والدي العزيز، والدتي العزيزة؛ اختي ياسمين، أختي حلا، أختي ورد، أخي الصغير فادي، ها أنا هي أختكم رابعة، أكتب إليكم، أختكم رابعة التي رحلت عنكم قبل حفنة أعوام، أما زلتم تذكروني؟ أنا اختكم رابعة..! البنت الرابعة الكثيرة الغلبة الكستنا
ولكن هذا الاسبوع انضمت إلى سمائنا طفلة جديدة تدعى صفاء، أصفى من دمعة في عين، أحزننا جميعا موتها الآسي، حينما دهستها مركبة أثن
إنه اسم أجوف فارغ لا يرمز إلاّ أن بنتًا رابعة انضمت للعائلة.. لطالما حسدّت أخواتي على ألقابهن الجميلة، ولكن الخبر المثير الذي حملته لي القادمة الجديدة والذي أشعرني بأشعة ملوْنة تحملني إلى روافد طفولتي القصيرة، بعد أن يبس الثرى بيننا أعوامًا كثيرة ودفعني أن أخط لكم هذه الرسالة وقد أخبرتني أن صديقتها رابعة سميت بهذا الاسم تخليدًا لخالتها رابعة التي غرقت في بحيرة طبرية..
هكذا إذاً..! ما زلتم تذكرونني يا أهلي وأطلقتم اسمي على حفيدتكم الأولى.. يا ألله.. يا إلهي.. يا عظيم.. ما أكبر شأنك وما أصغر الدنيا بأهلها.. وأخبرتني أيضا أن جدتها وجدّها قلّداها في عيد ميلادها سوارًا ذهبيًا جميلاً، وأوصياها بأن تحافظ عليه لأنه كان ملكا لفقيدتهما الغالية رابعة..!
ولكن هذه الاخبار..؟ رغم حلاوتها ايقظت بي صورًا مؤلمه ما زالت تزدحم في رأسي وتدفعني أن انبش ادق التفاصيل لكي اعرف كنه هذا المصير البائس الذي استنفد زيت عمري القليل بهذه السرعة، انا وباقي الاطفال الذين قضوا مثلي في ظروف مأساويه، وذبل عيشهم النضر، وسُلِبوا ثوب طفولتهم القشيب.
رغم أنني هنا سعيدة حرة طليقة كالهواء وتتأرجح حولي آلآف النجوم الصغيرة، كانوا أطفالا صغارا مثلي، قد رحبتْ بهم السماء بعد أن ضاقت بهم الأرض..
كلنا هنا نشعر بالأمان، لا يفرقنا دين أو لون أو عرق أو وطن، تجمعنا لغة واحده وهي لغة الاطفال، تحمل قلوبنا البريئه ذات الأحلام الوردية والأماني الخضّراء..
على يميني طفلة صغيرة اسمها ميرا، جميلة كالدمية، تقول إنها من بلاد بعيدة؛ قضت نحبها بعد أن نسيها والدها في السيارة، مدة ست ساعات متواصلة وذهب للعمل، وعندما عاد..؟ وجد صفحتها قد طويت..! .. وعلى شمالي طفل اسمه رازي شهي كتمر الشام، موته كان أحْمَرَ، بعد ان اخترقت صدره الصغير رصاصة أردته قتيلا.
وبجانبه طفل بهي الطلعة، يدعى ماجدَ لا يذكر كيف سقط في بئر في الحي، الذي يقطنه بعد أن أهملت تغطيته بشكل آمن، وانتشل جثة هامدة.
وعلى مقربة منه تحلق نجمة اسمها ندى أعذب من نقطة ندى في فم الصباح، لا تعرف كيف التهمت النيران الأخضر واليابس في بيتهم الصغير و.. وهي تفتقد كثيرا أخاها الصغير، وقلقة جدا على مصيره.
أنا لا أشير بإصبع الاتهام إليكم أيها الكبار، ولا أقارنكم بحطابي الليل لأنكم في كل الأحوال تدّعون أن هذا قدرنا وقسمتنا! وأن المكتوب ما منه مهروب..!
وتعتقدون خطأً أننا الصغار لا نفقه شيئا.. ولكننا نحن الصغار نفقه كل شيء لأننا نرى الاشياء بعيون قلوبنا وليس من خلال طقوس واهنة تخدم مصالحكم الآنية.
أتذكر عندما قضت جدتي نحبها، قالت حينها إحدى القريبات؛ عمر الإنسان يضاهي فقاعة صابون سرعان ما تطفو على وجه البسيطة حتى تندثر في أسْرَعَ من انقلاب الكف وارتداد الطرف.. كفقاعة الصابون تماما!!
ما أقسى هذه الحياة! عمر جدتي الذي امتد سنوات كثيرة؛ يساوي فقاعة صابون، إذاً..؟ كم يضاهي عمرنا نحن الأطفال الصغار، الذين حظينا بسنوات قليلة لا تتعدى أصابع اليد الواحدة.
لن أنسى قط المشادّة الكلامية التى اشتعلت بين والدي الذي كنت أعبده بصمت، ووالدتي الحامل بشهورها الأولى. كان يتذمر من غلاء المعيشة وقلة الموارد، وكانت جدتي المرحومة عندنا حيث هدأت من روعه وقالت؛ إن الله لا يتخلى عن خلقه وإنه عندما يرسل الولد يرسل رغيفه تحت إبطه، وأكدت له أن أمي ستنجب مولودا ذكرا لأنه على حد قولها ملامحي تشبه ملامح الذكور! ثم مسدت شعري الكستنائي وأردفت: “صحيح أن هم البنات للمماتْ ولكن رابعة كثيرة الغلبة تعوضنا عن خمسة أولاد”.
عندما أنجبت أمي أخي فادي..؟ ارتفع شأنها كثيرًا عند أبي، الذى كان قلبه يتراقص من شدة الفرح، وصوته يصدح كالعصافير.. وكان يحمله وكأنه يحمل كنوز سليمان الحكيم، وأنا كذلك كنت سعيدة جدا لأنني حظيت بسوار ذهبي، ابتاعته لي جدتي وكانت تتوسطه خرزة حظ، ليس لأنني رابعة البنت الشقية كثيرة الغلبة بل لأنه أتى أخي فادي على رأسي.. وهو أيضا حظي بكف ذهبية ترصعه خرزة حظ من العين والحسد، علقته جدتي على كتفه الصغيرة.
ولن أنسى قط يوم رحيلي عن قوقعتكم الأرضية وتحولي لنجمة متألقة في كبد السماء، كان أول الربيع وبعد شتاء مبارك فيه فاضت بحيرة طبرية، حينما نهضتُ مبكرة وكان الصباح يجري في عيوني، فيزيدهما بريقا وكنت قد وضعت في محفظتي الصغيرة أوراقا وأقلاما لكي أرسم كل ما سترصده عيناي على الشاطئ الجميل، لأن المعلمة وعدتني أنها ستعلق لوحتي في زاوية المبدع الصغير.
وقفت مشدوهة أراقب أمي التي نهضت باكرا، لتحضّر الزاد، لحوم بيضاء وحمراء، نقانق وأنواع مختلفة من السلطات، تبولة وورق دوالي..
حتى يكاد يظُن الناظر الى الكومة الكبيرة التي جهدت بتحضيرها، أن مخزون الطعام سينفد من العالم! وكنت أدرك رغم صغر سني، أن أمي تريد أن تثّبت لصديق والدي وزوجته المتعجرفة، الذيّن سيصحباننا للنزهة، أنها بيدر كرم.. وتصوّر يا عزيزي القارئ أنها بخلت علي باجابة بسيطة لسؤال ساذج، “ماذا تأكل الأسماك في بحيرة طبرية؟ هل تأكل القمح كالعصافير؟”. سألتها المرة تلو الأخرى..
– أمي.. ماما.. أجيبيني هل تأكل القمح.. كالعصافير..؟
نظرتْ إليّ بامتعاض وأجابتني بنفاد صبر:
– إنها شرهة نهمة، تمامًا مثلك يا رابعة تأكل كل شيء.. كل شيء!!
وفي غفلة منها حشوت جيوبي الصغيرة بالبرغل الناعم من (المرطبان) الموجود على الطاولة.. لكي..؟ أُطعم الاسماك الشرهة مثلي، والتي تنتظرني في البُحيّرة العذبة..
أثناء سفرنا عرّج أبي على أحد المتاجر الكبرى لابتياع بعض الحاجيات، وقبل نزوله من السيارة رفع سبابته وقال متوعدا مهددا:
– الويل لمن تلحقني إلى المتجر..!
ولأنني كنت طفلة كثيرة الغلبة كما أخبرتكم منذ البداية..؟ فقد لحقته..! رغم توسلات أمي.. وفوجئت بأبي يضع كل ما يجده أمامه من المسليات والبذورات المحمصة ومشروبات غازية ومشروبات طاقة، ربما يريد هو الآخر أن يثبت لصديقه وزوجته المتعجرفه أنه بيدر كرم! مع “أنّه” أي أبي..؟ يستقطر الرزق فلا يبلغ منه الكفاف! ولم أبال بنظرته القاسية، عندما اكتشف انني تبعته إلى المتجر، بل تحديّته عندما قبضت يداي الحرير، على رزمة تحوي دفترًا صغيرًا للرسم وعلبة ألوانٍ، عندما تذكرت أنني نسيت أن أجلب ألواني ودفتر الرسم خاصتي، وتذكرت أيضا وعدي لمعلمتي!
والدي العزيز لم يستوعب أي كلمة مما قلته، بل أمرني بنبرة قاسية بأن أعيد الرزمه لمكانها وأسبقه للسيارة حالا..
انصعت لأوامره وعدت أدراجي إلى السيارة، أجرجر ورائي أذيال اليأس والقنوط، وعندما عاد إلينا صب جام غضبه على أمي، حيث قال بتعنت وغضب:
ألا ليتها لم تولد بل ليتني أنا نفسي لم أولد وأرَها..
انكمشتُ في المقعد الخلفي وبدأت أبكي بصمت.. أنتم معشر الكبار تبذلون الغالي والرخيص في سبيل تحقيق مآربكم الخرقاء، وبلوغ غاياتكم التافهة وتبخلون علينا نحن الصغار بأشياء زهيدة، لا تغني ولا تسمن من جوع..
عندما وصلنا إلى البحيرة المشتاقة لخطوات الصغار مثلنا، لنمرح على شواطئها الناعسه بعد شتاء قاسٍ.. الحمد لله..؟ اجتازت أمي الامتحان أمام زوجة صديق أبي، بعد أن أخرجت كنوزها التي جلبتها معها من البيت، بالإضافة إلى ما ابتاعه أبي.. وبينما انشغلت الامرأتان بتحضير الوليمة الكبيرة، وكانت أمي تتظاهر باللباقة واللطف أمامها خوفا من أبي، ولكنها كانت مثلنا تماما، لا تطيقها ولا تطيق طفليها الصغيرين اللذين أسّرفت في تدليلهما.
انهمك أبي وصديقه بتحضير موقد الشواء حتى أنه يخيل للناظر أنهما مقبلان على إنجاز مشروع عالميّ يغير وجه التاريخ!
لعَمري إنك أعمى القلب أيها الإنسان، تنفق الساعات الطويلة لتكسب قوتك، وتتجاهل كتاب الطبيعة المفتوح أمامك، المطرّز بألف لون، والمحلّى بألف طعم..!
ليتني أملك ألوانًا وأوراقًا لكنت رسمت أجمل لوحة في الكون!
ولكنني بالرغم من تلك الأمنيات الباطلة، كنت سعيدة جدا أرمح كظبية صغيرة أُعتقت من سجنها، تارة أعدو وراء أخواتي حلا وورد، وطورا أركع أمام أخي فادي الذي تعهدت أختي البكر ياسمينة برعايته، وأغرس وجنتيه بالقبل ثم ألتقط كعكة لذيذة من الدكان الذي جلبته أمي معها من البيت، وأعود أركض على الشاطئ الدافئ يلفحني نسيم الربيع المنعش.
لم يأبه أحد للظبية الصغيرة التي شردت عن القطيع وتسللت للماء بحذر، لتطعم الأسماك الصغيرة البرغل الناعم مما حشرته في جيوبها، وبدأت تتقدم رويدا رويدا.. دون أن تفلح في ايجاد سمكة واحدة!
كان شعري أشعث، عندما حاولت التخلص منه! شعرت أنني أختنق وبدأت بمناداة أمي.. أمي أرجوك ساعدينى.. ولكن ما من مجيب..
كان المد عاليًا عندما جرفني إلى جوف البحيرة، وكنت أتخبط بالمياه، وأنا أحاول أن أصرخ ولكن صوتي كان يختنق تماما كما “كنت”، أختنق أنا..
قاومت بكل قوتي محاولة أن أطفو على وجه الماء، لأعود إلى حضن أمي.. حقا! لا أريد شيئا سوى أن تحّضُنَني أميُ.. ولكنني كنت عاجزة تماما عندما ابتلعتني المياه.. وساد عالمي الصغير.. الظلام..
عندما انتشلوا جثتتي من البحيرة، كنت كخرقة بالية لا يتحرك بي عضو ولا ينبض بي عرق، وشعرت أنني أخف من الريش..
سمعت أمي تبكي كثيرا وهي تضم أخي الصغير إلى صدرها وكأنها تخاف أن ينتزعه أحدهم منها.. وكان أبي يبكي كثيرا، وأخذ يضربني على وجنتي.. وينادي ردي.. ردي يا رابعة، ردي يا حبيبتي..
آلمتني جدا يا أبي ولكنني لم أرد.. أوجعتني دموعك يا أبي.. كل حياتي وأنا أقول أنك قاس .. ولكنني أدركت الآن كم أنت حنون..
بدأت أخواتي بالصراخ..
– ردي علينا يا رابعة.. ردي؟؟
– أختكم ماتت.. ماتت!!
أجابت أمي بعد أن فشلت كل محاولات زوجة صديق أبي بتهدئتها..
أنا.. لم أمت..! نظرت حولي.. كان كلهم يبكون .. ويرعبوني بصراخهم… ولكنني..؟ لم أمت..!
آه.. آه لو تأخذوون عيوني وتروْن ما أرى، لأحدثتم انقلابا في مفهوم الموت.. لقد نبتت آلاف أزهار الزنبق على وجه بحيرة طبرية العذبة؛ وغمرتني بطيبها.. وتحولت الصخور البركانية التي حولها إلى أحجار كبيرة من الزمرد والماس، وغمرت الوجود بسنا نورها، وتعانقت شجيرات الآس والدفلى، وكانت تبكى كأمي الثكلى تماما!
“لستم الوحيدون الذين تبكون عندما يموت طفل، الوجود كله يبكي..”
في صباح الغد، وعندما عدت للبيت مع أهلي، كان نواح وعويل وصراخ.. ولكنني كنت سعيدة جدا..
لقد طَوَّبوني نجمة دون مقابل! احتفلت بموتي كل وسائل الإعلام بالدولة؛ بل تحولت لمأدبة إعلامية دسمة، استوليت على شاشات التلفاز والمواقع الإلكترونية..؟ برهة من الزمن.. أطلّت صفحات الجرائد، عن خبر غرق طفلة في بحيرة طبريا..! لقد أصبحت نجمة مشهورة بفضل موتي المأساوي بينما..؟ كنت مجرد الطفلة الرابعة.. رابعة..
والأجمل من ذلك أنني حظيت بفستان أبيض وطوق من الياسمين.. لطالما توسّلت لأمي بأن تشتريَ لي فستانًا أبيض، وكانت كل مرة تعدني بأنها ستبتاعه في العيد القادم، وها أنا أحصل عليه قبل قدوم العيد! ولكنني حزنت كثيرًا عندما نزعوا من معصمي سواري الذهبي المرصع بخرزة حظ، والذي أهدتني إياه جدتي، ولكنني اليوم أشعر بالراحة والسعادة، لأن ثمة رابعة أخرى تتقلد سواري اليتيم، وتحمل اسمي الذي لطالما كرهته! وكل ما أتمناه أن لا يخطئها سهم الحظ كما أخطأني “أنا” قبل حفنة أعوام، وسلبني سنوات فرح كثيرة..