هذا العنوان “تدريز العرب المسيحيّين في إسرائيل”، هو عنوان دراسة بالإنجليزيّة للباحث في معهد هاري ترومان لدفع السلام في الجامعة العبريّة؛ الدكتور يُسري خيزران، أرسلها لي قبل أيام للاطلاع، وبعد أن كان نشرها مؤخّرا في مجلّد؛ دراسة إسرائيليّة رقم 24 عدد 3 ص75-100، وحملت العنوان الانجليزي:(The Druzification of Arab Christians in Israel in The Wake of the “Arab Spring”)
الدراسة ومن خلال قراءتي إيّاها، بإنجليزيّتي المتواضعة، هامّة وتقرع بابنا (خزّاننا) كعرب نواجه في بلادنا تحديّات جمّة تطال شكل وجوهر وجودنا، ولن يوفيها ما أنا متناوله منها هنا حقّها. هذه الدراسة الهامّة والضافية أعادتني إلى مقالة كنت تناولت الموضوع فيها من زاوية أخرى نُشرت يوم 26 آذار 2010 حملت عنوان؛ “التوأم العربي المسيحي… ما نعرفه ونخاف أن نجهر به!”، ضمنتها لاحقا كتابي الصادر عام 2012 مع تعقيب عليها للقاضي خليل عبود، كتاب حمل عنوان؛ “بين يهوديّتهم وطوائفيّتنا وتحديّات البقاء- مقالات دراسيّة (درامقاليّات)”.
الدراسة والمقالة ورغم البعد الزمنّي والحدث المهم الفاصل بين زمنيهما؛ “الربيع العربيّ”، تتقاطعان في العديد من المحطّات، مع فارق طبيعيّ وهو أن الدكتور خيزران تناول الموضوع بعين الباحث بينما كنت تناولته أنا بعين السياسيّ. وأرى اليوم أنّ حاجة وطنيّة قائمة لتناولِ الموضوع مجدّدا لأنه لم يزلْ على جدول أعمالنا، ومن خلال الفرصة التي أتيحت عمليّا على يد الدكتور خيزران بدراسته الهامّة اللافتة، بعنوانها ومضامينها، تناولا من خلال المزج بين أطروحات الدراسة والمقالة.
الدكتور خيزران يكتب في مطلع دراسته (ترجمة وأتمنى ألّا أسيء):
“لبحث إسقاطات “الربيع العربي” على العرب المسيحيّين في إسرائيل، تطرح هذه الورقة (الدراسة)؛ إن إسرائيل رأت أن تستخدم التأثيرات الفوضويّة الأنارخيّة التي خلّفها، كيّ تروّج ليس فقط لمشروع التجنيد بين العرب المسيحيّين، وإنّما كيّ تكرّر (تعيد) “سياسة التدريز” تجاه العرب المسيحيّين. المؤسّسة الإسرائيليّة منذ انفجار الهبّات الشعبيّة، طبّقت ثلاثة أبعاد سياسيّة تجاه العرب المسيحيّين؛ تنظيم الخدمة العسكريّة التطوعيّة، وتعريف العرب المسيحيّين كفئة مغايرة في سلك الخدمات العامة، والاعتراف بهويّة قوميّة جديدة للعرب المسيحيّين.”
كنت استهللت مقالتي المذكورة وفي هذا السياق، قائلا:
“العرب المسيحيّون والعرب المسلمون في الشرق كانوا على مدى القرون توأمين سياميّين حياة وفكرا فرحا وهمّا رغم كل التداعيات والتحديّات التي واجهت هذا الشرق بصراعه المستمر مع الغرب، ورغم العوامل المحليّة الطوائفيّة. ما نعرفه كلنا في كل أرجاء وطننا العربيّ أنّ التواجد العربي المسيحي في شرقنا في تناقص عدديّ وليس لأسباب بيولوجيّة، ونحن نعرف هذه الحقيقة ونعرف أسبابها ولكننا نخاف قول بعض الأسباب جهرا.
هذا التناقص ليس خاصّا بمنطقة أو ببلد وإنما يشمل كل أماكن التواجد من العراق شرقا وحتّى مصر غربا مرورا بفلسطين مولد السيّد المسيح (ع) والمسيحيّة ونقطة انطلاقها. وقد طفا الموضوع مؤخرا وكثرت الاجتهادات فيه لدى الكثير من القيادات العربيّة المسيحيّة في المنطقة والقيادات الدينيّة المسيحيّة حتّى أعلاها، سيّد الفاتيكان.
الحفاظ على التواجد العربي المسيحيّ في المنطقة هو ليس فقط عاطفيّا ومن منطلق كونهم توأما لنا وإنما كذلك من كون هذا التواجد من مصلحة التوأم الآخر المسلمين على مذاهبهم، وبالذات والإسلام يتعرّض لحملة تشويه منهجيّة تلعب الحركة الصهيونيّة دورا فاعلا فيها.”.
في هذا السياق يكتب الدكتور خيزران:
“التأثير الفوضوي والإسلامويّ الذي رافق الهبّات في “الربيع العربيّ” عمّق الإحساس لدى العرب المسيحيّن بالإقصاء والاغتراب، وأثار أسئلة أساسيّة حول مستقبلهم في الشرق الأوسط. هؤلاء الذين رأوا ولعقود، إعادة تشكيل البيئة والمحيط وأوجدوا طرقا تكافليّة تكامليّة فيهما، يكافحون اليوم لمجرّد بقائهم في هذا المحيط”.
ينتقل الدكتور خيزران للعرب المسيحيّين في البلاد، فيكتب:
“انهيار المجتمع المدنيّ نتيجة حرب 1948 خلق فراغا قياديّا اجتماعيّا والذي سمح للمسيحيّين أن يلعبوا دروا قياديّا في الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة للأقليّة العربيّة في إسرائيل، وبالأساس في منظمات مختلفة ارتبطت في الحزب الشيوعي. العرب المسيحيّون كانوا مميّزين بمستواهم الثقافي العالي، والمواصفات المهنيّة، ونمط سكن مدنيّ ونسبة ولادة- الأدنى في إسرائيل 1.9%. واليوم هم حوالي 167,000 عربي مسيحي بقوا في إسرائيل والضفّة الغربيّة؛ 115,000 في إسرائيل الغالبية في الجليل، والمتبقّون شرق القدس (10,000)، الضفّة الغربيّة (40,000)، وفي غزّة (2,000). في المكانين؛ إسرائيل والضفّة وغزّة يشكّلون أقل من %2. في إسرائيل موضوع بحثنا يشكّلون %8.2 من العرب”.
وأمّا في المقالة جاء:
“موضوع هذه المقالة هو التواجد في بلادنا فلسطين، ففيها لم ينج الكثير من المسيحيّين من التهجير النكبويّ في ال-1948 والكثير من قراهم هُجّرت أسوة بالقرى الأخرى وحملوا همّ ونتائج النكبة تماما كما حملتها بقيّة شرائح أبناء شعبنا. لكن التناقص في عدد من تبقى منهم في البلاد ممّن تبقى بعد النكبة من أبناء شعبنا، يثير الكثير من التساؤلات التي نعرف إجاباتها وفي الكثير من الأحيان نخاف الجهر بها. الخوف من الإفصاح عمّا نعرفه في هذا السياق حتى لو كانت معرفتنا منقوصة، عامل مقو لهذا التناقص وربما أن الانتقال من المعرفة الذاتيّة إلى القول العلن يعزز هذا التواجد ويوقف الهجرة المتزايدة ويقي البيت.
المعطيات التي نشرتها مؤخرا دائرة الإحصاء المركزيّة والمعطيات التي جاءت في استطلاع الدكتور جريس خوري ونشرتها صحيفة “حديث الناس” يجب أن تقلقنا جميعا وتدفعنا للجهر بأسباب أساسيّة ودون مواربة، وانطلاقا ليس فقط من ألم فقدان التوأم حياة وفكرا وإنما مصلحة كما قلت أعلاه. فحسب هذه المعطيات:
في العام 1950 كانت نسبة السنّة من عرب ال-48 %70 والمسيحيين %21 والدروز %9.
في العام 1970 صارت نسبة السنّة %75 والمسيحيين %17% والدروز %8.
في العام 1990 كانت النسب على التوالي %78، %13، %9. (عدم التناسق بين هذه النسب وما قبلها نابع من شمل سكان القدس وسكان هضبة الجولان في الإحصاء).
في العام 2008 كانت النسب على التوالي %83، %8، %8.
ومن المتوقع أن تكون العام 2030: %86، %7، %7.
تزايد الأقليّة العربيّة في ال-2008 جاء بالأساس نتيجة طبيعيّة للتوالد والوفيّات 39,000 ولادة و-4,000 وفاة، ونسبته 2.6% في هذه السنة (2010) في حين كان 3.4% بين السنوات 1996-2000 وللمقارنة فعند اليهود كانت النسب على التوالي 1.8%، 1.7%. أما النسب فيما بين توائم الشعب الفلسطيني فهي كالآتي:
المسلمون: 3.6% في الأعوام 1996-2000 تراجعت إلى 2.8% في العام 2008.
المسيحيّون: 1.9% في الأعوام 1996-2000 تراجعت إلى 1.3% في العام 2008.
الدروز: 2.4% في الأعوام 1996- 2000 تراجعت إلى 1.8% في العام 2008.
نرى أنه منذ سنوات الخمسين تزايدت نسبة المسلمين السنّة من بين فلسطينيي البقاء ونقصت نسبة المسيحيين وحافظ الدروز على نسبتهم أخذا بالحسبان شمل 20,000 درزي في هضبة الجولان المحتلّة وقرابة ال- 250,000 مسلم ومسيحي في القدس الشرقيّة المحتلّة.
في مقالة لي نشرتها قبل مدّة (قبل نشر المقالة) تحت عنوان: “كيف تفكك إسرائيل القنبلة الديموغرافيّة؟” عالجت موضوع هذا التراجع لدى العرب مجتمعين بعمق. وما حداني على معالجتي هذه هو هذا التراجع الكبير في نسبة توأمنا المسيحي، من 21% بعد النكبة إلى 8% عام 2008 والمتوقع ل-7% عام 2030. الأرقام أعلاه تفيدنا أن نسبة الزيادة الطبيعيّة المنخفضة عند هذا التوأم لا تودي ولا بأي شكل من الأشكال إلى هذا التدني بمقدار الثلث.
ما نعرفه هو أن السبب الرئيسي لهذا التراجع هو الهجرة الواسعة بين المسيحيين والقليلة نسبيّا عند السنّة وشبه المعدومة عند الدروز. والسؤال هو: هل هذا نابع ممّا نقوله ونفصح عنه مثلا عن إمكانيّة أوسع لديهم للاندماج في المجتمعات الغربيّة لأسباب دينيّة؟ أو أنّ التفتيش عن مستوى حياة اقتصاديّ أفضل هو السبب؟
ما من شكّ أن نسبة المتعلمين بين المسيحيين كانت وما زالت الأعلى بين كل توائم أبناء شعبنا ويكفي للدلالة أن نسبة الحاصلين على شهادات ثانوي مؤهلة للجامعات للسنة الدراسيّة 2007\2008 وصلت بين المسيحيين إلى 53%، بينما وللمقارنة وصلت عند المسلمين إلى 31% وعند الدروز إلى 37%. أما عند اليهود فإلى 48% وهذا يعود لشمل الوسط الديني المتشدد وبلدات التطوير، ففي البلدات المتمكنة تصل النسب إلى فوق ال-80%. فمبدئيا هذا التحصيل يؤهل الشباب العرب المسيحيين في كل المجالات فلماذا يفضلون مع ذلك الهجرة؟”
الدكتور خيزران يقول في هذا:
“رغم وضعهم المتحضّر، ومستواهم الثقافي العالي، وبروزهم في تاريخ الحركات الشيوعيّة في فلسطين تقليديّا والذي ضمن لهم مكانا مفتخرا في السياسة الداخليّة العربيّة والتمثيل في الكنيست، فدورهم الفاعل والأولي بدأ بالتضاؤل في الثمانينيات من القرن الماضي… ورغم ذلك ظلّوا محافظين على ريادتهم الثقافيّة والاقتصاديّة قياسا بالمجتمع العربي الآخر. بالرغم من ذلك كثيرون هاجروا من إسرائيل قياسا بالدول المجاورة، ليست هذه مغادرة جماهيريّة، وعددهم المتدنّي ناتج أولا وقبل كل شيء بسبب نسبة ولادة منخفضة.”
الخلاصات هنا مختلفة، ففي حين يذهب الدكتور يسري إلى أن عددهم المتدني يعود أولا وقبل كل شيء إلى تدنّي نسبة الولادة، عزوت أنا ذلك إلى الهجرة “القسريّة” في غالبها.
ففي المقالة جاء:
“على ضوء ذلك فالأسباب المعروفة والمتداولة والمُفصح عنها هي جزء من السبب ولكن السبب الأساسي والحقيقي لهذه النتيجة متعلق بالشعور بالاغتراب والأكثريّة هي المسؤولة. لقد فقد شعبنا لفترة توأما آخر هم العرب الدروز لأسباب كثيرة سلطويّة وذاتيّة، ولكن لا يمكن أن نبقى طامري الرؤوس في الرمال معفيين أنفسنا كأكثريّة سنيّة من المسؤوليّة إذ تساوقنا مع فصل التوأم هذا، وحتى عندما يحاول وبجد الرجوع إلى مكانه الطبيعيّ لا نجد الاستعداد المطلوب لعودته إن لم يكن أكثر من ذلك. فهل نحن في طريق فقدان التوأم الآخر العرب المسيحيين؟!
في استطلاع للرأي نشر مؤخرا كما ذكرت للدكتور جريس خوري جاءت النتائج:
72% من الشباب المسيحيين يشعرون بالضياع من حيث الهويّة والانتماء.
46% يرون في المركب المسيحي أولا في هويتهم.
29% يرون في المركب العروبي أولا في هويتهم.
10% يرون في المركب الفلسطيني أولا في هويتهم.
و-83% يرون أن العلاقات مع المسلمين والدروز قد ساءت في السنوات الأخيرة، و-%61 يرون أن التعصّب الديني لدى الطوائف ينبع من الجهل الذي يعاني منه كل طرف في نظرته للآخر.
هكذا كان الوضع وقبل “الربيع العربيّ” وإفرازاته الكارثيّة بشكل عام وعلى المسيحيّين وغيرهم من الأقليات بشكل خاص، ولك أن تتخيّل عزيزي القارئ النتائج لو أن هذا الاستبيان نظّم اليوم!
اعتادت قرانا المتجاورة قبل ال-48 ونتيجة لظروف الحياة وضعف الحكم المركزي أن تعقد تحالفات بينها للدفاع عن أنفسها، ولم تكن لهذه التحالفات صبغة دينيّة والتاريخ القريب يعرف “حلف الدم” الذي كان بين بيت جن الدرزيّة وسحماتا المسيحيّة وعرابة السنيّة. فكيف يصير 83% من الشباب المسيحيين يرون أن العلاقات ساءت؟ وأكيد أنّ نسب متقاربة كنت ستجدها عند الشباب السُنة والدروز لو استطلعت آراءهم!
الدكتور جريس يعزو هذه النتائج فيما يعزو إلى أسباب تقليديّة نعرفها مثل مناهج التدريس وغيرها، ولكنه يشير وب-“حياء” إلى دور القيادات العربيّة المقصّر في تعزيز الشعور بالانتماء وإلى تنامي الحركات الإسلاميّة التي تتوجه فقط للمسلمين. يمكن أن نتفهّم هذا “الحياء” عند الدكتور جريس لكنه زاد عن الحد في حيائه.”
الدكتور خيزران يتعرّض لدراسة الدكتور خوري في ص86 ولكن ليس بالتفصيل الذي جاء أعلاه، ويعتمدها سندا لما ذهب إليه في طرحه، كما يعتمد أخريات كثيرة لأكاديميّين يهود وعرب مسيحيّين. ويتقارب هنا إلى العوامل الداخليّة والتي سبقت “الربيع العربيّ” والتي آلت بنا إلى الوضع الذي نحن بصدده، والذي كنت اعتمدته أنا خلفيّة. فيكتب، وإن في سياق تزايد أعداد المتطوعين للجيش، يكتب بتصرّف:
“رغم أن التراجع في الثقة بالنفس والذي حصل عقب الهبّات الشعبيّة المذكورة، إلا إنّ التحوّل الذي بدأ في الثمانينيّات، عزّزته الهجمات التي تعرّض لها المسيحيّين تتابعا وفي بلدات عدّة على يدّ سنّة ودروز بدء بكفر ياسيف عام 1981 وانتهاء بشفاعمرو عام 2009 وفي مركزها الناصرة عام 1999.”
أمّا في المقالة فجاء:
النتائج أعلاه هي تماما التي أرادتها الحركة الصهيونيّة وقبل قيام الدولة بكثير، ففي عام 1920 وإثر انتفاضة أبناء شعبنا التي سُميت “ثورة القدس”، زار وايزمن رئيس المنظمة الصهيونيّة البلاد متفقدا باحثا عن السبل الكفيلة بتسهيل قدوم اليهود، وقد وجّه لجنة المندوبين في المنظمة الصهيونيّة لتحضير برنامج عمل بين عرب فلسطين جاء في هذا البرنامج:
“يجب تنظيم أواصر صداقة مع العرب وبث روح العداء بين المسيحيين والمسلمين وتعميق الفارق في المجتمع الفلسطيني عن طريق إبعاد البدو عن باقي العرب وزرع الفتن بين المسيحيين والمسلمين والدروز”.
عدوّنا لم ينوِ لنا الخير ولا ينويه وهذا أمر مفروغ منه تاريخيّا وحاضريّا ومستقبليّا كذلك، ولكن هل نحن ننوي الخير لأنفسنا؟
في مذكراته يروي المغفور له الحاج أمين الحسيني كيف كان الإنجليز يطلقون سراح مجرمين من السجون ويسلّحونهم ويوجهونهم للقيام بالاعتداء على المسيحيين ويروي حادثة عينيّة وكيف أوكل المجاهد عبد القادر الحسيني القضاء عليهم، وليس الحال بمختلف اليوم وإن اختلفت طرقه وأدواته.
المعطيات أعلاه لا تشير إلى أننا ننوي الخير لأنفسنا ويجب أن نقولها وبدون حياء ولا مواربة ولا تورية ولا ديماغوغيّة: إنّ فقداننا هذا التوأم نابع كذلك وبالأساس من تعاملنا نحن أبناء المذاهب الأخرى مع توأمنا هذا. فما حدث في الناصرة في قضيّة شهاب الدين وما حدث في المغار وعيلبون ومؤخرا في شفاعمرو من اعتداءات وما حدث ويحدث في طرعان واعبلين من صراعات، وهكذا في نجع حمادي في مصر ونينوى في العراق، عوامل أساسيّة إن لم تكن الأساس في فقداننا هذا التوأم الهام جسديّا ومبدئيّا ومصلحيّا كذلك، وفقط لأنه “شريك” مع الغرب في الانتماء الدينيّ وكأننا بذلك نقتص من الغرب ولكن على طريقة “ما يقدر على الثور فينطح العجل”، لكن هذا ليس معناه أن يتقوقع كذلك هذا التوأم اجتماعيّا وحتى اقتصاديّا ومهما كانت الظروف، ففي الكثير من الأحيان تُسمع هذه الادعاءات تجاهه ودون علاقة للاعتداءات أو الصراعات وفيها الكثير من الصحّة.
لا يقلّ عن هذه الأسباب الخطاب الدينيّ الإسلامي المحض كذلك في المناسبات الوطنيّة لدى الكثير من القيادات الإسلاميّة الوطنيّة وهذا ما أشار إليه الدكتور جريس ولكن كما قلت ب-“حياء”، ولدى الوطنيّة العِلمانيّة وحتى القوميّة منها. ممّا يولد تساؤلا شرعيّا لدى أبناء هذا التوأم الوطنيين منهم قبل الآخرين: إذا كان لا بدّ فلما الاقتصار على جانب؟!”.
بعد هذا الاستعراض الجزئيّ المتقاطع والمتعارض بين الدراسة والمقالة، ودخولا في قراءة الطرح المركزيّ للدراسة “تدريز العرب المسيحيّين“، فدكتور خيزران يتناول إضافة وبتوسّع، وباجتهاد يُغبط عليه، معتمدا على العشرات من المصادر البحثيّة، يتناول الجوانب المختلفة للعرب المسيحيّين في المنطقة ومن ثمّ في إسرائيل، ليصل إلى لبّ دراسته. فيقول في دراسته، وبتصرّف:
“إنّ تحييد العرب المسيحيّين عن فضائهم العربيّ ليس جديدا على المؤسّسة الإسرائيليّة وتعود بداياته حسب قوله إلى العام 1950 وما بعدها، ومن بين الوسائل كان محاولة تجنيد أو فرض التجنيد على العرب المسيحيّين. يتناول الطرح ومن ثمّ يتناول أسباب فشله ويعزو ذلك لعوامل أساسيّة ثلاثة؛ موقف الكنيسة، والنخبة العربيّة المسيحيّة، والوضع الحضاري الاقتصادي. عوامل ثلاث افتقدها العرب الدروز.”.
ويتابع ومرّة أخرى بتصرّف:
هذا الحلم (حلم المؤسّسة) لم ينزل عن جدول أعمالها، فاستغلّت الظرف الموضوعي حول التراجع في المكانة والمركزيّة في المشهد السياسي والاجتماعي للعرب المسيحيّين بين الأقليّة العربيّة، والذي ترافق لاحقا بأعمال عنف متنقّلة، ولكن دون كثير نجاح. غير أنّ نتائج وإسقاطات “الربيع العربيّ” طالت كذلك المسيحيّين هنا وعلى الأقل في تعزيز الاعتقاد عند أوساط أن إسرائيل هي المكان الوحيد الآمن للعرب المسيحيّين. وبحكم ترسّخ حكم اليمين في هذه الفترة واعتمادا على أدبيّات كانت صدرت عن آبائه الفكريّين والسياسيّين في السياق، بدأت المؤسّسة الإسرائيليّة استعمال السياسة التي اتبعتها مع الدروز وإسقاطها على المسيحيّين وبكلّ مركّباتها، أي؛ “تدريز العرب المسيحيّين“.
الباحث وبعد أن يضع خلفيّة موسّعة ل- “التدريز” عند الدروز متناولا إيّاه من كلّ الجوانب؛ التاريخيّة والاجتماعيّة وبالتالي النتائج. بعد هذا، يتناول وبتوسّع محاولة إعادته وتكراره تجاه العرب المسيحيّن، وإن لم تنجح قبل “الربيع العربيّ” رغم كلّ ما واجه العرب المسيحيّون، فوجدت في إسقاطات “الربيع العربيّ” فرصة سانحة لاستكمال ما كانت بدأت، وآلياتها هي الآليات التي استعملت ونجحت عند الدروز اعتمادا على ظرف تاريخيّ محدّد. هذه السياسة وإن حقّقت في جزء من جوانبها نجاحا محدودا ينعكس في تزايد عدد الشبّان المسيحيّن المتجنّدين تطوّعا للجيش الإسرائيلي، ففي الفترة ما بين حزيران وحتّى كانون أول 2013 تطوّع 84 شابا حسب موقع الجيش الإسرائيلي، إلا إن “التدريز” لم يؤت حتّى الآن الثمار المرجوّة.
وينهي الباحث، اقتباسا:
“هذه الدراسة تشير إلى الدور الذي لعبه الاغتراب والخوف على ضوء عدم الاستقرار في المنطقة، ليد المؤسّسة الإسرائيليّة في تفجير هذا الشعور بواسطة تطبيق “الموديل الدرزي” على العرب المسيحيّين. منذ 2011 المؤسّسة السياسيّة الإسرائيليّة وقوى الجناح اليميني رأت أن تُجرّي هذه النزعة الانعزاليّة والاحساس بالخيبة في حركة تحاكي المسار الذي اتُّخذ تجاه الدروز، من خدمة عسكريّة تطوعيّة للمسيحين إلى منح هويّة قوميّة جديدة.”
ويخلص الباحث إلى محدوديّة نجاح “تدريز العرب المسيحيّين“، قائلا:
“سياسة التدريز تجاه العرب المسيحيّين لم تجلب حتّى الآن إلى تطوّع جارف، وهذا بسبب عوامل مجتمعة تشمل؛ المستوى الثقافيّ العالي داخل المجموعة، والحسّ القوميّ المتطور بين الطبقة الوسطى المتعلّمة فيها، والتجربة الماثلة المتمثلّة في الدروز وأوضاعهم.” وفي صلب الدراسة كان أشار كذلك إلى موقف الكنيسة الممانع.
طبعا الباحث وبحكم كونه باحثا يصوّر واقعا طبقا للأدوات البحثيّة التي بين يديه، تاركا الحلّ أو الاستنتاجات للقارىء. وهذا على خلاف السياسيّ والذي وإن عزّز طرحه وألبسه بلبوس دراسيّ، يحاول أن يخرج بحلول عينيّة، ومن هذا الباب خلُصت مقالتي إلى:
“الحل هو تعزيز التواصل الوطنيّ فوجودنا في بلادنا إن لم يكن الجسديّ فعلى الأقل شكل هذا الوجود هو المهدّد من أعدائنا، فلا يعقل أن يكون مهددا كذلك من داخلنا بخلق الاغتراب فيما بيننا بأيدينا، اعتداءات وتغييب من ناحية وتقوقع من الأخرى.
مواطن وأركان قوتنا في الحفاظ على تعزيز شكل وجودنا المُهدّد هما؛ تواصلنا اجتماعيّا واقتصاديا وسياسيّا خطابيّا، وفوق كلّ ذلك وطنيّا بتغليب المشترك بيننا، فغير المشترك هو بيننا وبين الله و”الدين لله أما الوطن فللجميع”، فلا يعقل أن نهدم هذين؛ “الموطن والركن” بأيادينا والمسؤوليّة على كل التوائم ولكنها أولا على عاتق التوأم الأكبر.”.
سعيد نفّاع
أوائل آب 2019