البروفيسور محمود يزبك: مدينة البرتقال “يافا” حضارة ومجتمع 1700-1840

بقلم: د. جوني منصور

الفترة الزمنية التي يعالجها الكتاب تتميز بأنّ قلّة من الباحثين والمؤرخين على وجه الخصوص قد تطرّقوا إليها. ولأنّ الأدبيات قليلة، فإنّ الكتاب عبارة عن بحث مستفيض ومؤسّس على مصادر ومراجع اولية في تكويناته، وأبرزها: سجلات المحكمة الشرعية ليافا ذات الصلة بالفترة أو جزء من الفترة التي يعالجها الكتاب.

ولأنّ السجلات تُعتبر أكثر من مجرد كونها وثيقة قانونية، فإنّها توفر معلومات كثيفة عن سير الحياة الاجتماعية والاقتصادية ومركباتها وتعقيداتها.. بالإضافة إلى كونها وثيقة رسمية في حال غياب وثائق أخرى تُساعد على تثبيت إرث أو ملكيات أو بيع وشراء وعقود تجارية وغيرها… والقارئ ثم الدارس المُتعمق بالسجلات سيلحظ أنّها متنوعة في تركيباتها اللغوية واستعمالات المفردات، ثمّ في فهم القاضي للقضية… وبالتالي هذا التنوع مفيد في كثير من الأحيان لفهم التحولات والتغيرات التي شهدتها المنطقة.

وبما أنّنا نتحدث عن يافا، فإنّ المعلومات المتوفرة في السجلات تكفي لتُعطينا صورة في مجمل الوضع الاجتماعي والاقتصادي وما طرأ عليه. لكن بالدرجة الثانية هناك حاجة إلى الاستعانة بمؤلفات من الفترة ذاتها لكون كاتبيها يُقدّمون شهادة حيّة في زمنهم لما رأوه وسمعوه. وفي الدرجة الثالثة تأتي الأبحاث التي نُشرت عن يافا في فترات مختلفة… وبخصوص فترتنا فهي قليلة… لذلك أعتبر كتاب يافا للبروفيسور يزبك من أُمهات الكتب عن الفترة التي يعالجها.

نحن نعلم تاريخيًا أنّ يافا ذات آلاف السنين من العمر… يعني أنّها من قبل الميلاد بعدة قرون، بل أكثر من الفية ونصف. لذا، فتاريخها حافل. ونحن لن نخوض في هذه الجزئية مع أنها مهمة. بقيت يافا عامرة بسكانها إلى نقطة زمنية مفصلية وهي انهاء الاحتلال والاستعمار الصليبي عن المنطقة في القرن الثالث عشر. وهذا لا يعني انها سلمت… بل إنّ الايوبيين والمماليك قاموا بهدم ما تبقى منها للحيلولة دون عودة الصليبيين إليها. فبقيت مهجورة أكثر من أربعة قرون، إلى أواخر القرن الثامن عشر حيث قررت الدولة العثمانية إعادة تشغيل ميناء يافا الاستراتيجي. وشهدت يافا بواكير بنائها وإعادة عمرانها في الفترة الواقعة بين نهاية حكم الشيخ ظاهر العمر ووصول الغزوة الفرنسية إلى فلسطين بقيادة نابليون. أثناء الغزوة أو الحملة تعرّضت يافا إلى مجزرة رهيبة تسجل في سجل بونابرت الاسود… ثم بعد فشل حملته على فلسطين وعكا وتقهقر جيشه عائدًا الى مصر ففرنسا، استيقظت يافا من جديد في فترة مهمة، وهي فترة باشوية محمد أبو المرق الذي ساهم في البدء بالإعمار في شتى الميادين وخصوصًا إعادة توسيع الميناء وتشغيله بحيث يتمكن منه التجار من تصدير وتوريد البضائع.

فيُمكننا القول إنّ فترة أبو المرق كانت طلقة البدء بالإعمار وتنظيم النواحي الادارية للمدينة.. وتحسين وضع التجارة ودعم التجار بالتخفيف عنهم بما يتعلق والضرائب المفروضة على البضائع، والهدف هو جذبهم للقدوم إلى يافا والعيش فيها ودعم اقتصادها. وفي حقيقة الامر ان كثيرين من المستثمرين المصريين حضروا إلى يافا وأقاموا فيها وساهموا في بناء اقتصادها. وكثيرة هي العائلات التي عاشت وتعيش في يافا وتحمل أسماء من مصر مثل الفيومي والقليوبي والمصري وغيرها.. وكان لتجار المدينة قوة ونفوذ في الامتناع عن دفع ضرائب بنسب عالية ووقوفهم صفًّا واحدة في مواجهة الدولة.

إذن، فترة ابو المرق هي فترة تأسيس أولّي لما سيعقبها من مساهمات قوية وفعالة في عملية البناء والاعمار والتنظيم. ودامت فترة ابو المرق قرابة خمس سنوات فقط.

أما الفترة المركزية والتي يعتبرها المؤلف هامة جدًّا هي فترة باشوية محمد ابو النبوت والتي امتدت لأكثر من خمسة عشر سنة وتحديدا في 1805.

يعتبر يزبك أنّ فترة أبو النبوت هي فترة الرخاء والاستقرار ليافا ومناطق أخرى مجاورة تعاملت مع يافا. وعُهد إلى أبو النبوت بكافة المناصب الادارية والمالية والعسكرية وجباية الضرائب ليس في يافا فقط بل في المنطقة كلها.. فكان له دور في توفير الامن والاستقرار والسيطرة على حركة التجارة في الميناء. وهو بهذا لم يكن مُتسلّمًا فقط، وهذه هي وظيفته، إنّما أقرب إلى أن يكون واليًا.

وبدأت يافا تشهد في فترته زيادة في السكان بفعل الهجرة إليها من مدن ومواقع اخرى في فلسطين ومن سوريا ومصر. وهذه الزيادة شكلت نسيجًا اجتماعيًا جديدًا متعدد الالوان الدينية والمشارب المناطقية، ما عزّز كون يافا مدينة حداثوية منفتحة على محيطيها القريب والبعيد. وبذل أبو نبوت مالاً كبيرًا في إنشاء مبانٍ كثيرة وكبيرة الحجم للدلالة على قوته ونفوذه… وسرعان ما تحولت يافا لأنّ تكون منافسة لمدينتين ساحليتين أُخريين وهما: عكا وصيدا. فأنشأ أبو نبوت الجامع الكبير وسبيل ماء كبير (المحمودي – الجواني) وسبيل أبو نبوت، وأسواق متخصصة بانواع التجارة والحرف اليدوية التي كانت شائعة في المدن الشرق أوسطية، ومطاحن ودكاكين وخانات ومدابغ وغيرها.. وسور المدينة لحمايتها من أي اعتداء خارجي. كلها تحمل دلالات اقتصادية قوية ومتينة.

والمؤسسات الاقتصادية والتجارية التي أقامها ابونبوت شكلت قاعدة قوية لبناء حارات سكنية وتجارية جديدة ساهمت في توسيع المدينة ومنحها صفة عصرية بعيدًا عن المباني القديمة في البلدة القديمة، بما تبقى منها. وأجري في زمنه عمليات ترميم لمبان دينية مسيحية ككنائس وأديرة ومؤسسات أخرى تابعة لها. وهذه دلالة قوية على سياسات أبو نبوت في منح يافا صفة التعددية الفسيفسائية التي شكلتها في الماضي ولا تزال. وتعاملَ بصورة عادلة مع غير المسلمين، وهذا ما تفيدنا إياه السجلات وهي المصدر الرئيس للدراسة التي بين ايدينا.

وما ميز أبو نبوت هو تبنيه لسياسات المسايرة والملاينة في منطقة نفوذه وادارته دون أن يتنازل عن سياسات الحزم في اتخاذ القرارات الحاسمة. ولقد كسب العشائر في كثير من الاحيان بأن دفع من كيسه مال الخوة لمنع المشاغبات وأخذ الثأر بين العشائر التي شكلت ريف يافا. وهو بهذا حافظ على أمن المدينة وأتاح لتجارتها بالاستمرار والمتابعة. ووصل نفوذه إلى مناطق جبل نابلس وهي ليست من اختصاصات ادارته ومنطقته. ولكن هدفه كان الحفاظ على الهدوء وسير طبيعي للحياة.

ويُلخص يزبك فترة أبو نبوت بقوله ( ص 154): أعطى أبو نبوت يافا قُبلة الحياة، ومن بعده صارت المدينة على طريق التطور والتوسع لتصبح أهم حواضر فلسطين قبل النكبة.

وبعد رحيل حكم أبو نبوت استمرت يافا في نموها وتطورها… وعشية الغزو المصري لفلسطين وسائر بلاد الشام، أظهر محمد علي باشا والي مصر اهتمامًا بيافا لكونها بوابة بلاد الشام… واهتمّ الحكم المصري بعد احتلاله لفلسطين بتعزيز العلاقات التجارية مع يافا لتوريد البضائع المصرية الى مينائها ومنه توزيعها على سائر المدن الفلسطيني كنابلس والخليل والقدس. ورغم تغيرات الحكم فإنّ سياسة الاحتكار الاقتصادي التي استعملها محمد علي باشا في فلسطين أدّت الى عرقلة ما لنمو وتطور الاقتصاد الفلسطيني. وايضًا نلاحظ ازدياد تغلغل النفوذ الاوروبي في مجالات متنوعة… لكن هذا الوضع لم يمنع وجود شراكات ومساهمات بين مصريين وفلسطينيين وسوريين.  وبرز تجار سوريين كبار وفدوا الى يافا ليكونوا قريبين من تجاراتهم التي عقدوها مع مصريين، كما تفيدنا العقود المُصدّق عليها في سجلات المحكمة الشرعية بيافا.

فخلال فترة الحكم المصري حصلت تحولات جذرية في العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية جراء فتح يافا ومينائها نحو الغرب ونحو مصر. فتدفقت الاموال والتجارات ما ترك أثره على البنية الاجتماعية حيث ازداد عدد المسيحيين الشوام والمصريين، وكذا ازداد عدد الوافدين من مصر ليس للتجارة فقط بل للعيش في يافا.

وسيطر رأس المال المديني الذي تشكل في يافا على قوة الانتاج الريفي من أرض وفلاحين ليتحولوا الى مرتبطين بقوة مع اقتصاد المدينة القوي، والآخذ بالتركز بيد نخب اقتصادية ذات تأثير ونفوذ سياسي ليس فقط محليا بل دوليا. فعدد كبير من اصحاب التجارات والمال عيّنوا قناصل وترجمان في قنصليات الدول الاجنبية التي بدأت تتشكل في الفترة ذاتها وبعدها بقليل.

ولا يُمكننا الحديث عن تشكيلات عائلية في يافا امتلكت نفوذا كما هو الحال في نابلس والقدس مثلاً. فالقوة الاقتصادية حديثة العهد التي تشكلت في يافا مصدرها أفراد كونوا ثرواتهم وبالتالي ربطوها مع نفوذ سياسي بمستويات متفاوتة منحتهم المكانة الاجتماعية وبالتالي منحتهم المكانة المؤثرة على مجريات الأمور والأحوال في المدينة.

 

وهنا لا بُدّ من الاشارة من خلال العرض الذي يقدمه الكتاب إلى أهمية أنْ ندرك أنّ الفترة التي يتطرّق إليها هي سابقة للغزو الصهيوني بعقود طويلة جدًّا. وهذا يعني أنّ فلسطين لم تكن خالية وخاوية من السكان ومن المبادرات والتطور. يُفند الكتاب ويدحض المقولات الصهيونية التي انتشرت في الغرب والشرق على حد سواء أنّ الصهيونية هي التي جذبت الحياة والنمو والازدهار الى فلسطين والمشرق… ويسود الاعتقاد أنّ شعار يافا Jaffa المُلصق على البرتقال قد احضرته او ابدعته الصهيونية… بودي الاشارة هنا وبكل تأكيد، وهذا ما يظهر في الدراسة أنّ برتقال يافا وبيارات يافا كانت قائمة وموجودة قبل تأسيس الصهيونية بعقود.

ومن جهة أخرى، يسود الاعتقاد أنّ فلسطين كانت عبارة عن اراض خالية وبور ومستنقعات وفلاحيها كسالى… بالله عليكم… مشاريع بناء يافا، وبناء حيفا ومواقع أخرى ألا تشير الى مخطط بناء متقدم وراقي ويؤكد رغبة السكان في تحسين ظروفهم.

الكتاب، يتحدث عن مجتمع مديني متطور أو في طور لتطور والنمو، وبوصلته بناء مدينة معاصرة ومتقدمة… ودليل آخر، هذا التهافت الاوروبي والغربي عمومًا والمصري على يافا في الفترة التي عالجتها الدراسة يؤكد مكانة المدينة.

ما نحتاجُ إليه هو اشتباك المؤرخين والباحثين مع النصوص الروائية الصهيونية سواء الرواية التاريخية الكاذبة والملفقة والمزيفة، أو النصوص الأدبية الأخرى التي تدعم هذه الرواية لتظهر الصهيونية واسرائيل لاحقًا مشروعًا اخلاقيًا وحضاريًا من الدرجة الاولى.

المشروع الصهيوني كان هدفه تحطيم المدينة الفلسطينية بالكامل واقامة مدينة عبرية على أشلائها… وهذا ما نجح في تحقيقه في 1948 حين تمت عملية إبادة يافا ولم يبقَ منها إلا القليل القليل…

أنا اعتقد أنّ هذه الدراسة تؤسّس لدراسات وبحوث ذات صلة بموضوع يافا خاصة والمدن الفلسطينية عامة لفهم صيرورة نموها وتطورها وتقدمها إلى أن تم ايقاف هذه الصيرورة في 48 بيافا وحيفا واللد والرملة وصفد وطبريا وبئر السبع… فَقَدَت المدن الكبرى من حضورها العربي الفلسطيني، لتتحول الى مشاريع استيطانية ضمن خطة اقتلاع السكان الاصلانيين وإحلال مهاجرين مستوطنين.

باعتقادي أنّ دراسات المدن تُساهم في فهم وإدراك الرؤية التي ميّزت رجال السياسة في الفترة العثمانية التي يعتقد البعض أنها سيئة، أو هكذا يتم تصويرها في بعض الادبيات… قد يكون أنّ الدولة العثمانية قد اخطأت هنا وهناك… فدول كثيرة تقع في اخطاء… لكن هذا بعيد كل البعد عن الحقيقة والواقع.. فالدولة العثمانية ساهمت في تحسين بعض الجوانب وتطويرها… وخاصة في المجالات الادارية والعمرانية… وهذا يقودني إلى أهمية القيام بزيارات وجولات ليس فقط في القرى المهجرة، أو ما تبقى منها… إنما إلى المدن التي ذكرت، وعلى رأسها يافا لفهم الواقع وبالتالي لفهم الماضي وما جرى فيه.

أنا أُهنئ البروفيسور محمود يزبك على إصداره هذا… وعلى إبراز مكانة يافا ليس فقط من الناحية التاريخية، وإنما بكونها حاضرة من حواضر فلسطين.

(ألقيت هذه المداخلة في أمسية إشهار الكتاب في نادي حيفا الثقافي بتاريخ 14.02.19)

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .