّرطان” إلى خمس وثلاثين صفحة.

محمدّ نفّاع في قصص المجموعة غير منفصل عن نصّه. فنحن نراه، نسمعه، نشعر به ويفرض وجوده، وأحيانًا يُصرّح بمواقفه كما في مستهلّ قصّة “بهار الشّمس”: “لا أعتقد ولا أومن بالتّقمّص، هذا كُفر وضدّ العقيدة، ومع ذلك هذا موقفي ولن يتغيّر”. وفي موضع آخر يقول: “أنا ضدّ التّمييز بكلّ أشكاله، يكفينا التّمييز في هذه الدّنيا الدّنيّة الفانية، لكن في الآخرة؟ اضطهاد وظلم؟! المفروض ألاّ تكون هناك عنصريّة وفاشيّة، ولا احتكارات وشركات متعدّدة الجنسيّات ولا عولمة وطبقات”. (ص 67) ولعلّ توظيفه للضّمير الأوّل في السّرد، في جميع قصص المجموعة، يُعزّز هذا الإحساس بحضور الكاتب في عمله، ممّا يُقرّب القارئ من النّصّ ويحقّق عمليّة التّواصل والتّفاعل بينهما.

يسحرنا محمّد نفّاع، وعلى امتداد قصص المجموعة، بهذا الدّمج المتكامل المنسجم بين المرأة والطّبيعة بكلّ عناصرها ومركّباتها، فجمال الطّبيعة وسحرها ينعكسان على المرأة والعكس صحيح. يقول: “الطبيعة في عزّ رونقها وجمالها، ووجهك الأبيض المحمرق في عزّ روعته.” (ص 18)، “وجهك فيه حومات النرجس وأريجه، وشذا القمح المزهر.” (ص 27)، “على خدودك البيضاء الطرية الناعمة وأنفك الناطر لثغرك حُمرة البرد والزمهرير.” (ص 19)، “انضمّ ضحكها إلى تغريد الزاغ الجماعي الملتهب”، “في أنفاسها نكهة جْرية الحمامة وعصاية الراعي والشبرق والغوَرْدة والبرقوق والدريهمة والقبريش وكروم فيروز وبير الجرمق وعيون الورقا والسمّورة وجرانة العصافير.. بدنها ناعم مترجرج كريش الوروار والصُّفر والكِرْكِس قلاب ذيله، والشحرورة المترنمة على التين البقراطي، ونور العنب القرقشاني والقُبر المتمرغ في الفلك ويرودح”. (ص 110) وغيرها الكثير.

تزخر مضامين قصص المجموعة بالقضايا السّياسيّة والاجتماعيّة والدّينيّة التي أوردها الكاتب بأسلوب ناقد ساخر متهكّم لا يخلو من غضب وسخط وألم. ولعلّ هذه القضايا مجتمعة تتلخّص في قوله الذي جاء في قصّة “نُواح الليل في نواحي الشمال”: “لم يكن ما يعكّر النفس إلاّ تلك الحالة المزمنة التي صارت عادة قبيحة ثقيلة نتعايش معها، انتظام عالمي جديد، ربيع عربي مضرَّج بالدّماء، فوضى خلاقة وبلاد مهدّمة، ومتمشيخون زعران ولقاميط”. (ص 100)

فنجده في القصّة نفسها ينتقد حالة العرب وشعور العربيّ بالدّونيّة أمام الآخر الأجنبيّ: “في كلّ عالمنا نحن، يوجد مراقبون دوليّون، العالم لا يصدّقنا، نحن مهزوزون مترنّحون فندلق في وجهه هذا الطلب، نصدّقهم تمامًا، ونتّكل عليهم، يجب أن نبيّض وجهنا عندهم، رضاهم من رضا الله”. (ص 95)

ويتابع في تعرية العالم العربيّ وانتقاد مواقف الحكّام العرب في قصّة “مدار السّرطان”: “وأنت مالَك وبلاد الشّام ولبنان وإيران!! اترك الأمر لطويلي العمر من أولي الأمر. ما شأنك فيما يحدث هناك!! يرمون الجنديّ من الطوابق العليا. ويشختونه من عنقه في عيد الأضحى والفطر وأيام العمرة وطويلي العمر. والمقاومة من دار عثمان تستجوب الصّبايا، تعذّبهن، تعرّيهن، تحضرهن للاغتصاب ويرمى الجسد المغتصب في المجاري والسّلام عليكم”. (ص 51)

ويسخر من التّهديدات العربيّة الجوفاء في قصّة “زهرة الهيمونغ”: “وهل وجدتم العدوّ أمامكم ولم تطلقوا النار لأنه ما معكو أوامر!! وهل قلتم سنرميهم في البحر ولم تفعلوا!! وهل خاطبتم السمك وقلتم: أبشر يا سمك البحر فستنال وجبة دسمة!!”. (ص 123)

وينتقد ذلّ العرب أمام الأمريكيّين وخضوعهم لهم: “هل تشترون وتكدّسون طائرات فاسدة عتيقة بمليارات الدولارات سنويًّا بضغط خفيف من الأمريكان!!” (ص 124)، “هل لديكم مجرمو حرب. وهل توصّلتم إلى اختراع طحن الماء!!”. (ص 124) “وهل تركتم شؤونكم وانخرطتم في مكافحة الإرهاب بناء على أوامرهم!!” (ص 124)، “وهل استقبلتم الأمريكان بالورود!! وهل أنتم سرطان في جسم الدولة. هل عندكم قرى غير معترف بها ومستوطنات معترف بها. وهل هنالك الكثير من هدم البيوت. هل لكم أصدقاء وكلّما كالوا لكم جريمة تكيلون لهم المديح تودّدًا وتقرّبًا!! هل شاركتم في غزو العراق وأفغانستان. هل تطلقون الرصاص على المتظاهرين المتضامنين معنا!! مثل غزة وجنين والقدس وصبرا وشاتيلا وبلفور والنكبة!!”. (ص 125)

وفي قصّة “مدار السّرطان” ينتقد الاتّكاليّة العمياء على الربّ حين التقى بمجموعة شباب يستمعون لنشيد جماعيّ ينطلق عبر المسجّل: “نمشي على ما يقدّر الله والكاتبُه ربّك يصير”. فكاد يسأل صاحب المسجّل، “هل كتب الله وجود الشمعدان في باب العمود!!”. (ص 34)

ثمّ يدين الاحتلال ويُوجّه سهام غضبه للجنديّ الإسرائيلي الذي يقتل الإنسان العربيّ على أهون سبب ويسخر من مصطلح “طهارة السّلاح” الذي يستخدمه المحتلّ ويعمل على إقناع الجميع به: “تخوّف الجنديّ إلى حدّ ما، هكذا يبدو. لماذا خاف!! إنّه يقوم بواجبه من أجل السّلام عليكم، وعليهم. قد يكون بالغ في الخوف. أكيد، فهنا طهارة سلاح. ومن الأمنيات الجسام أن يُقتل أهل باب العمود بسلاح طاهر مطهّر غير ملوّث كمياه غزّة. المهمّ أن يكون السّلاح طاهرًا. ومع أنّ الجنديّ يقوم وقام بواجبه في أعدل احتلال إلاّ أنّه خاف. وعليه أن يخفي الجريمة قدر الإمكان من أجل الحفاظ على طهارة السّلاح، الذي ظلّ طاهرًا في قانا وجنين ونابلس والشّام والأغوار وأرض الكنانة وتونس الخضراء وشاتيلا ونحالين وقبيّة والرّفيد”. ص (43-44)

وبلغة حارقة يقول: “هل تذكرين يا فدوى كيف أطفأت رصاصة المطاط عينك!! وهي جزء من طهارة السّلاح. وأصابع الجندي التي قلعت عينك، يبدو أنّه استعمل ثلاث أصابع!! هكذا يجب أن يكون. وأين رمى العين على كلّ حال، العين المقلوعة!! وأين سال ماؤها ودماؤها!!”. (ص 45)

ويتابع بألم: “إذا جاء الجميع من أمثالك فهذه مصيبة، كلّ الطّائرات لا تكفي للمراقبة والحفاظ على الأمن والسلام. من فقد عينه ويده ورجله أو حتى يديه ورجليه، أيّة حشود ستكون!!” (ص 46) ف “قلع العيون يحدث كلّ يوم، صار الأمر مألوفًا ممجوجًا عاديًّا”. (ص 47)

ويصوّر الوضع المؤلم الذي يعيش فيه الفلسطينيّ في الأراضي المحتلّة وقصف الطّائرات المستمرّ في اللّيل، وكيف يُحرم الطّفل من الحياة الطبيعيّة ويُسلب فرحة العيد. يقول: “كلاّ، الطّائرات لا توقّت الغارات، فكلّ وقت مناسب، وما ذنب الأطفال إذا تحلّقوا حول عشاء العيد، الفريد، ولماذا فقط الأطفال، وماذا مع الأمّهات والآباء، عندها أيضًا يحين حضور الطائرات، أحيانًا طائرة واحدة، والسماء في غزة تكفي لطائرة واحدة ولمجموعة كاملة. سماء غزة كالمعدة تتسع للقليل والكثير”. (ص 49)

ويستنكر القتل الموجود في كلّ مكان: في غزّة وسوريا والعراق ولبنان واليمن، ويؤكّد المعاناة الواحدة لابن صفد وابن الشّام فكلاهما شُرّد وهُجّر ودُمّرت بيوته وبلاده: “الفرن هامد داثر مغمى عليه، يومها كلّهم بدأوا بخراب صفد واليوم في الشّام. بقايا بيوت مبقّرة مقشّرة ومبقورة، بعضها يسكنها أغراب، أغراب جدًّا، فتبدو في غاية الغرابة”، وبكلمات مشحونة بالعاطفة الجيّاشة والألم الحارق يقول: “الدّمع يرشل من عيون الصّفديّة. وصفد تطلّ على الشّام وتقول: ديري بالك على حالك خيتة!!”. (ص 62-63)

أمّا رجال الدّين، فمكانهم محفوظ في كلّ عمل يُصدره محمّد نفّاع. فيسخر منهم وينتقد تصرّفاتهم وسلوكيّاتهم المشوّهة كالفتوى بالسّماح بجماع الميّتة قبل مرور ستّة أيّام على وفاتها في قصّة “مدار السّرطان”: “حلقة من ستّة شيوخ في بلد بعيد يعقدون جلسة حوار صاخبة: بعد مروركم من الوقت يجوز جماع الميّة!! حديث متداخل، مقاطعات وتعقيبات واجتهادات، يتكلّمون بأيديهم وعيونهم ولحاهم. بعد أخذ وردّ وتصويب وبسمات ورعة: لغاية ست ساعات من الموت المؤكّد يجوز الجماع، بعد ذلك لا يجوز إطلاقًا”. (ص 55) ويسخر من الشّيخ المحذّر من المتعلّمات “كاشفات الصدور والنحور، ممشوقات القدود ومبرزات العورات والنهود”. (ص 97) ويشبّه رجال الدّين برجال الشّرطة الذين يتربّصون للفتاة لتسجيل المخالفات والعقوبات. (ص 101)

ويسأل بغضب: “هل رجال الدين عندكم يحرّمون على النساء العلم والعمل والمقاومة!! وهل لديكم فتاوى تحلّل إقامة جدار الفصل منافسًا لجدار الفصل العنصري”. (ص 122) ولا يتردّد في الهجوم السّاخر على بعض المعتقدات الاجتماعيّة السّلبيّة الرّجعيّة المتخلّفة فيسأل في قصّة “”زهرة الهيمونغ”: “هل عندكم قتل على شرف العائلة!! وهل عندكم برايمرز للعائلة!! هل تقومون بختان الفتاة وطهورها حتى تنخفض درجة حرارتها كما في اليمن السعيد مثلاً وبقية الجيران هناك”. (ص 124-125)

ولا ينسى توجيه قرصة منبّهة إلى الإنسان الفلسطينيّ المحليّ وخاصّة الشّباب منهم، الذين يقلبون راءهم إلى غين، تشبّهًا باليهود لشعورهم بالنّقص وعدم الثّقة بالنّفس. يقول: “كأنّي سمعتها تلثغ لثغة خفيفة لطيفة بحرف الرّاء. تقلبها إلى غين، ليست ثقيلة كاليهود، والمتشبّهين بهم وبمبالغة غير متقنة كالفوضى الخلاّقة من أبناء جلدتنا، من لحمنا ودمنا”. (ص 103)

 

 

وتبقى اللّغة هي الملكة الجالسة على عرش أدب محمّد نفّاع. اللّغة عنده تتجاوز وظيفتها كوسيلة للتّنفيس والتّوصيل لتُشكّل جزءًا لا يتجزّأ من صميم عمله الأدبيّ. ولغة قصص المجموعة أخّاذة، ساحرة وهذا نابع من صدقها وأصالتها. حتى تكاد هذه اللّغة تأسر القارئ وتأخذ بأحاسيسه وتستولي على كلّ اهتمامه. لغة محمّد نفّاع في هذه المجموعة تسحبك، تشدّك إليها شئت أم أبيت. تفرض وجودها على النصّ. وإذا تساءلنا عن سرّ هذه اللّغة، الإجابة: لا يوجد سرّ وإنّما هذا هو محمّد نفاع، هذه لغته بالفطرة. تنساب وتتدفّق بكلّ سلاسة وطبيعيّة، ولهذا بالذّات هو الأديب الكبير المبدع المتميّز.

يبرع محمّد نفاع في توظيف اللّغة العاميّة في السّرد والحوار. ففي الوقت الذي تقرأ فيه مقطعًا سرديًّا فصيحًا، تقفز لك كلمة عاميّة تعمل عمل السّحر، فتُضيء النّصّ وتمنحه توهّجًا وإشعاعًا يُحوّله إلى صورة حيّة نابضة تتركك في حالة من الانفعال والدّهشة.

يقول، في مشهد يصف فيه المداعبة بين الأمّ وطفلها في قصّة “غبار الثّلج”: “الطفل بوجهه الحليبيّ الطريّ الهلامي يرقص على ذراع أمّه بحماس ينبض بالحياة. ويحكّ قدميه الصغيرتين الهشّتين الناعمتين كالحبق المسقيّ على بطنها. على ذلك الموقع الذي حمله. ويضحك بشهقات متقطّعة كالزّهزقة، ويخفق بيديه كفرفرة الجناح لفرخ حمام يتعلّم الطيران، يتعلم كيف يطير، ويضع كلّ قوّته عاملاً من بطن الأم وزنّارها درجات يدرج عليها إلى الحياة. ويشقرق طالبًا المزيد، ومن عينيه تنبعث نظرات من الجدّ والرّصانة. بماذا يفكّر؟! وما معنى تلك النبرات والكلام المقطّع، وثغره الأدرد الورديّ يغرّد، ويملّي نظره الفوضويّ من ذلك الوجه الباسم الطافح والمضرّج بموجات متلاحقة من الحنان وعاطفة الأمومة الغامرة. والأمّ تغفّ عليه وتضغطه إلى صدرها وتشمّه في شهقات دافقة بينها تواصل عطر خافق. وهات يا قبلات دامعة آتية من صميم القلب”. (ص 12-13)

وفي وصف محبوبته في قصّة “نواح الليل في نواحي الشمال” يقول: “جميلة وهي نائمة، وهي غافية، خصلة من شعرها راحت في قبلة طويلة مع صفحة الخدّ والجبين، رموشها تحرس عينيها بمنتهى الحذر، في شفتيها سُمرة خفيفة كاللمام. نتف من الغمام الشارد يمرّ فوق وجهها اليانع الطري، سؤال خاطر، بعضها يخفّف من مساره، أعجبه المكان، أعجبه الجبين الأبيض الطّريّ، والخدود الغافية في نوم الهنا، والثغر الذي خرجت منه كلمات كبيرة، فيها نعومة وشراسة، هكذا هي الحياة، شفتها العليا عريضة، بهيّة… وهي تنام في الفلا، خيّة يا ريم الفلا وقّف تشوف”. (ص 92)، ووصفه للغيم في القصّة نفسها: “الغيم معلّق ومتعربش بإتقان على الجبال”. (ص 88)

وفي مشهد للغزلان في قصّة “لمن تُعقد غُصون الرَّتَم؟” يقول: “رأيت الكثير من الغزلان في مواقع البلد البعيدة، تشرد بسرعة، تتطلّع للحظة قصيرة، توتّر أذنيها وهات يا قفزات راكضة كأنّها تسبح في الهواء”. (ص 137)

لغة الحوار في قصص المجموعة كما ذكرتُ هي اللّغة العاميّة التي تُدخلنا إلى واقع القرية التي عاشت فيها شخصيّات القصّة. مثال على ذلك في هذا المشهد الطّفوليّ الجميل بين الرّاوي والفتاة التي يحبّها في قصّة “غبار الثّلج” في محاولته لمسك يدها:

  • فلّت إيدي، قلنا مش بردانة وحياة الله!! إئئيه

لكن كيف أفلت هذه النّعمة! والطبيعة هادئة رزينة.

  • إيدك ما أطراها! وأصابعك تُلاوص لتهرب وتفلّ..
  • بلا كذب، خشنات مش طرايا!
  • لأ طرايا وناعمات ومثلّجات، بدّي ألاعبهن “قريمشة يا منيمشة.. خبّي إيدك يا عروس يا ام الذهب والدّبّوس فرّ يا حمام”.

وأيّ ذهب!! والثّلج أشلب من الذّهب.

  • كيف تلاعبهن مش على قدّ خاطرك!!
  • هيك بحبّهن. فش أحلى منهن”. (ص 21-22)

أمّا القُبلة فقد حصل عليها “بعد حومات واسعة رحبة، فيها الصّدّ والردّ، والكرّ والفرّ، يجري اللّقاء مع ثغرك، مع عش النسر المنيع، يتعايش بوئام مع فرخيْ اليمام. وعلى وجه الجبال، على جبهتها ووجناتها وثغرها بسمة وقورة محتشمة، وشحرورة تسترق النّظر من القيلولة، تطلّ علينا متسائلة مستفهمة: “ولكو شو بتسووا هيك”، ثمّ تزغرد من قراقيح قلبها وتطير بلَهْوَجَة وبربرة تنشر الأخبار وتكشف الأسرار. معزّرة الشّحارير!!”. (ص 27-28)

 وهكذا يسحبنا محمّد نفّاع معه، بهذا الأسلوب وبهذه اللّغة الفاتنة الصّادقة العفويّة من حيث لا نشعر…

 

ولكن، وسط كلّ جوّ الفرح هذا هناك حزن وخوف يلوحان في الأفق. حزن على كلّ جميل وأصيل مضى ولن يعود، وخوف على ضياع القليل ممّا تبقى منه. هو خوف من الآتي المجهول في حياة تتغيّر وتتطوّر وتتبدّل باستمرار. فنجده يحنّ إلى الماضي البعيد ويستحضره: “ها نحن نمشي على نفس الطّريق، بعد خمسين سنة من ذلك اليوم. كم من أحوال تغيّرت، وأحداث جرت، وهل نحن تغيّرنا؟!! وهل حتّت الأيّام وحكّت في المكان؟”. (ص 9) ويعتب على الأيّام التي تمرّ ليكبر كلّ عام، فيجهد في إقناع نفسه أنّ الأمور على ما يرام. ولكن يبقى شيء يُعكّر النّفس ويوجع القلب. (ص 105) ونكاد نلمح دمعة تسقط من عينه في قوله لأحفاده في قصّة “حجارة كفريّة”: “عشبوا على عروق الزتون يا أولاد!! الأرض بتضحك إلها ولحالها”، “عشبوا تحت الزتونة منيح!! خليها تظل تضحك…” (ص 116-117)

ليتبعه قول الأحفاد: “ليكو، سيدي إخوث!! ببكي وهو يضحك وبضحك وهو يبكي…”. (ص 117)

فهل يعيش كاتبنا في قصصه هذه حالة من النوستالجيا؟ وهل يعاني بناءً على ذلك، حالة من حالات الاكتئاب؟ كما يُفسّر ذلك الطبّ النّفسيّ؟

 

كلمة لا بدّ منها

أحرص في كلّ مرّة أدرّس مساق القصّة القصيرة، سواء العربيّة أو المحلّيّة، أن أُمرّر قصّة للأديب محمد نفّاع. وفي كلّ مرّة أجتهد في البحث عن القصّة الأقلّ “وعريّة” بين قصص المجموعة، وأنا أتخيّل تعابير وجوه الطلاّب، وذوق هذا الجيل الجديد الذي لا يقرأ بصفة عامّة، ومدى تقبّلهم للقصّة. وهكذا في كلّ مرّة يؤرّقني السّؤال: ما هو مصير أدب محمّد نفّاع؟ وأين هو من مقولة “الأدب مرآة العصر”؟ وهل عدم مواكبة أدبه الحياة الجديدة سيجعل قيمته تتلاشى؟ هل نستطيع أن نقرأ أدب محمّد نفّاع في كلّ وقت وفي كلّ عصر؟ أم سينتهي عصره كما انتهى وولّى عصر الأدب الأندلسيّ مثلاً؟

لو وقفنا على محور الوقت أو الزّمن وتابعنا أدب محمّد نفّاع منذ بداياته لوجدنا أنّ أدبه ينتمي إلى حقبة محدّدة من الزّمن، ما زال الكاتب يعيش ويُعيِّش شخصيّاته فيها، على الرّغم من كلّ التطوّر الذي طرأ على الحياة القرويّة وخروج القرويّ للعمل وتبدّل الكثير من العادات وتجدّد المفاهيم، وزيادة عدد المتعلّمين والعاملين، وحقيقة أنّ المجتمع القرويّ بصفة عامّة آخذ في الاندثار لصالح التمدّن. هذه الحقيقة، أو هذا الواقع يقود الباحث إلى تناول أدب محمّد نفّاع على مستويين: المستوى العامّ والمستوى الخاصّ. ففي المستوى العام يُعتبر أدبه تأريخًا وتوثيقًا وتسجيلاً وحافظًا لتراث القرية الفلسطينيّة بكلّ مركّباتها. وعلى المستوى الخاصّ يجد القارئ في أدبه عالمه المفقود الخاصّ به، ويحنّ إليه ويشتاقه سواء عاش هذا الزّمن أو سمع عنه من كبار السّن كوننا نعيش في مجتمع عربيّ فلسطينيّ ملتصق بالطّبيعة والأرض أكثر من غيره.

 

وبعد،

من يشدّه عبق الحنين إلى ذلك الزّمن الجميل والحياة ببساطتها وطيبتها ونقائها، فليقرأ أدب محمّد نفّاع. أحنّ، شخصيًّا، إلى تلك الحياة الجميلة المرسومة في صفحات قصصه فتغدو لي حلمًا جميلاً ناعمًا أتمنى تحقيقه وسط هذه الحياة الضّاغطة اللاّهثة الرّاكضة التي تكاد تودي وتُذهب بكلّ ما هو جميل وصادق وعفويّ بين البشر. في أدب محمّد نفّاع، وعبر لغته الجميلة الدّافئة المُطَمْئِنة، أجد السّكينة وهدأة البال، فهناك يكمن جمال العيش وجوهر الحياة.

وبقي أمر واحد: قرأت معظم ما كُتب عن أدب محمّد نفّاع وخاصّة ما كتبه النّاقد الدّكتور نبيه القاسم الذي رافق الكاتب منذ بداية مشواره الإبداعي وحتى اليوم، كذلك ما كتبه البروفيسور إبراهيم طه، ووجدت أنّ مجموعته الجديدة “غبار الثّلج” تشترك مع سابقاتها في الكثير من الجوانب التي أُشير إليها سواء بالإيجاب أو السّلب. وعليه، لن أُطالب كاتبنا بالتّجديد أو التّحسين، وإن كُنت أرغب بذلك، لأنني أتصوّر محمّد نفّاع يقول: “أنا هيك.. اللي عاجبه منيح واللي مش عاجبه مشكلته”. والحقيقة أنّه لا بأس في ذلك، ما دام محمّد نفّاع يواصل إدهاشنا وسحرنا في كلّ عمل أدبيّ جديد يُصدره، وما دامت هذه الأعمال لا تنفكّ تمنح أدبه تميّزًا وتفرّدًا ورونقًا خاصًّا.

ولذلك أقول لك أديبنا العزيز: ابق على جبل الجرمق ولا تترجّل عنه! طالما تمدّك حفنات ترابه وكومات حجارته ورشقات رياحه ورائحة أشجاره ونباتاته بأصالة الكلمة وروعة الإبداع.

 

(نصّ المداخلة التي أُلقيت في حيفا، في أمسية إشهار كتابي “غبار الثّلج” و “جبال الرّيح” لمحمّد نفّاع، بتاريخ 12.9.2019 في نادي حيفا الثّقافيّ).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .