قبل أيام جمعتني صدفة جميلة بالسيد عبد الرحمن رشيد النجاب، ابن “جيبيا”، قرية صغيرة عزلاء وغير منسية من قرى محافظة رام الله. رجل سمرته عذبة ساحرة، وكلامه مفيد ومنعش كزيت الزيتون الأصيل ومثله يترك في النفس رغبة لمعانقة السحاب.
ولد في آذار قبل خمسة وتسعين عامًا، لعائلة كريمة عشقت رهافة الفجر ورقة الأرض حتى التعب، لكنها خبرت، كذلك، أن العلم مطرقة تشق بها دروب السعادة، ومنجل يجني السلامة ويحصد الأمن والخلاص.
تعلم رغم شظف العيش وقساوة ظروف عائلته. تنقل من قريته الوادعة إلى المدينة فإلى القدس العاصمة وبعدها إلى جهات الريح الأربع. صار خبيرًا زراعيًا عالميًا وعلمًا جال مع قلة من أبناء فلسطين دولًا كثيرة. قبلوا العمل فيها كي يقفوا إلى جانب شعوبها، ونقلوا إليهم، قبل الخبرة المهنية، عشق الحياة وقدسية الانسان.
بقي كما كان ببساطة الفلاح الذي تذوق في ظل عرائش الكرمة والشجر حنان الندى على زهر اللوز وذكاء النحل في جني العسل.
كلما أجلس في حضرة “أبو الرشيد” أتمنى ألا يتوقف عن الحديث ورواية القصص. سيرته أخت لتاريخ هذا الشرق “الحديث” ومجبولة بحكايات العزة والشقاء والضنى. مسيرته مليئة بكنوز حكمة التجارب وعشرة من صدقوا ووفوا ومن غدروا وخانوا وانطفأوا. إنها مائة عام من رحلة الصبر والعطاء والشمم.
في بيت الأصدقاء ابنته د. سلوى الخطيب نجاب وزوجها د. غسان الخطيب، في رام الله، قرأت على مسامعه آخر سطر في كتابه “جيبيا، أول المشوار-١٩٢٣”، الذي يشبه كتب السيرة، وسألته: من أين تأتي بهذا الأمل؟ وكيف نحفظ نحن رغم الخيبات والوجع وصيتك القاهرة، حين تقول لنا: “ورغم ذلك يجب أن لا نفقد الأمل وأن نستمر في العمل بأساليب علمية عقلانية، والنصر والظفر في النهاية للشعوب”.
تبسم بحياء سواسن وهاد “جيبيا”، وبخفة الغزال أعادني إلى مواجع أيامنا إلى ترامب وغزوته الجديدة.
القدس أكبر من معبد، القدس وطن
لا يمكن التقليل من وزن وأهمية ردود الفعل العالمية ضد اعلان دونالد ترامب بشأن القدس حيث تجاوزت تلك المواقف ما ألفناه من ديبلوماسية روتينية وشعاراتية طقسية، فجاء رفضهم لتصريحه حازمًا وصاحبه على الأغلب تأكيد تلك الحكومات والمؤسسات الدولية على خصوصية مكانة القدس وحق الفلسطينيين فيها، فيما يتعدى جزئية حرية العبادة وحماية الأقصى وسائر الأماكن المقدسة، كما لفت إليه ترامب بشكل مباشر ومستفز ومقصود.
إلى جانب مواقف السياسيين والاحتجاجات الشعبية، على تفاوت وتائرها وأحجامها، أعلنت كنائس عديده في العالم عن رفضها القاطع للموقف الأمريكي وشجبها لتبعاته وما قد يفضي إليه من تداعيات سلبية على أرض الواقع، وقد يكون موقف بابا الفاتيكان أبرز هذه المواقف ومثله موقف البابا تواضرس المصري.
أما في اسطنبول فلقد تنادت الدول الأعضاء في “منظمة التعاون الإسلامي” وعقد رؤساؤها قمة طارئة انتهت بدعوتهم للعالم إلى الاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة لفلسطين وذلك كرد على القرار الأمريكي.
وفي بيان نشر الأربعاء الفائت جاء على لسانهم: “نعلن القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين وندعو الدول إلى أن تعترف بدولة فلسطين وبالقدس الشرقية المحتلة عاصمة لها..” كما وأضافوا في بيانهم: “نرفض وندين بأشد العبارات القرار الأحادي غير القانوني وغير المسؤول لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية القاضي بالاعتراف بالقدس عاصمة مزعومة لاسرائيل، السلطة القائمة بالاحتلال، ونعتبره لاغيًا” .
لا نعرف كيف وأين ستصرف تلك المواقف “النارية” الموشاة بالأحمر المهزوم والمراق، ولن نطيش في نقطتين من “بوسفور” و”ذهب أسود”، فهتافات الخديعة تناثرت دومًا وهي ملفوفة بفيض من العواطف الشرقية الزاهية، ومدججة بخيالات شهرزادية، وهي، كما يشهد تاريخ الهزائم في مضاربنا، قد أنهكتنا، نحن الفلسطينيين، خاصة إذا ما استذكرنا أهازيج زحف الأمة الخائب عبر العقود الخالية، وهدير حناجر أبنائها وهي تملأ الفضاء بلهيب الشرق وتقسم أن تبني أمجاد العروبة والاسلام على تلال من اللحم والجماجم.
لقد كانت أمام زعماء “منظمة التعاون الإسلامي” احتمالات عديدة لردات فعل مؤثرة تتخطى ما صرحوا به وأعلنوه، لكن السؤال كان ويبقى هل هم فعلًا قادرون على إقحام أنظمتهم في مثل تلك الرهانات والمجازفات؟ وهل يستطيع قادة “منظومة الحكم الإسلامي” المتنفذون في دولهم الخروج عن عباءة النظام “الشرقأوسطي” الجديد وهم من حاكوه ودفعوا أثمانه بأنهار من شرايين ولاجئين؟
ذاكرة الفلسطينيين يقظة، قد تكون مشوشة لكنها لم تشخ، وهي لا تبدأ بسقوط ابنها البار، عبد القادر الحسيني، ولا بقصاصة ورق صغيرة ألقاها في وجه التاريخ لتبقى شاهدة على عهر مقاومة العرب “للكيان الصهيوني المزعوم” وذلك حين خاطبهم، قبل عودته من الشام، ليروي تراب “القسطل” بدمائه وبالكرامة، قائلًا : “إني أحملكم المسؤولية بعد أن تركتم رجالي في أوج انتصاراتهم بدون عون أو سلاح”، ولن تنتهي، تلك الذاكرة، اليوم ونحن نشاهد ونسمع عن أحلاف الدمى بين بعض “الأشقاء العرب” و”الاخوة المسلمين” مع ترامب، “سيف الصحراء المغمود” ، ومع قادة تلك “القدس المزعومة”، عاصمة إسرائيل، كما وصفها بيان اسطنبول المذكور.
فكيف سيستوي ايمان من يتوجعون مع وعود من يتبجحون؟
كثيرون من أبناء الأمة لم يتأثروا بجديد أمريكا، وبعضهم قد عبر عن فرحته بإعلان ترامب، فاستفزازه، هكذا أفتى هؤلاء، وضع قضية القدس في صدارة الأحداث وأعاد لفلسطين لونها المنسي؛ هذا علاوة على أن الخطوة كشفت عورة “الدجال” الحقيقية وأحرجت أصدقاءه من الفلسطينيين والعرب والمسلمين، بينما أكد آخرون، بنبرة عزفت على مقام “بلفور”، بأنه تصريح صادر عمن لا يملك ومقدم لمن ليس له الحق، في حين تأهبت قلة، بفرح عظيم، لأننا أمسينا على أعتاب هزة جامحة ستطيح بالرؤساء والأمراء والعروش وستملأ الدنيا ضجيجًا وفؤوسًا ونعوشا.
كانت تلك عينة من ردود فعل “طبيعية” وليدة لحالتنا الراهنة، فواقع “الأمة” وقصورها الفاضح لا يتركان للعاقلين المتزنين هوامش للاستقراء السليم، وظروف الفلسطينيين، في جميع أماكن تواجدهم، لا تسمح بفرص لإصابة المحللين والمتكهنين، ولذلك لا يبقى، في ميادين السراب، سوى همهمات العاجزين وتمتمات الكهنة وصيحات تجار القضية وشطحات ثلل من المنجمين وبعض الهتافين والشطار المصابين بلازمة “الغضب المكنّب”، وهؤلاء ما توقفوا، منذ أعلنها ترامب حربًا “صحراوية” جديدة، من تفريغ “أقسام” فيسبوكاتهم الأوتوماتيكية وتصويبها على كل من همس أو عطس أو أومأ أو أشار أو اجتهد أو تحرك أو وعظ، وهم، من على كنباتهم، يملكون الحلول ويتحكمون في مقادير الثورات ويعرفون كيف يندلق، مع صهيل الفرس، غيم المسير وحليب المصير .
مائة عام من الأمل،
من الضرروي ألّا نضيع البوصلة في هذه الأيام العصيبة، فكثيرون من المزايدين والمنتقدين آثروا اغفال سياسة ترامب وجموحه وتناسوا ممارسات حكومات إسرائيل المتعاقبة وقمعها، واستعاضوا عن ذلك مستسهلين توجيه حرابهم إلى الجسد الفلسطيني وقياداته، فهم وإن كانوا ببعض ما قالوه محقين وصادقين، يخطئون التصويب، لأن الأولى في هذه المرحلة أن يكون الصوت في فلسطين واحدًا وإيقاعه واحدًا ومحطه واحدًا.
فنحن الذين نعيش في القدس نعرف أن تصريح ترامب، في الأوقات الحالية، لا يغير شيئًا على أرض الواقع، لأن إسرائيل لم تتوقف، منذ احتلالها للقدس الشرقية، عن محو جميع معالمها العربية وتهويدها بعمليات اسئصالية جراحية معقدة ودقيقة، وبعد تمكنها من خلق مدينة جديدة المعالم والجغرافيا، بدأت منذ سنوات بمحاولات لإبتلاع البشر، واستهدفت بمنهجية حكيمة وخبيثة صلابة المجتمع المقدسي وهويته الوطنية الواضحة فعكفت بشتى أساليب الترهيب والترغيب على تفكيك لحمته الجامعة وتشويهها بشكل مقلق وخطير.
لن يستخف عاقل بكل موقف صادق ساند الحق الفلسطيني في القدس وفي فلسطين وبمن عارض تصريح ترامب الخطير، لكننا نعرف أن صمود المقدسيين في أرضهم كان ولم يزل هو الضمانة الأهم لإفشال ما تسعى من أجله إسرائيل ولإبقاء القدس الشرقية كيانًا حقيقيًا وليست فكرة مزعومة كما يريدها البعض.
مع هذا فموقف القيادة الفلسطينية سيبقى مفتاح المستقبل وقفل الاستقلال وبوابة الدولة الآمنة، وكما قلنا نؤكد على ضرورة فتح طرقات جديدة مبتكرة وتبني خطاب مغاير وسبر إمكانيات تحالفات جديدة فاذا كانت أكثرية المسيحيين “الأفنجاليين” وراء تصريح ترامب فهنالك مئات ملايين المسيحيين وكنائسهم تعارضه وتدعم الحق الفلسطيني وعلى القيادة أن تعمل لتجدهم والتحالف معهم، وإذا كانت أكثرية كبيرة من اليهود الصهاينة مع تصريح ترامب سنجد يهودًا وصهاينة، على قلتهم، يعارضون تلك المواقف ويجب السعي لتجنيدهم.
القضية الفلسطينية تواجه في هذا العصر أكبر محنها وأخطرها ولن ننتظر مائة عام كي نشهد كيف أعقب ترامب جده بلفور، وكيف صار وعده حقيقة كوعده، وكيف بقيت بيانات الأشقاء العرب والمسلمين كما كانت سيوفًا من ورق مزعومة، فخوفي من بيان اسطنبول وانشائه الشبيه ببيانات القمم النازحة حين كان الملوك والرؤساء يهددون بالكذب إسرائيل المزعومة وبالخفاء يحالفونها.
قال النجاب: “النصر والظفر في النهاية للشعوب، وفي العمل بأساليب علمية وعقلانية”.. والقول كما قال النجاب.