“خرائط الذاكرة” كتاب حول تجربة الفنان فؤاد اغبارية التشكيلية

 

مراجعة: شاكر فريد حسن

أهدانا الفنان التشكيلي، ابن قريتي مصمص، فؤد اغبارية، كتاب ” خرائط الذاكرة “، وهو كتالوج جميل راق ومهني بثلاث لغات : العربية والعبرية والانجليزية، وجاء بطباعة أنيقة وورق صقيل ، ويتضمن سيرته الذاتية، ويتناول مسيرته وتجربته في مجال الفن التشكيلي بأقلام عدد من المهتمين والعارفين بالفن، كما يشتمل على الكثير من لوحاته الأعمال الفنية.

ويستهل الكتالوج بقصيدة الشاعر الكبير الراحل محمود درويش ” سجل أنا عربي “.

وتحت عنوان “صوت ورائحة ضوء” يقول فؤاد اغبارية : “لطالما شدتني خيوط الحاضر والذاكرة الى مباعث النور، بوثاق محبوك بيني وبين عائلتي . وها أنا أحلق في خيالي طفلًا، وأجمع في الفضاء المطلق صورًا لتجارب تومض وتلتمع كوميض متقطع لفيلم في مشهد تمتد أطرافه بلا نهاية، بين الرغيد والكارثي، وبين الهين والفجائعي خطوات عديدة، متجاوزة لحدود المقبول والممنوع، مدفوعة بالفضول والمحاولات المتكررة لاستكشاف الأسرار”.

ويضيف قائلًا: ” أحلق في خيالي كرجل ناضج ذي تصور مستقبلي، أحاول أن أجمع الماضي والحاضر لاستشراف المستقبل، كخيط يصل بين نقطة حبكت في الماضي السحيق، وهالة من نور مقدس تومض أمامي في كل ظهور خاطف، في خضم الواقع المعاصر، الساحر والمفعم بالحب، والحياة الزوجية والأبوة، يباغت الواقع بأوهان وجودية تتراوح بين الذاتي والسياسي، واذا به يدفع الى اقصى طرف بعيد، وكأنما ابتلعه ضباب ثقيل”.

وتحت عنوان “خرائط ذاكرة” تكتب فاردا شطاينلؤوف عن فؤاد اغبارية، فتقول: ” فؤاد اغبارية خريج اكاديمية بتسلئيل للفنون والتصميم في القدس، وحاصل على اللقب الثاني من جامعة حيفا، ولد في قرية مصمص، ومنها استمد الهامه في طور الطفولة، حيث كان شغوفًا بالخروج الى الطبيعة، وباستنشاق رائحة الأرض الرطبة هطول المطر الأول، وبالاستلقاء على الأرض في فصل الربيع والنظر الى الأعلى، حيث تصبح الغيوم في السماء الزرقاء”.

وعن أعماله تقول: ” تتميز أعماله التي صب فيها ابداعه في السنوات الثلاث الأخيرة، بصور زخرفية تستحضر الخط العربي. هذه اللوحات تتجاوز حدود الهيكل الكلي وتملأه بمساحة لونية حسية ونابضة بالحياة والحركة، حتى تبدو الحروف في أثرها وكأنها تتراقص. وترتكز اللوحات على مخطط من التصالبات التي تشكل نمطًا يعود على نفسه بصياغات مختلفة تحيلنا الى صورة الارابيسك، تلك التي تتفكك وتتراكب من جديد لعشرات المرات كصورة كتابية تتوالد وتتناسخ ذاتيًا، بنمط خطي متكرر يمتد الى ما لا نهاية “.

أما الكاتبة التشكيلية د. عايدة نصرالله، فكتبت تحت عنوان ” مشروع فني في صيرورة لامتناهية، قائلة: ” من يخطئ بدخول ستوديو الفنان فؤاد اغبارية فلا بد أن يصيبه تشعب حسي، من زحمة المواضيع والتقنيات، حيث يحتل الصبار جزءًا كبيرًا من الرسومات، التي يبدأ فيها مرئيًا وينتهي مجردًا من شكله الأصلي والأمر سيان بالنسبة للحصاد وما يتبعه من طقوس، والطبيعة بشتى أشكالها: طبيعة مجردة، وطبيعة انطباعية تضم أشجارًا وحقولًا، ورسومات خطية، ولوحات زخرفية متعددة، حتى يصعب على المشاهد تصنيفها “.

وتتطرق عايدة كل على حدة الى المشاهد الطبيعية المسكونة في لوحات فؤاد اغبارية، والصباريات، والطبيعة المجردة، والأشجار الباسقة، والبورتاريهات، واللوحات السياسية المباشرة، وتصل في الخلاصة الى الاستنتاج أن مشروع فؤاد اغبارية يشبه البناء “الجذموري “، والجذمور هو شجرة جذرية نبتت من بطن الأرض وتبدأ سيقانها بالالتفات والتفرعات التي تتشابه فيما بينها ولكنها تختلف وتتباين في الوقت نفسه.

وهي ترى أن ” مشروع فؤاد يتفرع ما بين الطبيعة الانطباعية والتجريدية، ثم يرحل للكليغرافيا التي تتبع الى قانون خاصية الفنان في التوزيع والتشذير والتركيب والتفكيك، انه فنان تجريبي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى “.

ويؤكد عبد اغبارية في مداخلته المعنونة “بين المهجر والناظور” أن ” في لوحات فؤاد اغبارية تحظى بلغة ثانوية، تسري داخل عمله الفني بما يشبه التمتمة التي يهمس بها بلمسات خافتة. هذه اللغة هي التي تشكل بطاقته التي تميزه عن غيره، تمامًا كما تميز شعر المتنبي عن شعر درويش، ورسومات دالي عن لوحات بيكاسو، وموسيقى الأطرش عن الرحابنة “.

ويسهب فؤاد اغبارية في الحديث عن عالمه الفني، الملاذ الحسي والفكري، ويوضح قائلًا: “من الحياة الريفية استمدت معظم أعمالي الهامها، موثقة حبًا جمعني بمكان حوطني، ولوحة تصور منظرًا بانوراميًا كفيلة باصطحابنا الى جبال ووهاد تقتطع استرسالها الشوارع، أو الوديان، انه الرسم الانطباعي الذي اقتنصه من وحي خيالي، بعد أن حفر في الذاكرة. هذا المنظر الشمولي الذي يحمل بين جنباته روح جبال الروحة أو وهاد اللجون أو حتى تلك الحقول النائية التي رحت أجول يومًا بين منتحياتها وانعطافاتها طفلًا فضوليًا وشابًا مغامرًا”.

ويضيف بقوله: ” في طفولتي اعتدت التجول بمفردي، وحدي مع الجبال، ترافقني همسات الطبيعة وهمهمات الكون، تلك التي تتقلت تارة من هنا، وتارة من هناك، لا أخفيكم انني ارتعدت لمرات من خوف تملكني، ولكن قوة داخلية، استحوذت علي ودفعتني الى المواصلة والاستمرار. هبات النسيم الخفيفة على حيطان بيتي في القرية، والخروجات الصباحية ما طاب من الثمار، وقطرات الندى الناعمة، والأشواك التي لم تترك مكانًا في جسدي الا وخزته، والتوت البري، وعرائش العنب، والتين، والرمان، والصبار، كلها أجزاء شكلت معًا صورة تكاملية من واقع المكان الذي كان، وأيقظت داخلي تساؤلات عديدة حول صيرورته بعد سيرورته “.

ويخلص فؤاد الى القول: ” في أعمالي الجديدة أجنح الى التعبير عن مواطن وأبعاد المعاناة التي أعايشها، بما في ذلك البعد الجمعي، مع نقد ذاتي قدر الامكان، حتى يكون اشتغالي الفني وثيق الصلة بمجتمعي وقضاياه، وبمجمل حمولتها “.

ويضم الكتاب عشرات اللوحات الجميلة البديعة المميزة، التي نجد فيها العشق للطبيعة، وعبق الأزهار في البراري، وانسانية فذة، وحياة، والتصاق بالمكان، وهوية وانتماء واضحين، وحكاية شعب لا يزال يعاني التشرد والتهجير والترحيل والغربة، ويحلم بالعودة والاستقلال.

وفي الاجمال يمكن القول، فؤاد اغبارية فنان تشكيلي مبدع مجيد وملهم يرسم اللوحة بلغة الشعر ، وقد أثبت حضوره بجدارته في المشهد الفني التشكيلي الفلسطيني، وانني اذ أشد على هديه مهنئًا وأتمنى لمشروعه الفني الابداعي النجاح، وما هذا الكتالوج سوى شهادة حقة على اصالته وعطائه الفذ وجمال لوحاته، ومزيدًا من الانتشار والتألق والسطوع الدائم في فضاء الابداع وفن التشكيل .

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .