تصور رحلةَ العذاب للشعب الفلسطيني، الذي تجعله القراراتُ الدوليةُ كرةً يتقاذفها الزعماءُ في المحافل الدولية، لتطفو على بحارٍ من الوهم والضياع.
هي رحلةٌ تحمل تاريخًا من العذاب، وتنوءُ بذكرياتِ حضارةٍ انتُهِكت وقُذِفت في الأنهر والبحار، تتلاطمها الأمواجُ، فيطفو المدادُ ويعثو هولاكو في بغدادَ الفساد.
وهي رحلةُ البحث عن أملٍ وشوقٍ للأمان، وذعرٍ من قتلِ الإنسان لأخيه الإنسان، حتى غدا قابيلُ صورةً واضحةَ للعيان. سيزيف وبحار قصيدةُ عشقٍ لجفرا، للسنابل والوديان، لجبال الزيتون والتوت والزعتر والرمان. هي رحلة العودة المتّوجة بالشوق والحنين إلى الأزقّة العتيقة إلى الزهرة الشامخة في ثرى الوجدان. وهي أنشودةُ الحب الأبدي، وانتظارُ النداء ِالناصحِ الذي يُكسّر ويحطّم العبوديةَ والطغيان، ويرسو في شواطئ الأمان. فيولد الحبُ من جديد طاهرا نقيّاً بلا رتوشٍ أو تجميل، فهو اللوتس في جماله، والتفاح في بهائه والبرتقال في شذا أزهاره والجوريُّ في احمراره.
فهل تأتي الحبيبة شوقا وأملا؟ أم تنتظر لحظة الطواف في معبد الحرية والسلام؟ تنتظر انبلاج الفجر، فتطوف في الجبال والوديان، ترى اسمها مرسوما في دموع الأطفال، وجدران البيوت والطرقات، ممزوجا بدماء الشهداء، وعرق الشباب، وبالغبار العالق بحذاء أمٍّ تحضن ابنها تحميه من أنياب الزمان ووحشة المكان. وتبقى الحبيبةُ، النشيدَ واللحنَ والفأسَ والمحراثَ والتينَ والصّبّارَ والقمحَ والخبزَ وحلاوةَ الانتظار. فاليأسُ غادر قاموسَ كنعان، والذئب ظلّ رمزا للغدر وانعدام الأمان، فكيف له اختراق جسورٍ من الأجساد تحمي الديارَ والطفلَ وحدائقَ النعناع ؟
لكنّ الذئبَ ورغم صلابة الأجساد يعبر شارةَ المرور، وتهطل ديمةٌ من العذاب ويتفجّرُ نبعٌ من دماء الشهداء وتغفو ابتسامةٌ في وجه الزمان.
أمّا الحبيبةُ فهي دوما تلبي النداءَ، وتزهو بسنابلها الذهبية وكرمتِها العطريّة وزيتونتِها الأزليّة وبرتقالتِها اليافويّة. وهي وإن بعُدت فلا بدّ أنها ستعود مع كانون رغم أنف الطاغية الذي باعها في المزاد ونهب ثرواتِها، فلا بُدّ للشعب أن يثورَ على طاغيته، على الخيانة والغدر، وتحطيمِ التابوت، فهي وإن وضعت فيه، وقُتلت دون رحمة، واغتُصِبت دون رأفة، لا بد أن تعود لها الحياة.
لأنها الأمُ والصديقةُ والزوجةُ والحبيبةُ والسندُ والمعينُ، هي المرأةُ الوطنُ بكل جماله ومرارته وعذابه. فكيف لا يتحرّق القلبُ شوقا إليها؟ وكيف لا يركبُ المغتربُ البحارَ ليعودَ إليها؟.
سيزيف وبحار رسالةُ الصمود وكنسُ الاحتلال وقصةُ البلد المحفوظةِ في حقائب الترحال، بين صور جلجامش وعشتار وغصن زيتون من كنعان، محفورٌ عليه
:” على هذه الأرض ما يستحق الحياة”، أرض الآباء والأجداد ترددت في رباها نداءاتُ ناصر في التحرر من الاستعمار وصلواتُ القديسين ونداءاتُ المظلومين والمهجّرين، واستغاثاتُ النساء والرجال والأطفال من أذى الغربان ومن رؤوسٍ باللّحى تتدثّر، فغدت الشهباءُ حزينةً تبكي بواسلَها، وتتحرق ألما على معالِمها، فيمتزج ألمُها بألم اليمن الذي كان يوما سعيدا ثم صار حزينا وحيدا، ويعلو النحيبُ سماءَ بلد الرشيد، وسارت القوافل تسوق الرجالَ كالعبيد.
آهٍ عشتار!!! القمح يحترق، اللوز يُقلع والزيتون يُقطع، والذئاب هاجمت الأحياء وحوّلت الأطفالَ أشلاء، فهل سيعود تموز يا ابنة الأرباب؟ وهل ستنهض شمس البحار من نومها وتُضيء لسيزيف سبلَ الخلاص؟
ومع السؤال يبقى الأمل أنشودةَ العودة بعد الترحال!!!!
) الكلمة التي ألقيتها في أمسية اشهار المجموعة الشعرية ” سيزيف وبحار ” للشاعر أسيد عيساوي (