بقلم : الدكتور منير توما / كفرياسيف
قام الأستاذ الدكتور لطفي منصور بدراسة وضبط وتحقيق لكتاب الصِبا والشّمول ومرور الصبا والمشمول ” للأديب الشاعر عبد الحيّ بن علي بن محمد الطالوي المعروف بالخال ابن الطويل الدمشقي , بالإضافة الى تحقيقه لكتاب ” مختارات ابن الطويل الدمشقي” المكَمِّل والمرافق للكتاب الأول آنف الذكر .
بادئ ذي بدء , أريد أن أتوجه بشكري الجزيل الى البروفيسور لطفي منصور على إهدائه لي نسخة من هذا الكتاب بجزئيه المذكورين , مقدِّماً الثناء والإطراء له على هذا الجهد المضني الذي بذله في إخراج هذا التحقيق للنور ليستفيد منه الطلبة والمهتمون في هذا المجال الأدبي الواسع .
يقدّم محقِّق الكتاب في البداية تعريفاً بمؤلف كتاب ” سرور الصِبا والشّمول” بنسبهِ وحياته وشعره وصلاته من شعراء وحكام ومتصوفين وغيرهم , مبيّناً لنا أنَّ ابن الطويل الدمشقي قد رتَّب كتابه هذا على عشرة أبواب , جمع فيها كل نادرة مُستَحسَنة وحكاية لطيفة , ومطارحة رشيقة , وأشعار رائقة رقيقة كما أورد المحقق في مقدمة التحقيق .
إنَّ كلمة ” الشمول ” في عنوان الكتاب وفقاً لما جاء على لسان المحقّق ¸هي اسم من أسماء الخمر , سميت بذلك لأنها تشمل القوم بريحها , وقيل : هي الرقيقة الصافية كرقّة ريح الشمال . فالقسم الأول من التسمية ينطوي على الفأل والسرور , لتوفر الريح الناعمة مع الخمر والشراب . أما القسم الثاني من التسمية أي الصِبا فهو جيل الشباب , بل هو أوله وعنفوانه ومروره أي زواله وانتهاؤه , أما كلمة ” المشمول ” فلها معانٍ متعددة . فالمشمول الخمر أيضاً , سميت بذلك لأن ريح الشمال شمَلَتها فبردت وطابت , والرجل المشمول : هو المرضي قي أخلاقه لطيبها , أخذ من الماء التي هبّت به الشمال فَبَرَدته .
ويؤكد البروفيسور منصور أنَّ هذا الكتاب هو من عمل ابن الطويل دون أدنى شك . فابن الطويل قد جمع مادة كتابه هذا جمعاً , ولم يدَّع ِ أنه وضعها من تأليفه , وكان هدفه ُ من كتابهِ فهو هدية لأصحابه ِ الذين يأنس بهم ويأنسون به ِ , أو لمن يبغي مصاحبة ومجالسة الإخوان حيثما وُجدوا .
ويقول محقق الكتاب أنَّ أبواب الكتاب من صُنع ابن الطويل نفسه , فقد رتبها على عشرة أبواب لتسهيل مطالعتها على الطلاب . ويذكر ابن الطويل في مقدمته أبواب كتابه وهي : الكرم , والحِكَم , والحِلْم , والفصاحة , والوقاحة , والمغفّلن َ , والظرفاء , والعشق , والشعر , وتراجم الشعراء .
ويخبرنا البروفيسور منصور كذلك أنَّ باب الشعر وهو التاسع يحتل مساحة كبيرة من الكتاب . ويذكر محقق الكتاب أنَّ ابن الطويل يتحدث عن كرماء هم أناس مشهورون , منهم الصحابة , والخلفاء والأمراء والحكّام , والقوّاد والولاة , والبرامكة , والأغنياء من الناس , وما قيل بهم من شعر المديح والثناء .
ويفرد ابن الطويل فصلاً في موضوع الشُّح والبُخْل , وفي أخبار البخلاء وما جاء عنهم . وهناك فصل لموضوع اصطناع المعروف وإغاثة الملهوف بادئاً فيه ِ بذكر الأحاديث النبوية التي تحُث على اصطناع المعروف .
وهناك فصل في الحِكَم , وهذه الحِكَم ليست مقصورة على ما قالته العرب , ومنها كثير نُسبت الى أمم أخرى , كَحِكم الفرس , وحِكَم من التوراة , وحكم لقمان الحكيم , وهذه الحكم تحمل تجربة الشعوب . ويورد محقّق الكتاب بيتين من شعر الحكمة الوارد في الكتاب لفائدتهما من حيث أن البشر في قلوب الناس يؤدي الى المسرّة , وأنَّ البُخل يعقبه الضرر , وأنَّ الجود يحفظ العِرض كما يظهر من هذه المعاني في البيتين التاليين والمشار اليهما هنا :
أخو البشر محمودٌ على كلِّ حالة ٍ
ولنْ يعدمَ البغضاء َ من كان عابسا
ويُسرعُ بُخل ُ المرءِ في هتْكِ عِرْضِهِ
ولم أرَ مثل َ الجود ِ للعِرْضِ حارسا
وفي أحد الفصول يأتي ابن الطويل الى الوصايا الحسنة , والمواعظ المستحسنة كإيتاء ذي القربى , ونهيهم عن الفحشاء والمنكر والبغي بإيراده الآية تسعين من سورة النحل .
ويسترسل البروفيسور لطفي منصور بإخبارنا أننا نجد هناك فصلاً يتضمن أخباراً رائقة عن الزّهاد والمتصوفين المعتدلين , أمثال الجُنَيْد , ومحيي الدين بن عربي , وعبد الوهاب الشعراني , ونجم الدين الغزّي وغيرهم , ممن آثروا حياة الكفاف على حياة البذخ والترف . ومن الخلفاء الذين ذكروا زُهدهم الخليفة عمر بن عبد العزيز , وأورد خطبته ووصيته لأولاده من بعدهِ .
ويضيف البروفيسور منصور أن ابن الطويل يذكر رأي المعتزلة في الكرامات , وخاصة خوارق الأولياء . ومن فصول الكتاب هناك فصل خصصه ابن الطويل للحلم والعفو والصفح والاحتمال . وفيه يستشهد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تدعو الى التروي , والعفو عن زلّات الآخرين , ويركّز على الآية القرآنية : ” والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس ” . ويسوق ابن الطويل نماذج كثيرة من حلم الأنبياء ,
وحكايات عمن اشتهروا بالحلم من العرب , وفي مقدمتهم الخليفة معاوية , والأحنف بن قيس المنقري , وقيس بن عاصم المنقري .
ويورد محقق الكتاب ما جاء في موضوع أحد الفصول حول صفات خلقية قبيحة ومذمومة وهي : الكِبَر والعجب والخيلاء حيث يذكر المحقق أنّ ابن الطويل قد أحسن الحديث عن هذه الصفات المذمومة واصفاً ذلك بالدروس والمواعظ في الأخلاق والسلوك لعصرنا هذا حيث يأتي بفصل ٍ آخر يتناول فيه ِ ابن الطويل فضل التواضع باعتباره خُلُقاً وصفات ٍ في النفس تناقض صفات الكِبَر والعُجْب والخيلاء .
ويتبيّن لنا محقق الكتاب أنَّ الباب الرابع في الكتاب مُكَرَّس للفصاحة , وفي رأيه أنَّه من أجمل أبواب الكتاب , وفيه خمسة فصول أولها فصل الفصاحة التي يعرفها ابن الطويل لغوياً بأنها خلو الكلام من التعقيد ليؤكد المحقق بأنَّ ذلك يُعَدُّ تعريفاً صحيحاً لأن العرب أضافت فقالت : البلاغة في المعنى , والفصاحة في اللفظ .
ولا يفوت ابن الطويل من الإتيان بفصل ٍ موضوعه الحُمق وأخبار الحمقى والمغفلين حيث يرى البروفيسور منصور أنَّ ابن الطويل قد أبدع في اختيار حكاياتهم ونوادرهم . ويطرق أيضاً في فصل ٍ آخر موضوع الظلم وعاقبته وأخبار الظَلَمة والمظلومين . وهناك فصول أخرى متعدّدة المواضيع كالقبح والدمامة , والثقلاء مضمّناً ذلك شعراً هازلاً مضحكاً مثيراً . كذلك يتحدث عن الفضولية , وأخبار الفضوليين من الحجّامين والحلّاقين , حتى القضاة وغيرهم , ممن يدسّون أنوفهم فيما لا يعنيهم .
ويشير الأستاذ الدكتور لطفي منصور الى أنَّ الباب السادس من الكتاب يحكي أخبار المغفلين , وفيه أخبار ونوادر مضحكة جداً للترفيه الغرض منها الفكاهة والدعابة لسرور النفس , وتشمل نوادر الفقهاء والقرّاء والنُحاة والقضاة والمعلمين بكثيرٍ من السخرية والهزل المضحك .
والفصول اللاحقة تتناول المجون وأخبار الغلمان , وأخبار التطفل والطفيليين الذين أطال َ ابن الطويل في ذكر حكاياتهم ونوادرهم وقصصهم العجيبة . ويُتبِع ذلك بحديثه ِ عن موضوع الطمع , وفيه بعض أخبار أشعب ونوادره .
ويحدثنا محقق الكتاب عن ذوق ابن الطويل الرفيع في انتقاء مواده لا سيما في الباب السابع من الكتاب حيث يشمل تسعة فصول يصفها المحقّق بأنها من أرق أنواع الأدب , لأن موضوعه في اللطائف والظرف . فقد بدأ بلطائف الصحابة والتابعين , كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي . وما قالوه من رقيق الكلام المهذّب . ثم يُتبِع ذلك بلطائف الملوك المتقدمين كالإسكندر وأنو شروان وغيرهما , ويختتم بلطائف ملوك الإسلام , مُدخلاً في هذا الباب أيضاً الشعر الرائق المبدع .
ويخبرنا البروفيسور منصور أنَّ ابن الطويل لم ينسَ ذكر لطائف الوزراء , والكُبراء , والبُلغاء , والعلماء , والفقهاء , والقضاه , والأطباء , والفلاسفة , والظرفاء , من كل ّ فن وطبقة , فكان منصفاً لهم جميعاً .
وتطرّق ابن الطويل بإسهاب وتفصيل في الباب الثامن الى موضوع الحب والعشق , وأخبار العشّاق من العذريين وغيرهم , ومن مات بالعشق ولم ينَل مناه . وكذلك تحدّث عن أخبار مَن عَشِقَ الغلمان , ومن أدّى به ِ العشق الى الموت أو الى قتل عشيقه ِ .
ويخصّص البروفيسور لطفي منصور مجلّداً ضخماً آخر بجانب المجلد الضخم الأول الذي تناولناه بالدراسة بحيث شكّل المجلّد الثاني الجزء الخاص بمختارات ابن الطويل الدمشقي الشعرية الذي يعتبر بمثابة الباب التاسع من كتاب ” سرور الصبا والشمول ” , هذا الباب الذي يقول عنه البروفيسور منصور بأنه يشتمل على آلاف عدة من الأبيات الشعرية ناهزت إثني عشر ألف بيت من الشعر , وعلى ألف وخمسمائة فقرة شعرية .
يذكر الأستاذ الدكتور لطفي منصور في استهلاله ِ لمختارات ابن الطويل الشعرية أن شعر الغزل والنسيب تغلب على مختارات ابن الطويل , مردفاً أنه لو أضفنا ما قيل في الغراميات , ورقة البشرة , ووصف العيون , والخدود , والخال , والثغور , والوداع , والفراق , والدمع لوجدنا أنها تغطي أكثر من نصف هذه المختارات . وبجانب الغزل اختار ابن الطويل اشعاراً من الخمريات والحماسة , والهجاء , وفي الوفاء , والود , وحفظ العهد , وما قيل في الورود والنرجس , ونوح الحمام , وما قيل في السقاة والندماء , وحنين الإبل , والاقتباس , وسائر اغراض الشعر المعروفة . ويلاحظ محقّق كتاب مختارات ابن الطويل الشعرية أنَّ ابن الطويل قد تجنّب الاختيار من شعر المدائح والرثاء , فكأنه كان ينفر من مبالغات المدّاحين في وصف الممدوح أو رثائه على حد تعبير المحقّق .وينوه البروفيسور منصور في تحقيقه للكتاب أنّ هناك شعراء اختار ابن الطويل كثيراً من شعرهم , وفي مقدمتهم الشريف الرضي , وكذلك اختار كثيراً من الشعراء المعاصرين له , أو القريبين من عصره , علاوةً على ما أبداه ابن الطويل من دراية عميقة وشاملة في الشعر الأندلسي والموشحات منه , واختار كثيراً منه .
ويخلص محقّق الكتاب بجزئيه الى أنَّ ابن الطويل قد استطاع أن يجعل كتابه هذا خزانة علوم في اللغة والأدب والشعر والحكايات والنوادر والأخبار , وأن يجمع لنا هذا الكم الكبير من الأدب المنثور الخالد , لتكون هذه المادة الأدبية الشعرية زاداً فكرياً يغذّي الأرواح والعقول وذلك من خلال ما جمعه ابن الطويل من بطون أمهات الكتب بكونه جامعاً لمواد من الأدب المنثور والشعر المختار .
وختاماً , لا يسعنا إلّا أن نشدّ على أيدي الأستاذ الدكتور لطفي منصور على هذا العمل الأدبي القيّم ثقافياً وبحثياً الذي ما من شك أنّه قد أخذ من وقته وطاقته وجهده الشيئ الكثير , فله خالص الاحترام والتقدير , متمنين له موفور الصحة والعمر المديد مع خالص التحيات وبالمزيد من التوفيق والعطاء .