ريفلن مرة أخرى، خذوا النصيحة من أعدائكم!

بولس

 

قد يكون خطاب رئوبين ريفلين، رئيس دولة إسرائيل، الذي ألقاه في افتتاح الدورة الشتوية “للكنيست” يوم الاثنين الفائت، واحدًا من أهم الخطابات السياسية في حياة هذه المؤسسة وسيبقى، من دون شك، علامة فارقة في تاريخ النظام السياسي الإسرائيلي وحياة الشعب اليهودي في العصر الحديث.

من الضروري مراجعة أقواله على خلفية صخب سكارى القوة وأصداء قهقهاتهم التي تملأ فضاءات الدولة وتحجب النوم عن عيون كثيرين من نخبها السياسية والاجتماعية الذين بدأوا يستشعرن حلكة الأيام المقبلة واقتراب نهاية عصر دولتهم ” الآمنة” ليبدأ بعده عصر مملكة  “يهودا الجديدة”.

لم يعد سرًا بأن العلاقات بين ريفلين ونتنياهو كانت شبه مقطوعة منذ أشهر، وبعض المقربين من ديوان رئيس الدولة أفشوا مرارًا حقيقة غضبه وانتقاداته الشديدة لسياسات نتنياهو ومن في محيطه، وإن بدا واضحًا أن سهامه من على منصة الكنيست موجهة صوب رئيس الحكومة، نجده في الأساس قلقًا مما هو أكبر وأخطر، فهو يخشى على مصير الحكم في الدولة ومنه على مصير الدولة نفسها، وذلك حين نسمعه يعلن أنه “يشهد في هذه الأيام هبوب رياح ثورة أو انقلاب ثان .. ويرى هذه المرة كيف يصير حكم الأكثرية حكمًا مطلقًا..”.

لقد شكى ريفلين سعي اليمين الحاكم إلى تسييس ممنهج لجميع منظومات الحكم في الدولة وحذر من محاولات هذه الجهات تقويض المفاهيم المؤسِسة التي كانت سائدة ونسف قواعد الترابط والتباعد بين جميع السلطات بنهج يسوغ لهم الانقضاض على كل إطار ومنصة ومنبر وزاوية وحصن في الدولة، ف “الصحافة والاعلام سياسيان، وكل المؤسسات الديمقراطية، كلها، من الموظف الصغير وحتى مكتب مراقب الدولة هي مؤسسات سياسية، المحكمة العليا سياسية، قوات الأمن سياسية ، الجيش سياسي، كل جهات الأرض صارت في عرف الأكثرية المطلقة سياسية.. تريد هذه الثورة أخيرًا تمزيق أقنعة الرياء المتخيلة من على أوجه “حراس التخوم”.. في هذه الثورة سيكون الحاكم هو نفسه الضحية، “سوف نريكم ماذا سيكون” هذا هو صوت هذه الثورة .. لقد انتهت حقبة رفعة الدولة/ هالة المؤسسة،  فليأت بعدها الطوفان”.

بهذه الكلمات الحازمة تكلم وحذر سليل “جابوتينسكي” ومن كان شريك “بيغن” تاريخيًا، وهو يرى بعينيه الثاقبتين اقتراب الطوفان والعاصفة ويؤكد أمام العالم والشعب وممثليه ومن لم تصدق أذناه قعقعة الحديد، أنه لا يصح إلا أن يصف “ما تشاهده عيناي.. وعلى مايبدو إنها محاولة مستمرة لاضعاف مكانة حراس تخوم الديمقراطية الإسرائيلية”. قالها بكلمات مدويات ناثرًا القلق في بطون الغيب الأبيض.

في الواقع لم يبق أمام اليمين المهووس “بقرات مقدسة” ولا حتى ما جرى تحييده عرفًا خلال احتدام الصراعات الكلاسيكية بين التيارات السياسية التقليدية منذ بدايات الدولة وحتى إطلاق شعائر الانقلاب الأخير الذي يصف معالمه ريفلين باقتضاب وبصرامة؛ لقد نوهنا مرارًا منذ سنوات على أن هذه التغييرات متفاعلة بوتائر عالية وقد نجحت باختراق منظومات الادارة على جميع مستوياتها، فبعد اطباق تيارات اليمين على رقبة الكنيست وتأمينهم لأكثرية مطلقة فيها بدأوا يتغلغلون في جميع مفاصل الوزارات والمؤسسات الهامة ثم أتبعوا ذلك بأدخال “رجالاتهم” إلى السلطة القضائية وما يتفرع عنها، حتى  تفرغوا موخرًا إلى معركتهم الحاسمة فصبوا جام غضبهم وفولاذ قبضاتهم على صدر المحكمة العليا، وهي آخر معاقل النظام القديم، التي ما طفقت تدافع عن وجودها بصلابة أحيانًا وبترنح أحيانًا أخرى.

لم يسلم الجيش من هجماتهم وذلك كما تجلى، مثلًا، في محكمة الجندي القاتل “أزاريا” حين وجد قائد الأركان نفسه وسط العاصفة ومثله كان نصيب القضاة والنائب العسكري وكل من كان شريكًا في تلك المحكمة “المسرحية”. ولن ننسى أن رئيس “الشاباك” نفسه كان عرضة قبل مدة قصيرة لهجمات نفس القوى الشريكة بتلك “الثورة” التي تحدث عنها ريفلن ووصفها أيضًا آخرون وحذروا من عواقبها الوخيمة التي ستحل على جميع من لن يكون في صف أولئك “المنقلبين” وفي طليعة ضحاياهم، بطبيعة الحال، سنكون نحن المواطنين العرب في إسرائيل.

بتزامن من شأنه أن يعزز حدة المشهد قامت قبل يومين مجلة “المحامي” ( عدد رقم ٣٧) ، والتي تصدرها نقابة المحامين في إسرائيل بنشر مقابلة مطولة مع رئيسة المحكمة العليا “مريام نائور” وذلك بمناسبة بلوغها سن التقاعد، بعد ٣٨ عامًا من عملها في سلك القضاء الذي بدأت فيه قاضية في محكمة الصلح وتدرجت حتى رأس الهرم مستبدلة أحد رموز وأعلام هذه المؤسسة  القاضي أهرون باراك.

لقد اشتهرت مريام نائور في السنوات الأخيرة بسبب مناكفات وزيرة العدل “أيليت شاكيد” لها وتحرشاتها الدائمة في عمل الجهاز القضائي وإعلانها عن نيتها السافرة بزرع قضاة “محافظين” في جهاز القضاء خاصة في المحكمة العليا وذلك بإشارة مشفرة منها عن رغبتها بادخال قضاة يمينيين يعززون تغيير طابع المحكمة الليبرالي الحالي، برأيها، وتحويلها إلى محكمة تؤدي وظائف اليمين الأيديولوجي .

في واحدة من أشهر هذه “المعارك” بينهما تعمدت نائور كشف مضمون رسالة بعثتها إلى شاكيد احتجت فيها على أسلوب عمل الوزيرة، فوصفت ما انتابها في احدى جلسات العمل، بمجاز مقلق، مصورة أحساسها بوجود مسدس وضعته الوزيرة بينهما على الطاولة، في إيحاء لأجواء الترهيب المتعمدة.

لم تتطرق القاضية نائور في مقابلتها الطويلة إلى شؤون ذات طابع سياسي واضح وذلك بسبب حرصها، كقاضية، على إبقاء الحياد في المسائل غير القضائية، لكنها عادت وأكدت في تصريح يحمل كثيرًا من المؤشرات والمعاني على أن “المحكمة العليا كانت قوية وهي الآن قوية وستبقى محكمة قوية ولن نسمح بتهديدها وإخافتها”؛ فهي على ما يبدو تعرف إنه إذا لم تحصل “العجائب” فسيكون مصير هذه المؤسسة مثل باقي مؤسسات الدولة، لأن سادة النظام الجديد لن يدعوها تعمل وفق رؤى وقيم لا تخدم ما يخططون إحرازه وبناءه.

قد نسمع منها في المستقبل القريب مواقف أكثر صراحة ومباشرة، كما سمعنا ممن سبقوها، فهي تترك حصنها وأمامها تنهار أواصر العمل المتبعة منذ عقود في وزارة العدل، حيث تقوم الوزيرة ومساعدوها باستبدالها بنظم وأسس جديدة تخدم أجنداتهم السياسية بشكل مكشوف وبدون تستر أو تردد أو خجل، وينافسهم، على جبهات أخرى، في مسيرة هدم “الحصون” القائمة، نتنياهو ورجالاته الذين لا يضيعون فرصة إلا ويتهجمون فيها على رموز الدولة والقانون، فتارة يناكفون القضاة المعارضين وحينًا يلوحون لقائد الشرطة العام  “بالبطاقة الحمراء”، وقبلهما ينهالون على مراقب الدولة وغيره، فالقائمة طويلة .

من الواضح أننا كعرب مواطنين في إسرائيل يجب أن نكون أول المعنيين بما يجري من تغيرات سياسية جذرية، لكننا في الواقع نقف على هامش هذه الأحداث؛ فالجماهير لا تبدي إهتماما جديًا بما يحصل، بينما لا تولي معظم الأحزاب والحركات السياسية العربية التفاتة ذات قيمة ووزن لتلك التداعيات، بل قد نجد كثيرين يراقبون “الانهيارات” بطمأنينة الواثق من حتمية “هزيمتهم”، وراحة بال مسكرة، ف”بطيخ يكسر بعضه” و”إن لم تخرب لن تعمر” و”هذه نهاية دولة اليهود” وما إلى ذلك من أماني لا يعرف أصحابها أنها لن تختمر على الأرض، إذا اختمرت، إلا على أنقاض الجماهير العربية التي سيكون حَبّها أول ما يوضع في طاحونة الخراب المشتهاة لديهم!

بعد الجريمة في قرية دوما وحرق عائلة الدوابشة، قبل عامين، أطلق الرئيس ريفلن موقفًا واضحًا حازمًا صريحًا أدان فيه الجريمة بدون أن يرفق الادانة بأي تبريرات ولا بتحفظ من أي نوع كان كما فعل غيره من الساسة اليهود، وقد جاء موقفه، في الواقع، بعد مشاركته كرئيس دولة في إحياء ذكرى مذبحة كفرقاسم و تكلم فيها بلغة جديدة بحق العرب مواطني إسرائيل فاستفز بخطابه قوى اليمين التي بدأت تهاجمه بدون هوادة وقاموا بتعميم صوره وهو يلبس العقال والكوفية مثلما فعلوا بعد خطابه على اثر جريمة دوما ووصفوه بالخائن ونصحوه بالهجرة الى غزة وتوعدوه بمصير يشبه مصير رابين وشارون.

كثيرون قالوا في حينه أنه وأشباهه يفعلون ذلك تبييضًا لدولتهم ولصالحها، فلا يجب أن نصدقهم، وآخرون أكدوا أنه وأمثاله صهاينة لن يخلعوا جلدوهم، فلا يتوجب الاقتراب منهم، والبعض لا يهمه ما يفعله اليمين ولا من يعارضه من اليهود فهم  يؤمنون أن خراب الدولة سيسبق ضرب أعناق مواطنيها العرب، فلنستبشر لأننا إلى النصر أقرب.

مر عامان وفي مطارحنا علا ويعلو صوت الرصاص أكثر وأكثر وفي ساحاتنا تلهو العقارب في عرى السراب. حروب “المعصومين”  ضد “الشبيحة” و”المستشبحين” و’الاشباح”  و”المستعصمين” و”العصاة” مشتعلة والخراب حولنا “يزدهر” والقيادات تتملق أو تستقزم أو تنتحب، أو تصمت، و”الثورة” زاحفة نحو حطبها المعهود.

في حينه صرخت، “معًا أو تحت أعواد المشانق” واليوم ما زلنا نصغي لأعدائنا ونساويهم بأعدائهم، فمتى سنفهم، قبل الصخر والحطب، أننا مقدمون على نار جديدة، وحنانينا أذا سمعنا حسيسها قبلما يحرقنا هجيجها؟

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .