النَسْناسة قصة قصيرة بقلم: ميسون أسدي

نبضات قلبها تتصارع بين ضلوعها، جف حلقها. لم تفلح بطرد الأفكار المقيتة من رأسها، تقلبت يمينًا وشمالًا في فراشها. لم تكتحل عيناها بالنّوم. نطّت من سريرها صوب المطبخ، وقضمت كعكة وعادت ثانية تتدثر بلحافها. أدارت المذياع واستمعت إلى النشرة الإخبارية. شعرت وكأنّها مطاردة، وحبّات العرق تسيل على ظهرها. لم تعرف كيف تتصرّف وما هي ردّة فعلها، فقد مرّت بهذه التجربة من قبل، وها هي بعد بضع سنوات تعود الكرّة من جديد وتُطرد من عملها ثانية بسبب مجموعة من النَسَانِيس حولها.

مضى نصف ساعة على منتصف الليل، فقرّرت مرام أن تنهض من فراشها. جلست على شرفتها تفكر كيف غابت عنها هذا النسناسة التي لم تفكر ولو للحظة بانّها على هذا المقدار من الخبث واللؤم مما آل إلى طردها من عملها.

عُرفت مرام بين زملائها في العمل بالبساطة والتواضع، ترى على وجهها نُضرة الصحة ويتألق في عيونها بريق السرور والمرح، قويّة البنية، ثاقبة النظر، نحاسية البشرة، لها وجه مفكر كوجوه الفلاسفة، تحب العزلة وقراءة الكتب ولا تتقهقر أمام أعمال الخير التي تستطيع الاضطلاع بها.

***

أن تُطرد من عملك ليس بالأمر السهل، خاصّة وان كنت مخلصًا له وتعمل بجد وجهد ونشاط وأمانة وتلاقي الاعجاب والاطراء من مرؤوسيك، وفي نفس الوقت، رفيقتك في العمل التي تربطك بها علاقة الزمالة والأخوة تنقلب إلى نسناسة، نَسَّت بَيْنَ القَوْمِ الذين تعمل بينهم لا لسبب وجيه، بل لأنها كسولة لا تعمل، غيورة تنظر اليك بحسد وتنس نَسًّا لكي توقعك في شراكها وترفع من شأنها.

***

النسناسة التي نتحدث عنها في هذه القصة ما هي إلا كريمة. شخصيتها تعبّر عن اخلاقها والمهنة التي خُلقت لها. في عقدها الرابع، تصف نفسها بأنّها من أهل الخير والصلاح في الأرض. ناعمْة تتوارى عن العيون وكلها عيون تراقب الناس. تمْتاز بشدّة الحَذَر والمكيدة. شكل رأسها المستطيل ولونه الوردي يشبه الخنزير، عيناها غائصتان تحت حاجبيها وذقنها متوارية في ياقتها. حريريّة الكلام، لا تنطق إلا بالكلمات الطيبة وكلمات المحبّة والعفو والمغفرة. وما ينطق به لسانها مخالف للاعتقاد الموجود في داخل قلبها. تشير عيونها وحركاتها وكأنّها دائمة التربص لفريسة ما. تفوح من فمها رائحة كريهة تزعج جلساءَها رغم هندامها المرتّب واعتنائها بملابسها وهيئتها الخارجية. تلتقط أَخْبار النَّاس بطُرُق مُلْتوية. مارست رياضة القفز والركض لمسافات طويلة، ولكن كريمة نسْنَسَت مع مرور السنوات وضمرت عضلاتها وشاب شعرها فاضطرت أن تحلق شعرها قصيرًا جدًّا وباتت بنظرات عيونها تشبه الفاشيين الجدد في أوروبا.

***

مرام وكريمة تعملان في شركة متاجر كمبيوتر يترأس إدارتها رجل حكومة سابق. وفي الاحتفالات العامة للشركة وفي تواجد رجل الحكومة تراكض الموظفون العرب بقربه كالذباب مما يثير دهشة مرام لتصرفهم الأرعن، ولكنها لم تتجرأ بالحديث إليهم. رأت زميلتها كريمة تنافق للرئيس، تحييه وتشد على يديه ولو أمكنها لسجدت أمامه شاكرة الرب لهذا اللقاء الحميم بهذه الشخصية المعروفة.

اقتربت مرام من كريمة وسألتها:

لماذا هذا النفاق لهذا الشخص الملطخة يداه بدماء العرب فهو رجل حرب، وتبوأ اقرف المناصب لقتل العرب واهانتهم.

فأجابت كريمة النسناسة بهدوء:

مثلي مثل الكل. كلهم يحيونه ويعطونه الاحترام لأنه كبير الرؤساء في شركتنا وما العجب؟

اجابتها مرام بعدم الرضى:

وإذ يكن، كوني مثلي لا ألقي له بالًا. لا اقترب منه ولا انافق له حتّى لو كان كبير الهيئة الإدارية في عملنا.

بلعت كريمة ريقها ونظرت شمالا ويمينا وقالت بهدوء:

ضعي رأسك بين الرؤوس. ترتاحين.

غلى الدم في عروق مرام وقالت:

انت انسانة مهنيّة ومثقفة وعليك أن تبقيَ قدوة لزملائك.

***

تكرّرت الحالات التي رأت بها مرام زميلتها كريمة وهي تنزع بذور الخير وتزرع بذور الشر وكانت تتصدى لها بلطف وتوضح لها أخطاءها لتعيدها إلى طريق الصواب، وللحفاظ على الزمالة والعمل في نفس الشركة لسنوات طوال.

في الحقيقة، وبلا مرواغة، لم تأمن مرام جانب زميلتها وعرفت في داخلها بأنها لا تثق بها رغم عملهما معًا والعشرة الطويلة بينهما.

خلال سفرهما معًا كانت مرام تقود سيّارتها وكريمة تجلس بجانبها، وحملت مرام بحقيبتها سكاكر بطعم التوت فما أن تجالسها في اجتماع أو تسافر معها إلى مكان ما في سيارتها حتّى تضع بفمها حبّة ملبس وتعطيها الأخرى حتّى لا تشم رائحة فمها الكريهة، فكانت كريمة لا تأكل شيئا لأن الشركة عادة تقدم لذيذ الطعام في الاجتماعات. فكانت تخطط ان تملأ كرشها على حساب غيرها، فهي نهمة شَرِهة وتأكل كل شيء وتلتقط ما تبقى في صحون الغير.

***

نجحت كريمة هذه المرة ونَسَّت لها نَسّا من حيث لا تدري ونظمت بعض الموظفين من حولها وكتبت لهم عريضة ووقعوا عليها وهي مختبئة من ورائهم وكانت النهاية بطرد مرام من العمل.

قرّرت  مرام أن لا تواجه أحدًا وان لا تواجه كريمة نفسها، مدعيَة: إذا استطاع الموظفون ان يتنظموا ويتحدوا معًا ويطردوها من العمل فهذا يعني ان مكانها ليس بينهم، فالمقارنة بينها وبين كريمة في العمل كالمقارنة بين الثرى والثريا، ثم انّها قرّرت ان تناضل لأشياء أخرى شخصية لن تبوح بها ، وهي أهم من مقارعة كريمة وأعوانها الخونة.

***

أكثر ما أزعج مرام وقض مضجعها كيف استهانت بهذا النسة الغبية؟ خبيثة الطبع كيف لم تنتبه لها وتأخذ الحِيطة رغم معرفتها الجيدة بها؟ اعتقدت بانها بلهاء ومنافقة وغير جدّية فالجميع في الشركة يتعاملون معها بنفس التفكير ويستهزئون منها. صحيح انّها  تضر نفسها ولكنها تتسبب في خسائر للآخرين. وكانت النتيجة ان هذه الغبية هي الأكثر خطورة على الإطلاق.

تناولت مرام الكتاب بجانب سريرها محاولة ان تقرأ ربّما يعودها النعاس، بعد لحظات ضربت الكتاب على راسها قائلة: الشريف دائما هو من يدفع الثمن.

والخبثاء هم من يجنون المكاسب… يا إلهي، النسناسة كانت اذكى مني…

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .