شاركت الكاتبة الصديقة دعاء زعبي خطيب، في أمسية إشهار باكورة أعمالها في نادي حيفا الثقافي مؤخرًا، واستمتعت بمداخلتين قيّمتين ألقاهما الدكتور محمد هيبي والشاعر تركي عامر. اقتنيت نسخة من الكتاب، وحال عودتي للبيت تصفّحت بعض النّصوص فلفتت انتباهي مع أني لا أحبّ الدّمج بين الأنواع الأدبية شعرًا ونثرًا بأنواعه في مؤلَّف واحد. أقولها وبصراحة أغراني أيضا حجم الكتاب وقلت في ذاتي أنّ قراءته ستكون خفيفة الظلّ، وهكذا كان.
وقبل كتابتي هذه، قرأت قراءة رائعة للدكتور الناقد رياض كامل حول الكتاب، فقلت في نفسي ما عساني أن أكتب بعد كل هذا، لكنّ هاجسًا داخليّا ألـحّ علي فكتبت.
أُقِـرُّ أنّ الكتاب راقني وأعجبني في أغلب نصوصه على اختلاف نوعها، لغة راقية جميلة شاعريّة وأسلوبا مطعَّمًا بعنصر التشويق، الوصف الجميل والسرد الجاذب الذي أبدعت كاتبتنا في استخدامه.
كنت أتساءل مع بداية كل نصّ، ماذا تخفي وراء هذا العنوان أو ذاك وتراني أخمّن وأخمّن ويظهر أحيانا أن تخميني خاطئ، لتـتجـلّى الصورة والقصد بأبهى حلّة ولتشهد لها وبكل صدق على حرفيّتها في سرد قصصها المعطّرة برائحة الذكريات الجميلة ولتسجّل إعجابك دون مواربة وتملّق.
لست ناقدة ولن أتطرق إلى ما يقوله ذاك الناقد ولن أتطاول على من لهم باع في هذا المجال ، وإني لمعجبة بما أشهده من نقد محلي من قبل أساتذتنا الذين نفتخر بهم، ولكنّي سأتحدث اعتمادًا على حسّي وذائقتي. وارتأيت أن أعرّج على بعض ما أعجبني وراقني من نصوص القصة القصيرة، والتي يغلب عليها طابع الذّكريات والسيرة الشخصية من أيام الطفولة المبكرة والشّباب.
- هنيئًا لك يا “حاييم”، فقد تفوّقتَ عليّ (ص 20)
بدأت قصتها بحديث عن الكراهية لشخص ما،”عافتهُ نفسي، كرهْتُهُ وأنا التي لم تعرف الكرهَ يومًا. لعنةً فرعونيّةً مستديمةَ السُّمِّ قد يكون حاييم، أو ضربا من ضروبِ المسّ والهوسِ والجنون يصرُّ على ملاحقتي ومطاردتي في هذه الفترة من كلّ سنة.”
مع بداية السرد نفهم أن حاييم هذا هو شاب يهودي وأنه كان يدرس مع كاتبتنا في الجامعة، وتصفه بصورة دقيقة “دائمَ النظرِ إليّ كان ذلك الشّابُ اليهوديّ العشرينيّ، ببزّته العسكريّة التي لم تفارق جسده الممتلئِ يومًا، وسلاحهِ الذي لم يفارق أكتافًا ضخامًا … وصدرٍ منتفخٍ لاهثٍ يعلو حقدًا ويهبطُ كراهيةً لكلّ روحٍ عربيّة. كانت عيناهُ تشعّانِ بغضًا وعداءً وعنصريّةً محمومةً، أقلقت صفاءَ نفسي.” ووصل الأمر بهذا الشاب والوقاحة “أن أبدى إطراءً عنصريًّا في حداثةِ ثيابي وطريقة لباسي وعدم تصديقه لما تراه عيناه.”
لكن هذا الشاب اختفى يوما وغيره من الشباب اليهود .. تدعنا الكاتبة نتابع القراءة وتحثنا على المتابعة لنفهم أنه أستدعي للمشاركة في الحرب على لبنان في حزيران 1982، وتعلن لنا ما جال في خاطرها من أفكار وبكلّ صدق “وتستمرّ الحرب وتستمرّ معها دعواتي وصلواتي بألّا يعود ذلك الضخم المهووس بكره العرب”. ولا تكتفي كاتبتنا بهذا ولا نروي ظمأنا، فلماذا عنونت قصتها هكذا، لماذا تهنئ حاييم هذا الذي كرهته وكرهها منذ البداية ؟ وبماذا تفوّق عليها؟
تتابع سردها ونتابع قراءتها لتتّضح الصورة أخيرا، لتعلن النهاية وتعلن اندهاشك من النص “فهنيئًا لك يا حاييم، هنيئا لك… لقد تفوّقت عليّ.”
- مظلّتي وما بعد ال 67 (ص26)
قصّة غلب عليها الوصف والتشبيه الجميل، عنوان أيضا جاذب، ما الذي تغيّر بعد هذا التاريخ سؤال يطرح ذاته ويشوّقك لمتابعة القراءة، فالعمّة تزوجت وسكنت في نابلس وكان من الصعب زيارتها مدة من الزمن. تقول: ” تزوّجت منذ زمنٍ بعيدٍ وسكنت نابلس تلوكُ الغربةَ والاحتلالَ، ونلوكُ نحن الحرقةَ والحرمان لرؤيتها وعائلتها.” (ص26)
صفحتان من القطع الكبير تحدّثنا الكاتبة عن مرحلة جميلة من مراحل طفولتها وشبابها ” وأصبحتْ نابلس هي قِبلة الفرح والشبابِ والصّبا الجميل الذي بدأتُ أكبرُ داخله.”، دون أن يكون هناك أي ذكر لكلمة مظلّة أو أي تلميح لتربطه مع عنوان قصّتها، لتنكشف الصورة في الصفحة الثالثة، فنعيش حكاية جميلة شخصية لطفلة في السابعة من عمرها، كانت قد وافقت والدتها أن تشتري لها مظلة ملوّنة من أحد أسواق نابلس ولهفة الصغيرة لاستخدام المظلة وترقّب المطر، توبيخ المعلمة الشمطاء “وغادرتُ مدرستي وفي حلقي غصّتان؛ توبيخُ تلك الشّمطاء الّتي لا تفهم معنى الانتظار واللّقاء، وخيبتي من انتظارٍ ولقاءٍ لم يتمّ… وفجأةً… مطر… نعم إنّها تمطر… حقًّا تمطر وبشدّة.”( 29)
تتابع الكاتبة قصتّها فتصف معركتها مع الريح إلى حين وصولها البيت، لتستقبلها أمها بالضحك وتنادي أيضا العمة لتشاركها ضحكها، ليبدو لنا أخيرا أن المظلة التي طالما انتظرتها وتشوّقت لشرائها، قد تنازلت عن ألوانها عند أول شتاء وصبغت بألوانها وجه كاتبتنا ويديها.
- شرط من زجاج ( ص32)
قصّة أخرى عن ذكريات الطفولة وخميس بائع العرقسوس، قصة تعجّ بالوصف الجميل والتشبيه وعنصر التشويق، رفض الوالدة أن تشتري ابنتها شرابًا ومساومتها على الأمر إلى أن كانت هناك صفقة ما وهي أن يسكب البائع الشراب لكاتبتنا في كأس زجاجية ناولتها إياها أمها من البيت، تقبل البطلة بالصفقة هي المتشوقة لخميس وعربته الخشبية وأقداحه المعدنية فضية اللون وشرابه البارد المنعش.
- كعك وسمسم وحلب ( ص44)
تتحدث في هذه القصة عن بائع الكعك بالسمسم ومناقيش الزعتر وعن عادة والدها شراء كعكة لها عندما كان يصحبها الى عيادة المرضى وهي طفلة، تجعلنا نتماهى معها ومع تصرّف والدها، وكلّنا تربّينا على أن تغرينا المشهيّات خاصة عند المرض اعتقادًا أنها قد تخفف الألم، لكن ذكريات الطفولة البريئة والجميلة هذه قد استحالت ذات صباح وباتت مأساوية مؤلمة وحزينة، فما سرّ هذا الحزن وما الأمر الذي أعدم شهيّة كاتبتنا فجأة؟
” أمّا اليوم فلقائي بها كان حزينًا، تعيسًا، كتعاسةِ وطنٍ حلمَ بالرّبيعِ ولم ينلهُ …. مشهدُ ذلكَ السوريّ الحلبيّ، وهو يجرُّ عربةً تحملُ كعكتين صغيرتينِ لطيفتينِ، مضمّختينِ برائحةِ زعترِ وسمسمِ الشام الجريح… جثّتي طفليهِ.” (ص45).
إنه فعلا مشهد بغاية المرارة والألم والقهر، هذا المشهد الذي ساقته لنا الكاتبة بكل صدق يثير في نفس كل قارئ الألم والاشمئزاز والغضب لنتماهى معها ومع مشاعرها حين قالت، “لقد أُعدمت شهيّتي عنوةً، فلم أعد أرى كعكًا ضاحكًا يدعوني إليه، ولا خبزًا شهيّا منتفخًا ينتظرني. لم أعدْ أشمُّ رائحةَ زعترٍ وسمسمٍ محمّصٍ تسري في عروقي، حتّى طفولتي خجلتْ من اشتياقي لأبي وكعكته القديمة.”(ص45).
- عطش (ص 77)
لا أعرف لمَ استفزّني هذا النصّ عندما قرأته، وأعلنت حال انتهائي من قراءته أنه فعلا رائع ومدهش، هل تحرّكت الذكرى أم اشتعل الحنين للذاكرة والتراث؟؟ لست أدري، لكن هذا النصّ دفعني لكتابة رسالة للصديقة الكاتبة أطلب فيها أن ترسل لي نسخة الكترونية من كتابها لأني بصدد كتابة انطباعاتي عن كتابها.
اختيار العنوان موفّـق ومشوّق برأيي، تقرأ فقرتين من النصّ وتجهل عمّا يدور الحديث، تتابع قراءة الثالثة وتشكّك في الأمر، وتستمر في القراءة في محاولة كشف المجهول، “اقتربتُ منهُ، لم يحرّك ساكنًا، حتّى خلتهُ عاتبًا عليّ وعلى زمنٍ قد نسيه… مسحتُ عن جبينهِ عرقَ العتبِ واللّوم، فتململَ قليلًا ثمّ عادَ ليكملَ نًومةً له طالت…”(ص77). مع نهاية الصفحة الأولى ينكشف الأمر تدريجيّا لنفهم أن إبريق الفخّار هو المقصود في الحكاية، هو الذي ما زال له ولذكرياته مكانة في قلب كاتبتنا وعطش للإرتواء من مائه العذب، “ما زالَ مذاقهُ الفخّاريّ يغازلُ شفاهي كلّما مرّت من أمامي” (ص 78). وتنهي كاتبتنا قصتها بالعبارة التالية “لإبريق ذلك الزّمن في القلبِ مكانٌ، وفي الذّكرى حيّزٌ من الوقتِ والحنين، وفي الفمِ كثيرٌ من العطش.” (ص 78).
الكاتبة دعاء زعبي خطيب، في الفم كثير من العطش وفي العين كثير من الشّوق وفي الرأس كثير من الانتظار لعطش ترويه كلماتك وقصصك فلا تبخلي بالمزيد.