وظيفة الخيال وفعله على تكوين العمل الشعري عند نادرة شحادة بقلم الدكتور منير توما ـ كفرياسيف 

لقد اتّخذ الإنسان الأدب منذُ وُجدَ ليعبِّر بهِ عن تجربته ِ الشعورية , وهي تجربة تتجمّع فيها أحاسيس وصور لا تُحصى , بعضها يتّصل بماضيهِ , وبعضها يتّصل بحاضره ِ , وبعضها يتّصل بظروفه ِ . فكلّ ما مرَّ به من أحداث يختزنه في خلايا ذاكرته حتى يعيده إلينا في تجربتهِ الأدبية . وهكذا فإن الشاعرة نادرة شحادة تحسّ هذه الأحداث إحساساً في صميمها لا يلبث أن يندفع في شكل أدبي شعري , وذلك من خلال مجموعتها الشعرية الأولى باكورة عملها الأدبي الذي يحمل عنوان
” أحلام عابرة ” .
إن هذه المجموعة الشعرية التي نحن بصددها هنا هي ثمرة جهد في الأداء وجهد أوسع في تنظيم الأحاسيس والمشاعر والصور , جهد لا بدّ له من قدرة ٍ في استدعاء الدوافع والعواطف والصور الماضية والحاضرة . إن هذه القدرة لا تصدر إلّا عن خيال مبدعٍ لشاعرتنا الذي يجمع شوارد الأفكار , كي تصوغها شاعرتنا هنا في إطارٍ متعدّد الجوانب , فهناك نلمس في شعر هذه المجموعة الشعرية معانٍ ودلالات رمزية وسوريالية يكتنف العديد من القصائد إيحاءات رومانسية وصور وجدانية فيها رؤى حداثية تتجاوز أحياناً كثيرة العناصر التقليدية للمضامين الشعرية المألوفة والشائعة من حيث الأسلوب وطرح المعاني , مما يدل على مهارة شاعرية مبشّرة بصعود شاعرة واعدة في ميدان الإبداع الأدبي . ومما يؤكد ذلك توظيف نادرة شحادة الخيال بحيث يمنحها القدرة على تكوين صور ذهنية لأشياء غابت عن متناول الحس ولا تنحصر فاعلية هذه القدرة في مجرد الإستعادة الآلية لمدركات حسيّة ترتبط بزمانٍ أو مكان معين , بل تمتد فاعليتها الى ما هو أبعد وأرحب من ذلك , فتعيد تشكيل المدركات , وتبني منها عالماً متميزاً في جدّته ِ وتركيبه ِ , وتجمع بين الأشياء المتنافرة والعناصر المتباعدة في علاقات فريدة , تذيب التنافر والتباعد , وتخلق الإنسجام والوحدة , وفي السطور التالية من قصيدة ” للورد رحيقٌ آخر ” نصل الى حقيقة هذه الرؤية لفظاً ومعنىً :
أنت أريجُ النار ِ
في هـَدأَةِ  الليل ِ
فاحرقي ما شئتِ مني
وصلّي صلاةَ العشقِ في روحي
واتركي  ظليَ العابر ْ
في شمسكِ يتعَطّرْ …
أدْرَكـْـتُ أنكِ شَرقـيّةُ ُ الأوطان ْ
بَحْرِيّةُ ُ الألوانْ
تسكنينَ في الريحِ طوعاً
القي سلاماً مَرمرياً
من صهيلكِ البَحريِّ
فانت أنشودةُ المطرِ المُحلّى
بطعمِ الشهدِ  والسُكّر .
وفي هذه السطور الشعرية نلمس الدور البارز للخيال بمدلوله الأجنبي ( imagination  ) وفي تعاريف الغربيين لكلمة الخيال . وبذلك نرى أنَّ الخيال هنا وفي سيكولوجية النص الأدبي يكون قد جمعَ صفتي التخيّل والتخييل : صفة التخيّل التي تدلّ على عملية التأليف بين الصور وإعادة تشكيلها , وصفة التخييل التي تدل على أثر الصور الأدبية في نفس المتلقي .
ومما يسترعي الانتباه أنّ أسلوب نادرة شحادة في بعض قصائد مجموعتها الشعرية هذه هو أسلوب صافٍ رقراق كنفسها نقرأه برغبة ٍ مشرقة وقلوب يغمرها الحب والأمل . هو أسلوب البساطة والوضوح الذي يحمل أبعد معاني الحياة في أعماقه ِ بحيث يزوّد هذا الشعر بعناصر الحيوية والتأثير , لكون هذا الشعر نابعاً من قلب شاعرتنا , ولعلّ ابرز ما يقرّب شعر مثل هذه القصائد الى النفوس نواح ٍ ثلاثة : النزعة الإنسانية , والدعوة الى محبة الحياة , واستلهام الجمال في الحياة والطبيعة , وهنا نسوق عدداً من أبيات قصيدة ” تجليات روح ” التي تمثّل هذه ِ الإنطباعات :
والقلبُ يحيا حين يعشقْ
على نبضاتهِ  نحيا  ونبقى

نقاءُ الروحِ لا يُعادلْهُ  نقاءٌ
وإن لامس َالعشاقَ يظل أنقى

عَشِقنْا والعشقُ  للقلبِ  دواءٌ
ودونَ الحُبِّ ..  القلب يشقى

كم اشتقنا واعتلًتْ جوارحُنا
فزادَ القلبُ فوق الشوقِ شَوقا

سَكبْتُ الحُبَّ من شعري شراباً
دواءَ جُرحٍ  يشقُّ  القلبَ  شقّا

جميلُ الرّوحِ  لا  تفنى  مفاتنُه ُ
على عرشِ الجمالِ .. أبداً سيبقى …
وإذا تأملنا بعض قصائد مجموعة شاعرتنا , نجد أنها تعتمد فيها الأسلوب الرمزي تارةً , والنزعة السوريالية تارةً أخرى , وإنْ جمعت بينهما في الغالب , وبالتالي فقد تضاءلت عندها النزعة الرومانسية التي راودتها في عددٍ من قصائد المجموعة , وراحت تعتمد على رمزية الألفاظ والتعبيرات المجازية الاستعارية , فرصفتها فسيفساءات تظهر من خلالها معاني شاعرتنا البعيدة في لوحات ٍ وأطيافٍ تتطلّب التحليل الفكري وخوض غمار الألفاظ المحدودة المعنى التي تصبح ذات دلالة غير محدودة , للانتقال الى الإحاطة بالصور الجمالية بطريقة شمولية يطغى عليها العنصر الرمزي برؤى سوريالية تضاف الى الطاقة التعبيرية التي تتَّشح بالجمال فكراً وعاطفةً ومرمىً كما تصوّره السطور التالية من قصيدة ” وللحكاية بقية ” :

الفصولُ عالقةٌ بطرفِ غيمة ْ
والسحابُ ثقيل ْ
الخريفُ شهيدُ الرياح ِ
الشتاءُ في آخرِ الدربِ يسعُل ْ
الصيفُ في يدِ الشمسِ طفلٌ
والربيع ُعلى الشوارعِ يغفو كالقتيلْ …
************

في الريح بحرٌ من جفافْ
يموجُ في ليلٍ طويل ْ
أمواجهُ خمرٌ وجمرٌ
على دربِ الخيولِ يسيل ْ

للغيمِ بيتٌ في الجبالْ
نوافذٌ   للطيور ْ
وبابٌ هزيل ْ
فوقَ النهارِ يلهو كالحمام ْ
وتحتَ الليلِ يرقصُ للهديلْ …

************
إننا نلمح في هذه القصيدة أنَّ شعر نادرة شحادة قد بلغ من النضوج شأواً لافتاً , وأنّ وجدانيته قد انطوت على تفكير ٍ عميق حافل ٍ بالصور التي أصبحت عندها أكثر تركيزاً , والعبارة الشعرية أكثر انضباطاً .
وخلاصة القول إنّ شاعرتنا نادرة شحادة قد أجادت في هذه المجموعة الشعرية بالتقاط المعاني وابتكار الصور من خلال شعرٍ تحلّى بجودةٍ ملموسة لأنَّ مثل هذا الشعر لا يكبح الخيال المبدع الخلّاق الذي يشكّل الرؤى البعيدة في اشكال محدّدة تتّسم بالتوهج الرقيق اللطيف , والتعبير الشعري الحافل باللين وصفاء الوجدان ممّا يوحي أنَّ الخيال والبصيرة لدى شاعرتنا لا ينفصلان , وإنّما يشكّلان وحدة واحدة في إبداعها الشعري , فلها منّا أجمل التهاني وأطيب التمنيات بدوام التوفيق , والمزيد من الإبداع والعطاء .

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .