ماذا يعني اقحام الشيخ موفق طريف في مراسيم استقلال دولة اسرائيل السبعين؟ / أمل جمّال

 

في خضم الإعلان عن اختيار الشيخ موفق طريف لاشعال شعلة في احتفالات الاستقلال السبعين لدولة إسرائيل، تساءلت عن مسوّغات اختياره وحول ماذا ومن يمثل الشيخ طريف ليتم اختياره في هذا الاحتفال؟ راودتني هذه الأسئلة لعدة أسباب، أهمها الجوهري المتعلق بالمفارقة بين دوره الديني ومشاركته في احتفال قومي الطابع وسياسي الأهداف، ليس محلياً فقط وانما اقليمياً أيضاً. لا يمكن التغافل عن الشكل الذي يتم ترويج هذه الاحتفالات والتنافس عليها بين رئيس الحكومة ورئيس الكنيست ومحاولات استغلالها لأغراض دعائية صرفة.

 

تقودني هذه المسرحية إلى طرح العديد من الأسئلة حول اقحام الشيخ طريف ومشاركته في هذه الاحتفالات، والإحراج المترتب على وجوده في وضع كهذا. خاصة بأن الاحتفالات تعكس مَسًا سافراً بقيم إنسانية ووجدانية شاملة ومتساوية الطابع وتتصادم بشكل مباشر مع الانتماء العربي القومي والحضاري للطائفة الدرزية. وعليه طرحت هذه التساؤلات لأسباب تتعلق بوظيفة الشيخ طريف الدينية والمفارقة التي يطرحها التضارب بين جوهرها الديني والعقائدي والحدث السياسي. قادتني هذه التساؤلات والمفارقات إلى التفكير بماهية التمثيل وإذا كان هنالك تطابق بين كوّن الشيخ طريف رئيساً للمجلس الديني للطائفة وبين مشاركته في هذه الاحتفالات السياسية، بصفة تمثيلية أيا كانت!

 

باعتقادي، إن مفهوم التمثيل في جوهره المفاهيمي وجوانبه العملية يتحدى مشاركة الشيخ طريف في احتفالات استقلال دولة اسرائيل. الا ان اختياره لم يأت محض صدفة وبدون علاقة بوظيفته وما يمثله زيه الديني، ولما في ذلك من رسالة للمحيط العربي السابح بدمائه وخلافاته. هنالك عملية توظيف تطرح البعد التمثيلي الرمزي لمشاركة الشيخ طريف وهذه بحد ذاتها كافية وتلزم التعامل معها بشكل جاد.

 

ان التمثيل يعني في الأساس استحضار حالة أو إرادة أو قرار أو شخص أو مجموعة بشكل إرادي وصادق للتعبير عنها وعن مصالحها. وفِي التمثيل هذا جوانب أخلاقية ووجدانية. خاصة عند الحديث عن وظيفة دينية وكأنها تتحدث لبعض الناس باسم الخالق وارادته. كذلك يبرز  الجانب سياسي للتمثيل وهو انعكاس للمعنى الحرفي للكلمة، حيث انه من الممكن فهم التمثيل كممارسة التلاعب في عملية الاستحضار التي تم ذكرها من قبل من أجل نقل صورة غير متماثلة مع المقصد الأساسي لعملية التمثيل.

 

حضور المفارقة بين المستويين المذكورين للتمثيل تمكّننا من التطرّق لبعض الجوانب الاشكالية في مشاركة الشيخ طريف في احتفالات استقلال اسرائيل السبعين. فهل مشاركة الشيخ طريف هي استحضار لإرادة جماعية حقيقية وصادقة ام ان فيها مغالطة أساسية وخلط بين دوره الديني، على كل اشكالياته والمعنى السياسي لهذه المشاركة الاشكالية؟ من هنا فإن السؤال؛ هل يشترك الشيخ طريف بصفة شخصية أم كونه يشغل دوراً تمثيلياً يصبح ليس سؤال شرعياً فحسب، وإنما الزامياً أيضاً. من المفروض الإجابة عليه والبت فيه لأسباب عدة، أهمها الأبعاد الاخلاقية والوجدانية للالتباس المبطّن في هذا الاشتراك الإشكالي على اسقاطاته الرمزية على الأقل.

 

علينا التنويه أولاً بأن الشيخ طريف، ليس منتخباً وبالتالي فهو لا يمثل إرادة جماعية ديموقراطية وحرة بالمعنى الجوهري والحضاري للكلمة. مجرد كوّن وظيفته نتاج لبنية طائفية بطركية تقليدية محافظة تم اختلاقها لحاجة في نفس يعقوب. ولذلك يتم الحفاظ عليها من قبل الدولة لاسباب واستخدامات سياسية، أكثر منه لأسباب جوهرية أو مصلحية حقيقية تنبع من مصالح أبناء وبنات الطائفة وانعكاس لإرادتهم، كل هذا يعني بأنها ليست تمثيلية بجوهرها لكنها ذات تبعات ودلالات تمثيلية في رمزيتها. بسبب هذه المفارقة في الأساس لا يمكن لهذه الوظيفة ان تعكس التحولات الجارية في الطائفة ومحيطها الثقافي والاجتماعي والسياسي ورأي ابنائها وبناتها. فهي مفروضة بشكل فوقي ولا تعكس إرادة جماهيرية، الا من باب الانتفاع منها او الخوف من الاعتراض عليها أو الإبقاء على هدنة معها لعلها تنفع في لحظة انتهازية معينة. كما ان هذه الوظيفة لا تأخذ بعين الاعتبار التغييرات الجارية في صفوف الشباب الدرزي، الذي لا يرى بالوظيفة أي صبغة تمثل هواجسه وهمومه وأحلامه. ولهذا فهي حتماً لا تمثله في هذا الحدث وإنما تُفرض عليه كجزء من بنية السيطرة الإدراكية والسياسية المهيمنة. وأرجو من الشيخ طريف التفكير في ذلك.

 

بما ان هذه الوظيفة التي يؤديها الشيخ طريف دينية في جوهرها، كان من المفروض على المتدينين النظر إليها والبت فيها، خاصةً أن أغلبية أبناء وبنات الطائفة ليسوا متدينين ولا يمارسون حياة دينية بالمعنى الجاد للكلمة. الا ان المؤسسة الدينية التي يرأسها الشيخ طريف تلعب دوراً يتجاوز حدودها الدينية، كما هو الحال في النقاش المطروح. لهذا يحق لكل من يرى بان سلوك رئيس المجلس الديني الدرزي يلقي بظلاله عليه والحالة المطروحة هي بشكل واضح كذلك، يحق له ولها ان يعبرا عن موقفهما من سلوكياتها وابعادها العملية والرمزية عليهم. ليس من نافل القول التأكيد على ان جزء لا يستهان به من المتدينين حتى، لا يتقبلون سلطة الشيخ طريف الدينية ولا يرونها حقيقية، كما كان الحال مع جده الموقّر. فكم بالحري عندما تأخذ قيادة الشيخ طريف طابعاً ليس دينياً وإنما سياساً عليه جدال سياسي وخلاف مبدأي وقيمي ووجداني عميق وله إسقاطات على كل شخص، متدين كان ام لا.

 

لهذه الأسباب وعلى رأسها كوْن الحدث المطروح سياسي وليس ديني وكون الشيخ طريف يشغر وظيفة دينية فلا تلاقي مفاهيمي ولا وظائفي-عملي بين وجوده في احتفال استقلال الدولة وبين تمثيله الفعلي او الرمزي للطائفة الدرزية، الا من باب القسر وإقحام صفته لمكان لا يجب ان تكون هذه الصفة فيه. وان كانت فيه، فهي تجرد نفسها من صفتها التمثيلية الاساسية ويحق سحب الشرعية الوجدانية عنها.

 

فإذا كان التمثيل هو استحضار إرادة عامة، إلى أي مدى يستحضر الشيخ طريف إرادة أبناء وبنات الطائفة الدرزية من خلال مشاركته في احتفالات استقلال دولة اسرائيل واشعاله شعلة الاستقلال؟ الجواب القاطع بالطبع سلبي فهو لا يستحضر إرادة وإنما يسقط عليها سلوكه وكأن تقبّل سلوكه من قبلها مفهوم ضمناً.

 

كان من المنطقي انه بمجرد كونه شخصية دينية، عليه كان ان يحصر تمثيله في الجانب الديني وليس له ان يقوم باسم الطائفة بأفعال ذات طابع سياسي. وبما ان احتفال استقلال اسرائيل هو سياسي لا توافق عليه ولم يتم البت به، فلا دور تمثيلي جوهري حقيقي للشيخ طريف في هذا الحدث. وجوده هناك هو تمثيل جوهري لشخصه فقط وواجب عليه ان يحصر هذا التواجد بذلك. ومع كل الاحترام الشخصي الذي نكنه له، لا بد من الفصل بين شخصه وبين جوهر وظيفته الحقيقي، الذي باعتقادي يتم استغلاله بشكل غير لائق من اجل تمرير أهداف لا اجماع عليها ولا تتفق مع وجدان العديد من أبناء وبنات الطائفة.

 

بالرغم من ذلك لا يمكن التغاضي عن رمزية مشاركة الشيخ طريف والتي باعتقادي تؤدي ليس إلى المس بالجانب التمثيلي للشيخ طريف فحسب وإنما بوجدانية العديد من أبناء وبنات الطائفة الذين يتماهون مع شعبهم وامتهم وضميرهم الإنساني ويرون بسلوك الشيخ طريف إساءة لكل ذلك. هذا بدوره يؤدي إلى تعميق أزمة مكانة الشيخ طريف في اعين العديد من أبناء وبنات الطائفة الدرزية والذي هو نتيجة مباشرة لهذا الاشتراك الخلافي المتجاوز لحدوده والذي يخلط بين الديني والسياسي من جهة والاخلاقي والانتهازي من جهة أخرى.

 

إن المفارقة بين الشخص والوظيفة والانجرار الى حدث لا يجلب الا المزيد من الخلافات وتعميق الشروخ والتقليل من أهمية الوظيفة التي يقوم بها الشيخ طريف والتي لا تهمني على جانبها الديني، لكوني لا ارى بها سلطة ملزمة لي كعلماني، هذه المفارقة تلزمنا التطرق الى جوانبها وإسقاطاتها الوجدانية والاخلاقية ليس على الشيخ طريف فحسب وإنما على الطائفة الدرزية، بما في ذلك العلمانيين منها.

 

بما ان للتمثيل الديني، حتى وان كان قسري، جانبا اخلاقيا، فلا يمكن التغاضي عن رمزية التمثيل التي يقوم بها الشيخ طريف بمجرد وجوده في هذه الاحتفالات. هذا الحضور يتعارض مع الانتماء القومي لأبناء وبنات الطائفة الدرزية الذين يدفعون ثمن سياسات الدولة المجحفة بحقهم والمغتربة عن انتمائهم وهويتهم. الا ان العامل الأهم هنا هو التناقض بين ما تمثله احتفالات الاستقلال والمبادئ الانسانية الاساسية، خصوصاً عند الحديث عن الدولة التي تحتفل باستقلالها من خلال سحق شعب آخر، شُرِّد جزء منه وما زالت أجزاء أخرى تقبع تحت وطأة القمع والتنكيل وطمس الهوية والتضييق ومصادرة الارض والارادة السياسية والاعتداء على حرمات الضمير والوجدان.

 

وحتى وان لم نتفق حول انتماء الطائفة الدرزية لهذا الشعب، وانا أعي انني لا أمثل موقفاً غالباً في القرى الدرزية، فمع ذلك من المنطق ان نتفق بان السياسات التي اتبعتها وتتبعها الدولة المحتفلة بعيد ميلادها السبعين تجاه قرى الدروز في الجليل والكرمل هي مجحفة وعنصرية وهي نفسها التي يتم اتباعها في الشاغور والمرج والمثلث والنقب. إن سياسات استلاب الارض والتضييق على القرى والحدّ من تطورها وإعاقة مخططاتها الهيكلية، من اجل جني المال واضعاف وإنهاك اهلها في جميع القرى العربية، بما في ذلك الدرزية منها تدل على ان الدولة نفسها لا ترى بادعاءات بعض الدروز بأنهم يختلفون عن باقي العرب كادعاءات ذات أهمية او قيمة، لانها تعرف انها غير حقيقية. وهذه السياسات بالذات تؤكد على ان الدولة تتعامل مع كل غير-اليهود بنفس العقلية، حتى وان اختلفت الآليات واللغة بعض الأحيان. ولا بد في هذا السياق تذكير هؤلاء الذين يؤكدون الفرق بينهم وبين بقية العرب بان هذه السياسات المجحفة والهادفة للحد من النمو الطبيعي للمجتمع العربي على جميع اطيافه، تأتي بالرغم من الضلوع في الخدمة العسكرية منذ عقود وكون نفير لا يستهان به من أبناء الطائفة يعملون في قطاعات الأمن المختلفة والمسؤولة عن تنفيذ هذه السياسات غير المحقة.

 

هذه السياسات المتشابهة تثبت لكل قاصي وداني بان سياسة الدولة لا تتعلق بالجانب الوظائفي لعلاقتها ببعض مواطنيها وإنما ترتبط بشكل عميق مع هويتها هي، القومية- الاثنية الضيقة، التي تشكل المرجع الاخلاقي الأساسي في تحديد الصالح العام وأولويات سياسات الدولة وشكل توزيع مواردها والتي تعكس عقلية قبليّة ضيقة، تفرّق بين صديق وعدو بناءً على الانتماء العرقي الضيق وليس المواطنة والتزاماتها، كما يظهر في اقتراح قانون القومية الذي يتم سنه في هذه الفترة، بدعم من بعض أعضاء الكنيست الدروز. كما انها تلعب على وتر فرق تسد وتعزز الشروخ والفروقات بين أبناء الأمة الواحدة.

 

إن شكل ومضمون احتفالات استقلال اسرائيل السبعين هي تعبير عن الاستعداد للتخلي الكامل عن القيم الانسانية الاخلاقية والتي كانت من الممكن ان تنعكس في سياسة سلام ومصالحة مع الشعب الفلسطيني القابع تحت احتلال استيطاني إحلالي في الضفة الغربية وقطاع غزة منذ خمسون عامًا. والتكفير عن اخطاء وتجاوزات إنسانية تاريخية فادحة وإصلاح ذات البين مع المواطنين غير اليهود في الدولة، من اجل واقع بديل أفضل. الا ان سياسات الحكومات الأخيرة المتعاقبة لا تعكس توجه اخلاقي تصالحي ولا ترى الآخرين الا من خلال ناظور البندقية، كما أظهرت مواجهة المظاهرات الشعبية في غزة في الفترة الاخيرة.

 

على خلفية هذه السياسات فإن مشاركة الشيخ طريف تستغل من اجل تبييض صفحة الدولة وتسخّر لصالح مشروع قومجي شوفيني، تصبح فيه عمامة الشيخ طريف آلية منكلة وقاهرة، الشيء الذي لا يتماشى مع رمزيتها وقيمتها الدينية والحضارية، وانا أقول هذا بالرغم انني علماني كامل ولا ارى الشيخ طريف يمثلني بوظيفته الدينية وكم بالحري في هذه المناسبة، ذات الطابع السياسي الخالص والتي تتنافى مع الضمير الذي كنت أتمنى من الشيخ طريف التحدث باسمه، بدل المجاملة التي يقوم بها في سياق كان من المفضل الابتعاد عنه.

 

ان هذه المشاركة هي نتاج لسياسة موجهة وخبيثة كنت أتمنى من الشيخ طريف ان لا يقع في مطباتها وان يتنصل منها ويقدم نموذج أخلاقياً واعياً يواجهها ويعلن عن عدم استعداده اللعب في ملعبها، خاصة انه يعي جيداً المقاصد من ورائها وبأنه بمجرد وجوده هناك يدمغ الطائفة جمعاء بألوان لا تتقبلها مجموعات لا يستهان بها من أبنائها وبناتها، وعلى رأسهم مثقفيها وأدبائها وشعرائها وفنانيها ومبدعيها.

 

لم يفت الأوان بعد، لان يتراجع الشيخ طريف عن موافقته وان يعلن بان استغلال مشاركته لا تأتي له بالاحترام وتعمّق الخلاف معه. تراجع من هذا النوع من الممكن ان يعيد له الكثير من الثقة به وبضميره الحي وبان يؤكد على ان الوجدان الديني لا يمكن ان يقبل المساومة على أغلى وأرفع المبادئ الانسانية، وهي الحرية والكرامة والاستقلال لكل إنسان ومجموعة على وجه الخليقة بالتساوي. كما يمكن لهذا التراجع والتأكيد على ان العديد من أبناء وبنات الطائفة الدرزية لن يلعبوا في هذه اللعبة ولن يتماهون مع  مبادئ لا تتماشى مع انتمائهم وعقيدتهم.

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .