اعرف الأستاذ يوسف جمّال منذ شبوبيتي، فكنت اقرأ له الكثير من الذكريات والصور القلمية واللوحات القصصية في مجلة ” الغد ” الشبابية التي كانت تصدرها الشبيبة الشيوعية، وتوقفت عن الصدور لأسباب شتى، وبعدها التقينا وتعارفنا في ساحات وميادين النضال والكفاح والفعاليات الوطنية، وبقيت مواكبًا لمسيرته الأدبية الابداعية المتواصلة حتى اليوم، المتسمة بغزارة النتاج، وخصوصًا بعد خروجه للتقاعد.
يوسف جمّال من قرية عرعرة في المثلث، عمل مدرسًا فترة طويلة، يكتب القصة والخاطرة والقصيدة الشعرية والنثرية، وينشر كتاباته في صحيفة ” الاتحاد ” العريقة، وفي عدد من المواقع المحلية.
وهو قاص وشاعر مرهف يتمتع بحس وطني وثقافة انسانية واعية وملتزمة، يحلق في سماء التواصل الانساني، وفي فضاء أدبي باحساس عالٍ بالأشياء، متفجرًا بالمشاعر الوطنية العفوية، ولكتابته خصوصيتها ونكهتها الفلسطينية، وهي متعددة الرؤى والأبعاد والموتيفات، وعلى المستوى اللغوي فيحاول تطويع اللغة هائمًا، مفتونًا باللغة سابرًا أغوارها.
يوسف جمّال كاتب قصصي ينتمي الى المدرسة الواقعية في الأدب، يستمد موضوعات قصصه من واقعنا السياسي والاجتماعي، وهو يعالج في أعماله القصصية العديد من القضايا والمواقف والحالات النفسية والاجتماعية التي صادفها أمام عينيه ومحيطه والواقع الاجتماعي، فيرصد ويصور بدقة مشاكل الحياة التي يعيشها مجتمعه وشعبه ومعاناته اليومية، مستعينًا بالأشكال الأدبية والأساليب الفنية التعبيرية المناسبة، بقدر ما يكون واقعيًا.
وقد قطع يوسف جمّال شوطًا طويلًا في كتابة الفن القصصي، الاقصوصة والقصة القصيرة والطويلة، بوساطة اللغة المبسطة والتعابير السهلة، وباسلوبه السردي التسجيلي والحواري المشوق، متخذًا أبطاله وشخوص قصصه من الناس الفقراء والطبقات المهمشة الكادحة وعامة الشعب. وتميز بالتجدد المستمر والتنوع الثري والتطوير الدائم لأساليبه الفنية وأدواته الجمالية وموضاعات قصصه، مستفيدًا من تجارب غيره من رواد القصة ومواكبته المتلاحقة للتطور الفني والجمالي في تقنيات القصة العربية والعالمية.
أما قصائد يوسف جمّال فهي كقصصه تعكس التزامه بقضايا شعبنا الوطنية والطبقية، وايمانه المطلق بالانسان، وانحيازه التام لفقراء الوطن وجياع العالم والمسحوقين والكادحين في كل مكان.
وهي نصوص شعرية مختلفة المضامين والأشكال والأبعاد، وإن كان محورها الأساس يدور في بقعة هذا الوطن، إلا أنها تاخذ طابعًا انسانيًا امميًا، فتجسد الاحداث وحراك الجماهير في اطار الكفاح العربي والعالمي للتحرر الوطني والاجتماعي، وغالبًا ما تأتي في خضم الحدث، وفي الوقت المناسب، وتهتم بالموضوعات الوطنية والسياسية الأكثر بروزًا، كقصيدته عن المسعفة الغزية رزان، التي قضت في المعركة، حين كانت تقوم بعملها الانساني والوطني. وهي نصوص تظهر بجلاء ووضوح انتماء يوسف الفكري الثوري والوطني والطبقي الملتزم.
تتدفق قصائد يوسف جمّال بالصور الشعرية الجميلة المفعمة بالصدق الفني التعبيري، ونجد فيها احساس وطني ووجداني، فكر وخيال وتأمل واسع، وبساطة آسرة، وموسيقى ناعمة عذبة، وسلاسة وانسيابية، ولغة نابضة حية، ومضامين ذات نزعة فلسطينية وانسانية خالصة، فلنسمعه يقول في قصيدته الرائعة الموسومة ” أيها القادمون من بلاد الغياب “:
أيها القادمون من دروب الغياب
لا تبكوا على أطلال خولة
ولا على سمار جدائلها
انتظروها
ستخرج من بين خطوط الوشم
وسجون المنافي
ونافدة القدر
انبشوا في رماد موقدها
ستجدون بقايا جمر
فقبلات رحيل بيتها مرسومة
على جبين حيّها
بالحجارة والتراب والقهر
و بحنين صلاة الواح الصبر
انظروا حولكم
ستجدون وراءها
بدلة عرسها
وكحل عينيها
وحِنٌاء يديها
لا تبكوا على رسمها
فالدموع تمح وشمها
وتطفىء الجمر
أيها المارون من دروب الجليل
قفوا على جبل حيدر
على مشارف البطوف
وحيٌوا ..
القادمات من البروة
وهضاب الروحة
يحملن قصائد درويش
وقوافي زيٌاد
وحلم الميعاد
ويطلبن حطين مسكنًا وظلال
ويصحن..
وا .. صلاح الدين .. وا .. صلاح الدين
فخرجت بنت لهم
من بحيرة طبريا
وزغردت..
أيها الراجعون من السفر
ستجدون أرضنا قد تعلمت
حكاية غربال أمي
ولغة الحجر
وتحنان لوزتنا عند الزهر
وكما لمسنا في هذه القصيدة يبرز المكان الفلسطيني في نصوص يوسف جمّال، حيث يكثر وبشكل جميل مميز، وبكثافة، استخدام وتوظيف وذكر المدن والقرى والامكنة الفلسطينية ومخيمات البؤس والشقاء واللجوء الفلسطيني:
الطريق بين يافا واليرموك طويل
نعبر الزمان
بين قتيل وقتيل
بين رحيل ررحيل
نبحث عن المكان
على ضوء من القنديل
في مسارب خارطة الجليل
رضعنا زفرات الحنين
مع حليب ذكريات حطين
وشربناه من ماء الاردن
سنين وسنين
وتنفسناه من زبد بحر عكا
وهوا زيتون سخنين
وزرعنا على صفحات الغياب
اشتال الرياحين
وعلقنا مفتاح بيتنا على
الحائط ينتظر
بزوغ حلم العائدين
تجربة يوسف جمّال تشكل ملمحًا ومعلمًا واضح القسمات، جلي الصوت، عميق الدلالة ، بالغ الايحاء والشفافية، وموسيقاه عذبة شجية تنساب انسياب النسغ في قلب النبات المزهر.
إنه كاتب وشاعر متصوف فلسطيني، وعاشق حنيني يؤجج الشوق اللاهب في النفوس الظامئة لمدينة الغد المرتقبة التي لا يلجها سوى الفقراء والأطفال والشمس. فله المحبة والتقدير لحروفه الباذخة الزاهية ونصوصه الفلسطينية قلبًا وقالبًا، وروحه العارمة بحب الأرض والوطن.