“اليد الدّافئة” ليحيى يخلف بين الطّرح المهمّ والتّكرار البارز

 

 كتبت د. رباب سرحان ـ الرّامة:

حين نقرأ عملاً روائيًّا للرّوائيّ الفلسطينيّ المعروف يحيى يخلف، لا يمكن أن نأخذ بقول إيتالو كالفينو Calvino إنّ الكاتب عبارة عن آلة كتابيّة، أو بقول رولان بارت Barthes إنّ موت المؤلّف هو الثّمن الذي يتطلّبه ميلاد القراءة. ولا بما نادت إليه النّظريّات النّقديّة المعاصرة، ولا سيّما نظريّة التّلقّي أو الاستقبال وأعلامها آيزر Iser وياوس Jauss ، من وجوب الاهتمام بالقارئ وكونه صانع المعنى في النّصّ ومالك الحقّ في إضفاء ما يُريده من المعاني بناءً على رغبته النّفسيّة والاجتماعيّة ومخزونه الثّقافيّ. لا يُمكن، في رأينا، أن نُطبّق هذه النّظريّات وكلّ مفهوم “حرّيّة تداول النّصوص” التي نادى بها ميشيل فوكو بشكل تامّ وكلّيّ على النّصّ الأدبيّ بصفة عامّة، من منطلق أنّ النّصّ الأدبيّ في النّهاية هو نتاج حالة إبداعيّة إنسانيّة، لا يجوز فصله وإقصاؤه كلّيًّا عن النّفس التي أنتجته وأبدعته. وربّما يكون الأخذ بهذه النّظريّات وتبنّيها بشكل كامل هو السّبب في بعض الكتابات النّقديّة المُبالغ بها، التي نقرؤها ونسمعها بين الحين والآخر، في تحليل بعض الأعمال الأدبيّة وتحميلها أكثر ممّا تحتمل، وبالتّالي إعطائها أهمّيّة لا تستحقّها.

ارتبطت جميع أعمال يحيى يخلف الرّوائيّة بالقضيّة الفلسطينيّة، وكيف لا وهو الذي عاش القضيّة بكلّ مراحلها وواكب تطوّراتها وتراجعاتها ونكساتها وما رافقها من آمال وتوقّعات وخيبات، وشهد كلّ أشكال النّضال الفلسطينيّ على امتداد سنوات الاحتلال الطّويلة. وروايته الأخيرة “اليد الدّافئة” لا تشذّ عن سابقاتها من حيث كون الوضع السّياسيّ الخاصّ والصّعب الذي يعيشه الفلسطينيّ في وطنه هو الطّاغي على الشّخصيّات والأمكنة. فكلّ مسألة الاحتلال وإقامة المستوطنات ومعاناة الفلسطينيّ واستمرار نضاله تتضمّنها الرّواية. ولكنّها برأينا، جاءت أصلاً لتبثّ همًّا ذاتيًّا وقلقًا فرديًّا يُرافق الكاتب ويقضّ مضجعه حتى أصبح هاجسًا يُثقل عليه. هو القلق من الشّيخوخة وتقدّم العمر وما يرافقه من الشّعور بالإحباط والاكتئاب والخوف من التّهميش والإقصاء. والشّيخوخة مرحلة يمرّ بها كلّ إنسان على وجه الأرض، إذا قُدّر له أن يعيش عمرًا طويلاً. وهي مرحلة من العمر تُرغم الإنسان على التّقاعد. والتّقاعد كما يقول الكاتب قدر محتوم لا مهرب منه ف”للإنسان طفولة وشباب وشيخوخة. للطفولة براءتها، وللشباب جسارته، وللشيخوخة عزلتها”. (ص 6)

وأحمد أبو خالد، الشّخصيّة الرّئيسيّة في الرّواية، من المناضلين القدماء الذين عاشوا على سفوح وذرى جبل الشّيخ على الحدود السّوريّة اللّبنانيّة. وهو الكاتب والإعلاميّ المعروف. شغل وظيفة في الإعلام الحكوميّ، وشارك في تغطية معارك جنوب لبنان ومعركة بيروت، وكان ينشر المقالات في المواقع الإعلاميّة الإلكترونيّة. يخرج إلى التّقاعد ليجد نفسه وحيدًا يتخبّط في فراغ قاتل.

وكما هو معهود عند وصول أحدهم إلى سنّ التّقاعد، فقد أقام له زملاؤه حفل وداع وقدّموا له هديّة رمزيّة تقديرًا لمسيرته المهنيّة الطّويلة، وأشادوا بمناقبه وعبّروا عن عواطفهم وعن شعور الافتقاد الذي سيكون. وكان من تبعيّات هذه المناسبة أيضًا، أنّ هاتفه المحمول لم يكفّ عن الرّنين طوال الشّهر الأوّل من تقاعده، لكن بمرور الأيّام صارت المكالمات تخفّ حتى توقّفت تمامًا. إنّ إيراد الكاتب لهذه التفاصيل والسّلوكيّات المعروفة للجميع في مثل هذه المناسبة، ربّما تكون دعوة منه إلينا للتّوقّف قليلاً والتّفكير والتّأمّل في حقيقة العلاقات بين النّاس، في قيمتنا وقيمة عملنا بعد سنوات مضنية من العمل واكتساب الخبرة، في حقيقة كوننا قابلين للتّبديل في لحظة واحدة، في مفهوم الصّدق والكذب والزّيف والإخلاص، وغيرها من الأسئلة التي تدفع إلى شفاهنا ابتسامة لا إراديّة فيها معاني الخيبة والسّخرية وقلّة الحيلة، وأنّ هذا هو الواقع وهكذا هي الحياة وأنّ علينا أن نسلّم ونقبل بالموجود!

زوجة أحمد أبو خالد “جميلة” توفّيت إثر ذبحة قلبيّة لم تمهلها لترافق زوجها في شيخوخته. وكثيرًا ما كان يتحدّث إلى نفسه بعد رحيلها كلّما داهمه الإحساس بالوحدة والعزلة، خاصّة أنّ ابنته الوحيدة “ياسمين” تسكن بعيدًا عنه مع زوجها في دولة الإمارات.

بدأ الإحساس بالوحدة يتسلّل إلى روحه، ووجد نفسه في أغلب الأيّام حبيس البيت، يراقب التّلفاز شارد الذّهن، يجلس مع الجدران والكراسي والطّاولات. لتنحصر حياته في قضائه السّاعات الطّويلة وحيدًا في بيته يتنقّل بين المطبخ والشّرفة ومراقبة الشّارع والجارة، في البناية المقابلة، التي تقضي ليلها تعمل وراء الماكينة. وكثيرًا ما كان يتحدّث مع نفسه، أو ينظر إلى صورة جميلة المعلّقة أمامه على الجدار، يناجيها ويشكو لها كآبة المشهد وسوء المنقلب، وكيف صار مثل واحد من خيول مخيّم اليرموك الهرمة التي أضحت بدون جدوى بعد أن استُبدلت بالشّاحنات.

أخذ التّفكير فيما سيكون عليه حاله في الأيام المقبلة يستحوذ عليه، كيف سيصنّف نفسه؟ هل يعتبر نفسه محاربًا قديمًا، أم متقاعدًا عاطلاً عن العمل؟ كيف سيمضي وقته؟ وكيف يسدّ هذا الفراغ في روحه؟

حكاية أحمد أبو خالد مع التّقاعد والعزلة أعادتني فورًا إلى الفيلم الأمريكي الدّراميّ About Schmidt (2002). وهو فيلم يروي قصّة رجل، يلعب دوره الممثّل الأمريكي الشّهير جاك نيكلسون، يخرج إلى التّقاعد بعد عمله سنوات طويلة في شركة للتّأمين، وتكون صدمته حين يذهب إلى مكتبه لجمع أغراضه ويجد شابًا يجلس مكانه، فيفكّر كيف يكون، وبعد كلّ هذه السّنين التي قضاها في العمل واكتساب الخبرة، قابلاً للتّبديل! لتبدأ بعدها قصّته مع الوحدة والعزلة والتّهميش، فيلجأ في مرحلة ما إلى الكتابة التي تُشكّل في هذه الحالة نوعًا من العلاج والتّأمّل بالذّات. هو قصّة حياتيّة مؤلمة ومحزنة تمنّيت أن لا يُشاهده من أحبّهم من المتقاعدين أو الموشكين على التّقاعد.

في “اليد الدّافئة” يصف الكاتب ما يفعله غالبيّة المتقاعدين في تردّدهم يوميًّا على مقرّ هيئة المتقاعدين وكيف لم يعد لهم ما يفعلونه سوى تجاذب الحديث والذّهاب للتّعازي في بيوت الأجر أو التّهاني في أعراس أبناء الأصدقاء. كان الكثير منهم يعبّرون عن وحدتهم وعن إحساسهم بالعزلة.

ويحيى يخلف يعيش هذه المرحلة من العمر ويعي مرور الأيّام السّريع والمخيف وحقيقة تقدّمه في السّنّ، ولذلك نراه يهتمّ بإشغال نفسه وعدم تركها للسّأم والعزلة. فهو المسافر والمشارك الدّائم في النّدوات والأمسيات والمؤتمرات الأدبيّة والثّقافيّة ومعارض الكتاب في مختلف الدّول العربيّة، وهو المُحبُّ لأحفاده والسّاعي لقضاء الأوقات معهم في كلّ فرصة. فنسمع صوته في الرّواية يقول: “أيّها الشيوخ المتقاعدون، استمتعوا بما تبقى من العمر. استمتعوا بعقد صداقة مع أحفادكم؛ لأنّ أولادكم مشغولون عنكم بأعباء الحياة، استمتعوا بمنح عواطفكم النبيلة لأحفادكم؛ لأن التجارب تقول إنه “ما أغلى من الولد إلا ولد الولد”. اغتنموا فرصة الوقت والفراغ ومارسوا هواية القراءة؛ لأن المعرفة كالقناعة، كنز لا يفنى. اخرجوا إلى أمّكم الطبيعة، واستمتعوا بهواء نقي وطبيعة فريدة في بلادنا التي خلقها الله منذ الأزل، ومارسوا رياضة المشي أو رياضة التأمل؛ لأن الهواء والمشي والتأمل وصفات لمقاومة الضغط والسكري وأمراض القلب”. (ص 10-11)

ويكون إبداع يحيى يخلف في نجاحه في ربط هذا القلق الفرديّ والهاجس الشّخصيّ بالوضع السّياسيّ الصّعب الذي يعيشه الإنسان الفلسطينيّ. فحتى التّقاعد له خصوصيّة عند الفلسطينيّ. فعزلة الإنسان الفلسطينيّ المتقاعد هي أشدّ وأعمق من عزلة أيّ إنسان آخر، لأنّه لا يعيش كغيره حالة طبيعيّة ومستقرّة. فالوطن الجميل “حوّله الاحتلال إلى أسلاك شائكة، وحواجز عسكرية، واستباحة، وإذلال، وإهدار كرامة”. (ص 56) وإذا أراد الفلسطينيّ المتقاعد أن يُمارس نشاطًا بسيطًا كالمشي مثلاً، فإنّ ذلك غير ممكن لأنّ الاحتلال لم يترك له مكانًا آمنًا لشمّ الهواء، ولا طرقًا سالكة للمشي والتّنزّه والاستمتاع بجمال طبيعة بلاده.

هذا الشّعور المؤلم بالعزلة والوحدة والتّهميش يبلغ ذروته حين يتحوّل أحمد أبو خالد إلى متفرّج في إحدى المظاهرات وهو صاحب التّاريخ الحافل بالنّضال. يقول: “ها أنت تصبح متفرّجًا، وتنضمّ إلى مقاعد المتفرجين، كأنك صرت نسيًا منسيًا. كنت تضع أقدارك، فصارت الأقدار تحدد مصيرك. عدت من التظاهرة إلى البيت كأنّك تعود من مقبرة دفنت فيها تاريخك وأحلامك، وأهلت عليها التراب”. “تعود إلى البيت لتجالس الجدران، والطاولات، والكراسي. تعود إلى عزلة ومنفى. تتذكر حياة حافلة عشتها لا حزنًا ولا مسرّة، عشتها تحت سقف التجارب والحكايا، وتجولت فيها في حدائق الفكرة، وبساتين الأحلام، ذقت فيها مرارة الغربة […] عشت الزمن الجميل، والأزمان الوغدة، عشت تحت سقف الانتماء والسجايا أيام الكفاح عندما كان رفاق الدرب يتسابقون على التضحية وإنكار الذات، وعشت زمن التسابق على الوظائف والمناصب”. (ص 41-42)

فلا يجد أحدًا غير صورة “جميلة” المعلّقة على الجدار يُحدّثها ويشكو لها أحزانه فيقول بألم عميق: “مثلك أنا معلّق في مسافة ما بين الشطرين في قصيدة هجاء. معلّق مثل هواجس مالك الحزين، مثل فارس يمتطي جوادًا شاحبًا، مثل عزيز قوم سقط من علٍ وتلقّفته مذلّة، مثل رصيف تساقطت عليه أوراق الخريف، وغمره الشحوب. ماذا بقي من رجل نثر ياسمين روحه في مشوار العمر؟” (ص 42)

أحمد أبو خالد يُمثّل هنا المئات من الرّجال الفلسطينيّين المناضلين الذين وجدوا أنفسهم بعد اتّفاق أوسلو والعودة إلى الوطن والخروج إلى التّقاعد مهمّشين ومُحبطين. هذه الحقيقة تُثير قلق الكاتب وتُشغله كما يظهر جليًّا في قوله: “تقلقني نهايات أولئك الرجال الذين أعطوا سنوات عمرهم للثورة، ووصلوا إلى سن التقاعد، ويشعرون بالإحباط بسبب الإقصاء والتّهميش. تخيّل أن تشعر في لحظة من اللحظات بأنك من الأفواه اللا مجدية، أنه لا ضرورة لك ولا رأي ولا مشاركة، وعليك أن تضيع في متاهات المرض وأقساط البنوك وارتفاع الأسعار وانعدام الأمل، وانغلاق الأفق السياسي. ماذا سيكون شعورك إذا ما صرت منسيًّا دون أن يشفع لك تاريخك بلمسة تقدير واحترام”. (ص 250)

أحمد أبو خالد أضحت قهوته، كقهوة نجيب محفوظ، خالية من الأصدقاء الذين رحلوا منذ زمن، البعض غيّبهم الموت، والبعض الآخر تركوا الثّورة وهاجروا. لم يبق من أصدقاء العمر سوى الدكتور نادر الذي نجح في إخراجه من عزلته وإقناعه بمرافقته إلى المقاهي، والتّعرّف إلى “نرمين” وعائلتها التي أعادت إليه الشّعور بدفء العائلة. ونرمين هي ناشطة في مجال حقوق الإنسان، التقى بها لأوّل مرّة في مقهى بيستو وكانت برفقة ضيوفها من المتضامنين الأجانب الذين يشاركون في التّظاهرات المناهضة للاستيطان والجدار. العزلة والوضع السّياسيّ الخانق جعلته بحاجة ليد دافئة، فكانت نرمين التي مدت له هذه اليد. ومن يومها أصبحت نرمين تُشغله وتحتلّ مساحات عزلته.

في علاقته مع نرمين ينكشف على النّضال الشّبابي الممثّل بالشّباب الفلسطينيّين المحبّين لوطنهم، منهم طلبة جامعات وبعض المتضامنين الأجانب الذين يُنظّمون المسيرات المناهضة للاحتلال والاعتصامات الدّاعمة للأسرى. يتعرّف إلى “هياتارو” الصّبيّة اليابانيّة، صديقة أخ نرمين، المندمجة مع الشّباب الذين ينظّمون التّظاهرات ويشتبكون مع حواجز الاحتلال، والتي تعمل على كتابة تحقيق صحافيّ حول مقابر الأرقام، بعد أن قابلت سيّدة مقدسيّة لها ابن في هذه المقابر وتأثّرت عند سماع قصّتها أشدّ التّأثّر، وقرّرت على إثرها أن تثير هذه القضيّة لدى الرّأي العام الياباني وتؤسّس جمعيّة من أجل الضّغط على الحكومة هناك لتتدخّل وتضغط على السّلطات الإسرائيليّة.

ومن الجدير بالذّكر أنّ الكاتبة رجاء بكريّة كانت قد تناولت قضيّة مقابر الأرقام في روايتها الأخيرة “عين خفشة” وبيّنت من خلالها فظاعة التّوحّش وبشاعة الاحتلال. ويحيى يخلف في روايته هذه يطرق هذه القضيّة ويُلخّص المشهد: ” مقابر الأرقام: كآبة مشهد، وسوء منقلب. مقابر الأرقام: تعذيب للروح، وغصّة في القلوب. مقابر الأرقام: محرقة تحت لهب شمس الأغوار، وصقيع ينخر العظم في شتاء الجبال”. (ص 191-192) هذه القضيّة شغلت أحمد أبو خالد ودفعته إلى كتابة مقالة حول الموضوع وكون الشّهداء المدفونون هناك منسيّين وغير مشمولين بموضوع المفاوضات ولا بقضايا تبادل الأسرى. ورأى أنّه لا بدّ من التّذكير بهم ومعرفة أسمائهم وإعادة دفنهم بشكل لائق يحترم كرامة الإنسان. ويكون الجانب المشرق في طرح هذه القضيّة هو انهماك الشّباب والصّبايا في العمل في هذه المقابر ودورهم في المحافظة على عظام الشّهداء وجمع ما جرفته منها الأمطار والسّيول والاهتمام بإعادة دفنهم بكرامة.

وتبقى الأرض ثيمة متكرّرة في أعمال يحيى يخلف وتتجلّى هنا في قطعة الأرض التي ورثها أحمد أبو خالد عن والده في منطقة وادي الباذان، وحين عاد الى الوطن بعد اتفاق أوسلو وجدها منطقة عسكريّة مغلقة للجيش الإسرائيليّ إلى حين انتهوا من بناء المستوطنة على الجهة المقابلة لها فأزالوا الحاجز. يعود يحيى يخلف في هذه الرّواية ويؤكّد أنّ الأرض هي هدف النّضال ومن حقّها علينا أن نحافظ عليها ونعتني بها ونزرعها ونأكل من منتوجها. وهنا كان دور “أبو الخير” الشّاب الذي التحق بالوظيفة بعد اتّفاق أوسلو وعمل سائقًا ومراسلاً في مكتب أحمد أبو خالد وظلّ يزوره قبل أن يذهب إلى الوظيفة يؤمّن له حاجيات البيت ويُزوّده بالأخبار. أبو الخير كان له الدّور الهامّ في حثّ أحمد أبو خالد على التّمسّك بالأرض والذّهاب إليها والاعتناء بها وإعادة إحيائها من جديد. وكانت نقطة التّحوّل حين جاءه أبو الخير حاملاً خسّة قدّمها له قائلاً: “كلها وجرّب مذاقها. إنّها من الأرض التي تحبها، الأرض التي كان سمادها عرق أجدادك. ألم تكن تقول لنا بمحاضراتك في المعسكر: الأرض للسواعد التي تحرّرها؟ هذه الخسّة من أرضك وأنا الذي زرعتها […] غدًا آتيك باكرًا ومعي سيارة جيب وأصطحبك هناك، إلى الأرض”. (ص 152، 154)

ما يُميّز رواية اليد الدّافئة، بالإضافة لطرحها المهمّ، هذه اللّغة المنسابة الجميلة والباعثة للرّاحة في نفس القارئ. يقول مثلاً في وصفه لرقص “هياتارو”: “رقصت برشاقة وخفّة، رقصت كموجة تقبل بعنف وتتراجع بخفّة. تهجم كنَمِرَة، وتتراجع كغزالة. تدور كزوبعة، وتعتدل كنسمة. تهتز بالأذرع والسيقان، وتطلق غواية بعيني عاشقة وشفتي حبيبة”. (ص 83)

أمّا ما يُؤخذ على الكاتب فهو رتابة السّرد وبطء الأحداث في النّصف الأوّل من الرّواية مقابل فاعليّتها في النّصف الثّاني منها. كذلك التّكرار البارز لبعض الكلمات والتّعابير كتكرار وصف “الأخت الكبرى” لنرمين، ووصف “قطعة الشوكولاتة” لصوفي و”الشعنونة” لهياتارو اليابانيّة، واستعمال الوصف ذاته- “الشّعنونة”  لصوفي أيضًا ممّا يخلق بلبة لدى القارئ. أمّا التّكرار الأبرز واللاّفت فنشهده في تكرار العنوان “اليد الدافئة”، هذا التّكرار الذي أتساءل كيف لم ينتبه إليه كاتبنا وقد وصل حدّ الإزعاج وبعث الملل والذّهاب بسحر العنوان وجماله ورمزيّته!

نذكر على سبيل المثال: “مدت له يدها الدافئة” ص 124، “كان لحظتها بحاجة ليد دافئة” ص 126، “كانت اليد الدافئة تنقل الدفء الى روحه” ص 127،  “دعته اليد الدافئة لزيارته” ص 133،”عيد ميلاد اليد الدافئة” ص 139، “ما أحوجني إليك أيتها اليد الدافئة!” ص 232

يحيى يخلف، كأحمد أبو خالد، خرج من ممارسة العمل السّياسيّ وكرّس قلمه للعمل الثّقافيّ. وعلى الرّغم من نشاطاته وتحرّكاته الكثيرة إلاّ أنّه يعترف بعدم استطاعته التّخلّص في لحظات كثيرة من هذا الشّعور الخفيّ بالوحدة والضّياع. يقول: “على الرغم من تمردي وعدم اعترافي بالشيخوخة وتوجهي لكتابة المقالات والقصص، فإنّني ما زلت أشعر شعور عصفور فقد سربه، شعور فراغ نهايات النهار، أعني مزقًا متناثرة مما تبقى من النهار”. (ص 250) عزلة أحمد أبو خالد إثر خروجه إلى التّقاعد، والوضع السّياسيّ المخيّب للآمال واتّصال مفاجئ من صديقه أيّام النّضال “سمعان الناصري” الذي ترك الوطن ويعيش في ألمانيا، كلّ هذا دفع به إلى تحقيق رغبة طالما ألحّت عليه في كتابة رواية عن صديقه سمعان. وهو يُفسّر لصديقه الدّافع للكتابة. يقول: “أكتب عنك لأنني وجدت في حكايتك ما يمكن أن أجد في كتابته متعة، فغربتك الخارجية هي غربتي الداخلية، وكلانا وقف طويلاً على رصيف الثورة، لكنّك كنت أكثر جسارة حين دخلت في مغامرة جسورة، ولم تعبأ بالربح أو الخسارة”. (ص 78)

لكنّ يحيى يخلف يظلّ الرّوائيّ الحريص على بثّ التّفاؤل في قلوب قُرّائه، ويظلّ المؤمن برجوع الحقّ لصاحبه مهما طال الزّمن وبرغبة الفلسطينيّ القويّة في الحياة والمقاومة. فرغم الاحتلال “الأرض تدور، والشمس تشرق، والربيع يزهر، والحياة لا تتوقف بحلوها ومرّها”. أمّا الشّيخوخة الزّاحفة دون توقّف، فلا يجب أن تكون مصدر قلق ويأس وإحباط، والتّقاعد لا يجب أن يكون موتًا بطيئًا بل فاتحة لحياة جديدة لها ما يُميّزها ويجعلنا نتمسّك بها. ولهذا نرى أحمد أبو خالد في نهاية الرّواية يُمسك بيد نرمين الدّافئة ويُشير إلى الأرض ويقول: “أنت وهذه الأرض رفيقاي فيما تبقى من مشوار العمر. هنا سنزرع، وهناك سنبني منتجعًا لرفاق الدرب، وسنبني بيتًا صغيرًا تزقزق حوله العصافير”. (ص 261)

 

 

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .